الحلقة السابعة (هزيمة المحال)

1906 Words
قالت علم محاولة تهدئتي: لقد قذفوا في نقط مختلفة في هذه الحقبة، ومن الممكن أن تقابل أحدهم في أي وقت، وسيكون هدفهم هو قتلك فاحترس، ولا تخف فأنت لست وحدك معك أنا ومعدات والدك وقبلنا الله. أحسست أن علم تخشي عليّ وكأن لديها مشاعر، وكأن أبي ما زال حيًا، قد أصبح بداخلي، يعيش في وجداني وفي عقلي، يكفي أن علم هي من طرفه، رحمك الله يا والدي سأكون بارًا بك في ذكراك، لن أنساك ولن أكف عن الدعاء لك ونقل أحاديثك وكلماتك لمن حولي، فقط ادعي الله لي أينما كنت أن يحفظني بحفظه، ويعينني علي تلك المهمة الشاقة. مضت أيام وأنا لا أشرب أو آكل وكأن جسدي الأثيري أصبح خالدًا، حياة دائمة ليست كالحياة، عقل نشط ككاميرا تسجل كل ما تراه، والغريب أنني لا أشعر بأنني بحاجة لأيًا من هذا، جلست أشاهد القمر وأسرح في ضوءه لأتذكر اشتياق في قلبي تلهف لمن أنارت بحبها فؤادي، وحلت أيام رسمتها في خيالي، وللأسف لم يمهلني الزمان وقتًا لتحقيقها، لا أعلم إن كنت سأراها مجددًا أم لا، لا أعلم إن كنت سأعود أم لا؟ كل ما أتمناه سلامتها وأن تكون بخير، وأمنيتي الكبرى أن تجد أمي وأن تؤنسها حتى أعود إن كتب الله لي عودة. انتفض جسدي بقشعريرة وخوف لم أعلم له مثيلاً حتى فرت الدموع من عيني وشحب وجهي، ولم أستطع ابتلاع ريقي، لقد وضع أحدهم يده علي كتفي وقد شعرت بلمسته، لا أعلم من هو ولا كيف له فعل ذلك؟! كيف لمسني؟! وكيف رآني؟! استدارت رأسي كرأس آلي لم تشحم منذ زمن، رأيت رجلاً وجهه يشع نورًا علي وجهه محفورة بسمة لا ترحل، شديد سواد الشعر واللحية، شديد بياض الثياب، في يده عصا يتكأ عليها مع أنه ليس في حاجة لها، كان قويًا منتصب القامة لو دخل في جبل فلا أدري أيهما سينجو قال: السلام عليكم. اطمأننت قليلاً، بلعت ريقي ورددت السلام، استند علي كتفي وجلس بجانبي وما زالت علي وجهي علامات الغربة والخوف. قال لا تخف أيها الغريب ولا تتعجب فقد عرفتك من ملابسك التي لم أراها من قبل، أردت طمأنتك وأن أؤنسك قليلاً في رحلتك، اعلم أن كل أمر بيد الله وكل زمانًا ومكان هو زمانه ومكانه، وكله خاضع لأوامر الله ومشيئته. قلت بعد أن استمعت لكلامه: ونعم بالله ولكن من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وكيف رأيتني؟ قال وهو يربت علي ظهري فشعرت بدفء قلبه ويده: أنا عبد من عباد الله، وجدت في طريقي عبد تائه في ملكوت الله، شاءت إرادة الله وبصيرته التي أري بها أن أراك، فمن كان عبدًا لله علي حق كان هو سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، اذكر الله يذكرك، وكن مع الله يكن معك، اسأله عما تريد واسأله عن طريقك، واعلم أن طريقك الذي جئت له هو في الأندلس، ففيها ستجد ضالتك. استند علي كتفي وقام، أمسك خيلاً بيضاء ليست كباق الخيول، قال مع بسمته: لنا لقاء في الأندلس. قبل أن تجري به الريح فيغادر قبل أن يعرفني باسمه. قمت ولا أدري إن كان ما حدث حلمًا أو واقع، هل رأيته حقا أم لا؟! أم كان مجرد خداع من عقلي. وقفت لأري ما يحدث حولي فهذا المكان أصبح لا يهدأ، ذهبت بجوار البحر الذي أعشق سكونه وصفائه وت**ر أمواجه التي تتلاقي وتتابع إلي ما لا نهاية، وجدت أن هناك سفنًا صنعت، وسفنًا تصنع، تحركت من مكاني الذي يوجد فيه الميناء إلي المكان الذي تشع منه أنوار المشاعل من جوف الظلام الحالك فصار كنقطة تبزغ من وسطه، كان بعيدًا فانتقلت مكانيًا باستخدام السوار، وصلت كان ميناء آخر، يبدوا أنه بني حديثًا، كان العمال يعملون بهمة عالية، ينقلون الأخشاب، يصفونها في صفوف أفقية تربط بينها مسامير حديدية كبيرة، تخترق الأخشاب فتتماسك سويًا في عمل متقن، المثابرة عليه ستولد في النهاية سفينة تجوب البحار وتنضم للأسطول البحري المسلم الذي أصبح يبني منذ فترة، حتى النساء تشارك العمل فتغزل النسيج الذي سيتحول لأشرعة تتحد مع الرياح لتجري السفن شاققة مياه البحر، سمعت من كلام البحارة وبنائي السفن أن أسطول السفن الإسلامية قد اقترب من الاكتمال، وقد استبشرت خيرًا حينما علمت أن جيش المسلمين سبق له أن قام بنشاط بحري حربي، عندما وجه معاوية بن حديج عبد الله بن قيس لغزو صقلية، فكان أول من غزاها في عهد معاوية بن أبي سفيان، وعلمت أن هناك دارًُا لصناعة السفن أقامها المسلمون في تونس تحت رعاية والي الشمال الإفريقي الحسان بن النعمان، كما كنت أقف في ميناء طنجة الصالح لصناعة السفن، فهمت عندها أن إتمام المسلمين فتح دول شمال إفريقيا هو أمر ملح لإنشاء السفن من أجل حماية تلك الدول التي تطل علي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي؛ وذلك لحماية تلك الدول من أي اعتداء بيزنطي، وهذا جعل أمر امتلاك سفن تحمل راية الإسلام هي ضرورة قصوى. شعرت بالسعادة تسري بداخلي، فقد شعرت بتقدمنا خطوات تجاه الهدف الذي يحلم بتحقيقه كل مسلم، حلم في مخيلاتهم، يحلمون أن يعم الإسلام كل مكان، أن تعم قيمه وأخلاقه، أن يسود العدل والأمان والمساواة. مشيت قليلاً لداخل المدينة، رأيت مجالس خاصة لتعليم الأمازيغ الإسلام، ما يشبه الدورات المكثفة، وقد بذل موسي بن نصير مجهودًا كبيرًا في ذلك؛ حتى جني ثماره عندما فهموا الإسلام، فاعتمد عليهم واستعملهم في جيشه، لقد استطاع الإسلام أن يغير طبعهم وحبهم وولائهم الذي كانوا عليه؛ حتى أصبحوا هم المدافعين عن الإسلام والناشرين له، ما هذا الدين العظيم الذي يغير القلوب والهوية وا****ن. أتذكر انجلترا وفرنسا اللتين احتلتا مصر لعشرات السنين ورغم ذلك خرجوا كما دخلوا ليس لهم في صدور أجدادي وأحفادهم إلا العداء الذي بدؤوا هم به، بقي دين الله في الصدور وبقيت اللغة العربية تشارك الشعب انتصاره، وتظهر أوروبا الغائبة عن التأثير عاجزة بنفس عجز قرون ظلامها الوسطي. وأثناء تجولي بين جنود الأمازيغ البواسل ثارت حماستهم لخبر سري كالهشيم بأن موسي بن نصير قد ولي قيادة الجيش للقائد المحنك طارق بن زياد، حدث ما توقعه الرجل صاحب السيف. وهذا ما أكد صدق شعوري، بأن سبب قوة المسلمين هو إذابة ما بينهم من فروقات، فالقائد هو قبلة الجيش وعموده، ومع ذلك فإن موسي بن نصير يولي عليه أمازيغي وليس عربي، لأنه علم أنه لا فضل لعربي علي أعجمي ولا أعجمي علي عربي إلا بالتقوى والكفاءة، وكليهما امتلكهما طارق بن زياد، وكانت رؤية موسي بن نصير في طارق بن زياد أنه قادر علي القيام بهمته علي أكمل وجه، وليت في عصري يعلمون أن الإسلام دعوة للعالمين وليست دعوة قبلية أو عنصرية تدعوا للتعصب، وتفضل عنصرًا أو طائفة علي طائفة؛ إنما هي لكافة الناس كما قال اله تعالي: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وكما شهد ربنا يشهد التاريخ علي ذلك، التاريخ الذي أعيشه الآن وأفخر به، وأشاهد سعي المسلمين جاهدين ومجاهدين لإيصال تلك الرحمة للعالمين. . وقد قام موسي بن نصير بالتقدم خطوات بفتح جزر البليار وضمها لأملاك المسلمين ليكون ظهر المسلمين محميًا، مستعدين للفتح، وهي أكبر الجزر في البحر المتوسط في اتجاه شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) كل ما يفعله موسي بن نصير ولم نسمع عنه لو كان في أميركا رجل مثله لكانوا غيروا اسم بلادهم وأسموها علي اسمه موسي بن نصير، لكانوا صنعوا عنه ألف فيلم عن تلك البطولات التي لا تنتهي، وصنعوا له مليون تمثال حتى لا ينسي، ولجعلوا له يومًا لإحياء ذكراه، ولكانت الكتب تمتلئ بصوره، لكن هذا لم يحدث لدينا، يا لنا من قومٍ مقصرين، وربما تقصيرنا هو سبب تأخرنا لقرون عن باقي الأمم في السابق. وقفت عند خطيب كان يحث الجنود ويلهمهم بكلماته لترويض أرواحهم حتى لا يقعوا في بئر الأخطاء الذي وقع فيه السابقين، تكلم فقال: قال تعالي "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" لستم إلا أسبابًا فلا تغتروا فمهما بلغ عددكم وازداد سلاحكم وعتادكم، سيظل النصر بيد الله فكونوا جنوده وعبيده يكن معكم، فجند الله وحدهم هم الغالبون؛ لأن الله وحده هو الغالب "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" الناصر هو الله فإذا انقطعت السبل فستظل سبل الله قائمة، فقط عليكم بالإيمان، بالتواضع لله فالتواضع إيمان، خضوع لرب الأنام، تذكروا قوله تعالي: "لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون" فالأمر الإلهي والتدبير الرباني مُقام، قال تعالي: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور" وقال تعالي: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا إن الله سميع عليم" وهذا التدبير الإلهي حدث أكثر من مرة في تاريخنا، كيف بدأ الدين غريبًا، ضُيق عليه، وعذب أهله، وها هو اليوم وصل لفتح كل دول شمال إفريقيا، كيف نصر الله قلة في بدر، وكيف زرع الإيمان في المدينة، أخذ يذكر المواقف ويعددها حتى بكي الرجال وغسلت لحاهم ببكائهم وكأنهم ارتكبوا جريمة اتجهوا لله داعين كي يغفرها لهم. تركتهم وقد اختمر بداخلي قرب حدوث ما سيغير التاريخ، وسيبدأ تلك الحقبة التي أتيت من أجلها، انتقلت مكانيًا إلي معسكر المسلمين، وصلت هناك وتوجهت إلي خيمة موسي بن نصير رضي الله عنه، وقفت في رقعة بعيدة فقد كنت أشعر بهيبة في ص*ري تجاهه، أوقره لحد غير مسبوق، وقفت وأنا لا أري أو أسمع شيء، نطقت علم وقد ظننتها تحولت إلي بكماء: في سترتك توجد خوذة تشبه التاج يخرج منها أسلاك ضوئية وحبيبات كريستالية تطوقه من الداخل، ستمكنك من تحويل أفكار الآخرين لموجات يمكنك استقبالها، بالإضافة إلي أن السماعة المرافقة لها ستجعل سمعك أقوي بعشرات المرات، ما سيمكنك من سماع أصوات الهمس بوضوح. أخرجت الجهاز ووضعته، أصبحت أسمع مئات الأصوات المتداخلة، لا أفهم شيء وأكاد أجن، خاطبت علم: ماذا علي أن أفعل، أنقذيني. أخبرتني أنني الآن أعمل كمحطة تستقبل جميع الموجات، وما علي هو أن أركز علي موجة واحدة وأنحي باقي الموجات، وهذا يسمح به الجهاز. اخترت موجات صوت وأفكار موسي بن نصير، كنت أري تلك الأمواج في شاشة أمام عيني متصلة بالخوذة التي اتضح أنها ليست فقط جهاز لسماع الأصوات والأفكار، بل التحكم بالخوذة يكون عن طريق الأفكار أيضًا، بدأت أسمع كلمات حمدًا وثناء لله شكرًا له علي كرمه وفتوحاته، قال أحد من في الخيمة: نحمد الله في كل حال، لكن ما الذي حدث وأدخل علي وجهك السرور والرضي. قال: هذا خطاب من يليان ملك سبتة يطلب به التحالف مع المسلمين. الله أكبر..الله أكبر تعالت أصوات التكبيرات بالف*ج الرباني والنصر الموعود، فما أجمل نصر لا تراق فيه دماء، وتحالف للسلام الذي يسعي له الإسلام، وما إن فرغوا من التكبير حتى سأل أحدهم وما الذي دفعه لذلك مع أننا لم نستطع فتح ميناءه الحصين إلي الآن رغم محاولتنا. أجاب موسي بن نصير رضي الله عنه فلم أدري من إجابته أيهم صوته وأيهم أفكاره فكلاهما لهما نفس الهيبة وإن كنت لا أراه: ما وصلني من أخبار يفيد توتر العلاقات بين يليان ملك سبتة ولذريق ملك الأندلس، فالأخير قد قتل الملك غيطشة صديق الأول العزيز وملك شبه الجزيرة الأيبرية (الأندلس) قبل أن يقتل، وقد كانت العلاقات بين غيطشة ويليان علاقة طيبة، وقد استعان أولاد غيطشة بيليان ليحاربوا لذريق، لكنه لم يكن لديه طاقة به، وفوق هذا فقد اغتصب لذريق ابنة يليان مما زاد الحقد والعداوة، فقد أقسم يليان علي أن ينال منه، لكنه ليس له طاقة علي هذا الأمر، كما أن غيطشة هو من كان يمد يليان بما يحتاجه من إمدادات لل**ود أمامنا، وبموت غيطشة لن تصله إمدادات من عدوه فلم يبقي لديه خيار . فهمت من تلك الكلمات أن المغزى هو أن عدو عدوي صديقي، وأن حقد وغضب يليان يدفعه لفعل أي شيء ل**ر شوكة لذريق ولكي يخمد نيران قلبه، وفهمت الصلة بين شبه الجزيرة الأيبرية (الأندلس) ودول الشمال الإفريقي فكلاهما مقابل للآخر أي أن كلاً منهما يأتي منه الخطر فشبه الجزيرة الأيبرية (الأندلس) ستكون خط الدفاع الأول للمسلمين ضد أوروبا كما كانت دول الشمال الأفريقي خط الدفاع الأول لشبه الجزيرة الأيبرية (الأندلس)؛ فلابد أن يكون أحد الطرفين مسيطرًا علي الطرف الآخر، فكان الهدف العسكري ثاني الأهداف بعد الهدف الأعظم وهو نشر الإسلام في الربوع وإعلاء كلمة الله، فالفاتحين حملوا للناس الإسلام بالفتح ولم يحملوا الناس بالفتح علي الإسلام. وهذه هي الحقيقة فالدين محله القلب وقد ترغم الأجساد علي الدين أو علي أي أمر لكنك أبدًا لن تستطيع إجبار القلوب؛ ولهذا أبطل الإسلام كل أمر بغيض يقع بالإكراه فيكون كأن لم يكن، فالإسلام هو الدين الذي متى وصل للقلوب فتحها، ولا وسيلة ليصل إليهم إلا بالفتح فالعديد من الرسل التي أرسلت قديمًا بشكل فردي وسلمي كان يتم قتلها .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD