الفصل الحادي عشر (سر الهالة الزرقاء)

1989 Words
وبعد سنتين من بداية الفتح، سنة استغرقها طارق بن زياد ليصل لطليطلة، وسنة وصل فيها موسي بن نصير إلي طارق بن زياد، فاتحد الجيشان في جيش واحد ليكملا فتح الشمال، ففتحوا مناطق عدة منها برشلونة وسرقسطة، وأرسل موسي بن نصير سرية إلي جبال البرينيه التي تفصل الأندلس عن فرنسا فوصلت السرية لمدينة أربونة علي ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهذا الفعل كان الأساس لبناء نواة لمقاطعة إسلامية. وكانت علاقة القائدان العظيمان علاقة محبة وود واحترام وتقدير، فحتى وإن عنف موسي بن نصير طارق بن زياد، لكن ذلك الموقف مر مرور الكرام، وكان سببه عصيان القائد وكان رد فعل القائد رد فعل طبيعي في حجمه دون إفراط أو تفريط فيه بدليل إكمالهما للفتوحات معًا، ومما يدل علي تلك العلاقة السامية بين هذين القائدان اللذان لمعا في سماء الأساطير فلم يراهم عميان البصيرة وتغافل عن ذكرهم أصحاب الأهواء، أن موسي بن نصير لما سمع بانتصار طارق عبر الجزيرة ولحق به فقال له؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك علي بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا. فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلي البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي. كان كلام موسي بن نصير كأنه تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لما أعجب به من عمل طارق وجهاده، بل تنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس "هنيئا مريئا"، وكان يدل كلامه علي أنه لم يأتي لتلك الأرض لأجل إمارة أو ملك، بل جاء من أجل هدف أسمي وأعظم وحلم حلم به لسنوات لكني لم أعلم ما هو! ولم أتمالك أن أ**ر هيبته لأسأله، وكان رد طارق بن زياد رد بنفس الحكمة والعظمة بأنه لم يكن ممن يُهمه الولاية والإمارة، بل شغله حب الجهاد وما رضي بغيره ولو كان المنصب علي الجزيرة الغنية، كان هذا هو ما يشتركان فيه حب خالص للجهاد يفوق كل شيء فيصبح أي أمر يقارن به ضئيلاً لا يري حتى وإن كان الملك. وهكذا فتحت بلاد الأندلس مدينة وراء مدينة، حتى فتحت بالكامل عدا مدينة واحدة تسمي منطقة الصخرة، وتقع علي المحيط الأطلنطي، ففتحت بلاد الأندلس في ثلاث سنوات ونصف فقط لتدلل بوضوح علي قول الله تعالي "وإن ينصركم الله فلا غالب لكم". نصر وفتح مبين أنار بقعة مظلمة ليكون ذلك الفتح أحد معجزات التاريخ يذكر فيها نبوغ المسلمين الحربي. ولو لم أري بأم عيني تلك البراهين الثابتة والواقعية علي تمام ذلك الفتح في تلك المدة لما صدقته مثل من لم يصدقوه؛ لأنه أمر تفوق علي عقولهم، فشبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل علي أحد فتحه أو إخضاعه، ولا أصدق أن من قام بهذا الفتح كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش المنظمة ولا المعاهدات، كانت بلاد الأندلس فتحت عدا صخرة بلاي وحين عزم موسي بن نصير علي أن يتم فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلي نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقعه. وجاءت رسالة كالصاعقة اخترقت الأفئدة لم أكن لأصدقها لولا ما حدث، لقد أرسل الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين رسالة من دمشق تأمر القائدان موسي بن نصير وطارق بن زياد بإيقاف الفتح والعودة، وكان ذلك سببًا لحزن الجميع وليس موسي بن نصير فقط ،كان يظهر عليه الأسف الشديد ولولا استجابته للأمر وعودته لدمشق بصحبة طارق بن زياد لما صدقت الأمر قط. هل كان السبب هو توغل المسلمين وابتعادهم عن ديارهم وعن المدد؟! هل لأن الوليد بن عبد الملك هو الخليفة المسئول الأول؟! قد يكون ذلك مقبولاً، لكن راودني الشك أن الأمر أكبر من ذلك، وجدت أن تفكيري ينسج كخيوط العنكبوت أدور في دوائر لم أستطيع أن أصل لإجابة ترضي فضولي وشغفي، صار عقلي يطحن الأفكار ليلقيها في مطحنة بالي المشغول الذي جعلني أهوي السهر ولا أستطيع النوم، أو حتى إغماض عيني كما اعتدت، فقررت الانتقال إلي دمشق لقصر الخلافة لكي أعرف سبب العودة الغريبة. وصلت لقصر الخليفة الذي تزين بالحلل البهية والثياب الحريرية، والزخارف التي تعجب العيون فتظل إليها محدقة. كان القلق بادي علي وجه الخليفة وانتقل لحاشيته، كل لحظة تزيد فضولي، ينتظرون وصول موسي بن نصير ويقولون هل يمكن حقًا أن يكون ما وصلنا من أمر موسي بن نصير حقيقة. قال أحد الحشود الذين يظهر عليهم الفطنة: ما الذي حدث يا مولانا أمير المؤمنين. بعد تردد نطق بكلماته: تعلمون أن القسطنطينية استعصت علي جيوشنا من الشرق، رغم محاولاتنا العديدة. رد أحدهم: نعم يا مولانا أمير المؤمنين نعلم ذلك. فأجاب الخليفة بعدما تنفس نفسًا كان مثقل بحمل كالجبال ثم قال: لكن ما لا تعلمونه وما وصل إليّ هو أن موسي بن نصير يعزم علي فتح دول أوروبا حتى يصل للقسطنطينية. قالها وعلي وجهه الفزع. كان سماع هذا الأمر فقط يعطي شعورًا بال ***ة والعزة، يجعلك تتعالي بين السحب فما سمعته خيال علمي، شيء يفوق قدرة العقل علي التفكير، أمر يشرح الص*ر ويجعلك تدرك أن الخيال مع هؤلاء أمر محسوم لهم، يجعلك تتساءل مما هم مصنوعون حتى يستطيعوا التفكير في ذلك، فإن كان التفكير وحده يفعل بي ذلك فماذا إن تحقق. أدركت الآن سر فزع الوليد بن عبد الملك، وسر استدعاءه للقائدان موسي بن نصير وطارق بن زياد، فالأمر يحتاج لتروي وحكمة، فكان يمكنه أن يوقف الفتح دون رجوعهما لكنه أراد أن يصل لما يجوب في عقل موسي بن نصير، وأدركت أيضًا عظمة ذلك القائد الذي يستحق أن يوصف بأنه أسطورة تاريخنا، أسطورة مجاهدة وساعية حتى بعد مضي خمسة وسبعين سنة من عمرها، غلبت العمر والهرم، أي همة كان يمتلكها، حقًا مثل هذا البطل يستحق أن يض*ب به المثل وأن يكون القدوة التي يحتذي بها، كان لديه هدف ساطع وواضح دمر كل عائق وقف أمامه من أجل تحقيقه، فقط استعان بالله وتوكل عليه فأعانه الله، لما لا يفكر بتلك الطريقة طريقة التفكير من خارج الصندوق فإن كانت القسطنطينية قد استعصت علي المسلمين من الشرق خاذلة جيوش بني أمية التي لم يرد الله لها أن يكون ذلك الفتح إلا علي يد من اختصه به فلم يوفقها له، فلما لا يفكر موسي بن نصير في فتح إسبانيا والبرتغال وفرنسا ثم يفكر في فتح إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا حتى يصل إلي القسطنطينية من جهة الغرب؛ أي أنه سيتوغل بالجيش الإسلامي في عمق أوربا ليعم الإسلام كل اتجاه، حلم جميل تستطيع تنفسه، لتستنشق مجد بلا حدود مجد تركه وهو متلهف علي الجهاد لتحقيقه، كان آملاً أن يتخذ مخترقه بتلك الأرض طريقًا مهيعًا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه علي البر لا يركبون بحر. كان الوليد مريضًا لم يستطع المكوث كثيرًا علي حاله، فقد زاره مرض موته الذي حضر فيه موسي بن نصير وطارق بن زياد وكان معهم كميات كبيرة من الغنائم والأسري والهدايا من الذهب والفضة واللؤلؤ، وكان الوليد غاضبًا منه حتى مات، وخلف الوليد في الحكم أخوه سليمان، وكان علي رأي أخيه في استبقاء موسي بن نصير خوفًا من هلكة جيش المسلمين في توغله داخل بلاد أوربا نحو القسطنطينية، ورغم غضبه فما كان له أن يعذب أو يهين مجاهدين مثل طارق بن زياد وموسي بن نصير . وعندما فكرت في ذلك الأمر ظهرت الهالة الزرقاء التي أهداني إياها الغريب، ظهرت مضاءة بأضواء جاذبة تطوي المكان والزمان وتبعث في قلبي الرهبة، تخلط أمواج الضوء لا تعلمني أين أنا ولا ماذا حدث، تنقل عقلي حيث يبتعد عن جسدي الذي سكن في لحظة ليعبر من خلال مسار يقوده إلي بعد جديد أري فيه أمور لم تحدث في الحقيقة ولكنها بقيت احتمالات قائمة بيد الله جنبها بقدرتها وأظهر الإنسان بإرادته، فالإنسان له قدر يتحكم فيه باختياره لأنه لا يعلم مستقبله ولا قدر الله الذي كتبه، فهو يختار فعله دون إجبار، وهذا البعد يريني تلك الخيارات التي لم يختارها الإنسان، يا لها من هدية قيمة ولابد أن من أعطاها أكثر قيمة، لا أدري أهو ملاك أم جن أم بشر أم أحد أولياء الله الصالحين.! كل ما أعلمه أنني أشاهد أطياف من الأحداث تحدث في ذلك البعد، فقد رأيت في هذا البعد غيرة الخليفة وحقده علي موسي بن نصير، وغضبه الجارف عليه الذي يكفي أن يوجه للحديد ليذيبه، رأيت شياطين الأنس والجن يتحالفون للنيل من عجوز لم يعجزه سنه ليكون فاتحًا مغوارًا، رأيت أن ضعف النفس مصيبة طامة جعلت الخليفة يرضخ لشياطينه التي سلبته عدله وأنسته ما فعله الفاتح ليمحيه من وجدانه كأنه لم يكن، ولم يقتصر علي ذلك بل أراد الانتقام ففكرت الشياطين عنه في إذلاله بعد أن أزلهم بجهاده وأخرس ألسنتهم بسيفه وحبسهم في جحورهم بإيمانه وصبره ومثابرته التي لا تكل ولا تمل، ولا أعلم لما كل ذلك فما الذنب الذي اقترفه مجاهد ليكون ذلك احتمال ليحدث معه، هل هي فقط إرادة الله التي تحب تطهير عباده واختبارهم ببلاء قاسي يميز الخبيث به من الطيب، يرفعهم به درجات يقضي علي مظالمهم في الدنيا ليذهبوا إليه أنقياء تم تنقيتهم كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، لكن هذا البلاء كان قاسيًا لدرجة جعلتني أتألم، أبكي بدموع تؤلمني كأنها خناجر كل منها ألم وجعه أشد من الآخر، دموع تجعلك تتمني الخروج علي الفور فالمأساة بدأت بتوبيخ الخليفة له توبيخًا شديدًا لا يليق بمقام موسي بن نصير، وقد كان الرسول الحامل للرسالة مأمور بإزعاجه بما يخالف مقام احترام القادة وآداب الإسلام علي أقل تقدير في احترام كبار السن، وقد رحلا مع الرسول أبي نصر ومعهم مغيث الرومي وكبار الجند بعد أن خلفا ورائهم عبد العزيز بن موسي علي الأندلس، وكان معهم مجموعة من الأسري ما يكفي لتحمله سفنهم وتحمل مهم الجواهر والذهب والفضة، وقد وصل دمشق ومعه ثلاثون من خيرة أسري القوط ألبسهم أفخر الثياب، وسار بهم في موكبه ليدل علي عظم الفتح الذي تم علي يديه، وكانت رسالة فرت لتعلمهم أن الوليد بن عبد الملك في مرض موته قبل وصولهم وتطلب منهم التأخر حتى يموت لتكون تلك الكنوز التي يحملونها ملك لصاحب الرسالة وهو سليمان أخو الخليفة وولي عهده، وليكون فخر الفتح لنفسه، ليكون هذا البعد هو بعد الطمع أو بعد تسلط الشياطين علي النفوس، لكن موسي بن نصير حضر لدمشق عاصيًا الأمر غير آبه، ليحضر مرض الموت للخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أخذ ينازع الموت أربعين يومًا بعدها حتى قضي نحبه، وتولي أخوه سليمان الخلافة وكان شديد الاستياء من موسي خاصة بعد علمه بما رد به علي رسوله، فقد قال لرسول سليمان بن عبد الملك الذي أمره بالتريث لحين أن يلفظ الوليد آخر رمقه: "خنت والله و*درت وما وفيت! والله لا تربصت ولا تأخرت ولا تعجلت! ولني أسير بمسيري، فإن وافيته حيًا لم أتخلف عنه، وإن عجلت منيته لأمره إلي الله". ولا شيء غريب في موقف موسي ابن نصير فمائة شيء يمنعه من التجاوب مع سليمان أهمها أن دينه يمنعه ويرشد روحه لطريق الصواب، لكن سليمان حقد بشدة وغضب وبدأ في إهانة الفاتح العظيم بشدة، وكان يبدوا علي وجه موسي انتظاره وتوقعه بأن القادم ليس خيرًا، وأن أيام مجده وعزه قد مضت مع أمس الدابر، فقد قال سليمان هذا البعد لموسي الواحد في كل الأبعاد: اجترأت وأمري خالفت والله لأقللن عددك ولأفرقن جمعك، ولأبددن مالك، ولأضعن منك ما كان يرفع غيري، ممكن كنت تمنيه أماني الغرور وتخدعه من آل سفيان وآل مروان! فقال له موسي: والله يا أمير المؤمنين ما تعتل عليّ بذنب، سوي أني وفيت للخلفاء قبلك، وحافظت علي من ولي النعمة عندي فيه، فأما ما ذكر أمير المؤمنين من أنه يقل عددي ويفرق جمعي، ويبدد مالي، ويخفض حالي، فذلك بيد الله وإلي الله، وهو الذي يتولي النعمة علي الإحسان إليّ، وبه أستعين، ويعيذ الله عز وجل أمير المؤمنين ويع**ه أن يجري علي يديه شيئًا من المكروه لم أستحقه ولم يبلغه ذنب اجترمته. لكن سليمان هذا البعد لم يلين وقلبه القاسي لم يتزحزح أنملة ولم يصفو، فأمر سليمان أن يوقف في يوم صائف شديد الحر علي طريقه، وكانت في موسي نسمة ربو فلما أصابه حر الشمس وأتعبه الوقوف هاجت عليه، وجعلت العرق يتصبب منه فما زال كذلك حتى سقط في حالة يرثي لها من الضعف والهوان جعلت قلبي يتمزق إربًا، شعرت أنني في كابوس تمنيت أن أظهر وأحميه، أن أدافع عنه، أن أقبل قدميه ليعفو عني تقصيري تجاهه، ليعفو عن الشمس التي كوته، ويعفو عن الجنود الذين تناوبوا علي إهانته وذله، وكنت أعلم أن لديه قلب كبير لدرجة تجعله يعفو، شعرت بأنفاسه المختنقة التي تعافر لتقتبس قبسًا من الحياة، تجاهد كعادتها الموت لا يهون عليها أن ترحل بسهولة، يبس شفتيه جعلها تتشقق كأرض جرداء تشتاق للماء لملمسه وطعمه، ويجعله قلبه يترجاه بصدق ليصل إليه ما يبرد به نيران جوفه، حاله يجعل الرأفة تضرم خدك بألف صفعة، ويجعلك تشعر بأنك تعيش في واقع وأنها ليست مجرد رؤية في بعد آخر خيالي لم يحدث، كنت أريد أن أغادر لكن بالقدر ذاته كنت أريد أن أعلم كيف سينتهي الأمر هنا، كنت أريد أن أقارن وأريد أن أعلم ذلك البلاء الذي رفعه الله عنه، ربما لجهاده أو لدعائه وإيمانه أو ربما لآلاف سيكون من أصلابهم ملايين يثقلون ميزانه بجبال من الحسنات لأنه كان السبب في دخولهم لدين الله وليس هناك ثواب أعظم من ذلك.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD