الفصل الأول

3022 Words
فتح عينيه ليجد طبيبة شابة تشبه حبيبته تبتسم له قائلة: أهلا بك من جديد دكتور ميشيل. نظر إليها ميشيل ولم يتفوه ببنت شفة، فالشبه متطابق بنسبة تسعون بالمئة، هل يعقل ألا تكون حبيبته؟ - قطعت حبل تفكيره بكلماتها: بماذا تشعر الآن؟ ثم لوحت بيديها أمام عينيه سائلة إياه هل تراني؟ - تنحنح ميشيل ناظرا إلى جسده الملقى على سرير أبيض، ويده اليمنى معلقة بالمحاليل، نظر حوله مطالعا أركان الغرفة البيضاء المنظمة كإحدى غرف الفنادق السياحية، ثم تكلم أخيرا قائلا: أين أنا؟ ماذا حدث؟ أريد ماء يا راشيل. - نظرت له الطبيبة بعطف ثم قالت: حسنا.. سأخبرك كل شيء بعدما أعطيك الماء، ولكنني أدعى الطبيبة دعاء، ولست براشيل كما ناديتني. - شعر بغرابة شديدة فلا زال يراها حبيبته: لستِ راشيل! كيف؟ وأكمل قائلا: أتظنين أنني لن أعرفك حين تبدلين لون عينيكِ وتصفيفة شعرك؟ بالأمس كان شعرك بنيا أشعثا وعينيكِ عسليتين، والآن عينيكِ بنيتان وشعرك يغطيه اللون الأ**د. دعكِ من هذا المزاح فأنا أشعر بدوار في الرأس وكأنني قد نمت ألف عام وحلمت أحلاما غريبة ومخيفة أيضا. - الطبيبة: حسنا خذ قرص الأسبرين هذا وكوب الماء، وبعد قليل سنتحدث وتخبرني بما حلمت، ولكن بعدما تعد معي من رقم واحد حتى رقم عشرة. أخذ ميشيل منها الماء واستسلم إلى العد معها واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمس... حتى غط في سبات عميق. خرجت دعاء من غرفة المريض غريب الأطوار وهي قلقة، فالمريض بالتأكيد سيصاب بصدمة حين يعلم بأنه في زمن آخر وعالم غير عالمه، لقد تمنت كثيرا لو وجدوا آلة للزمن تستطيع بها الرجوع للخلف لترى ذكرياتها المنسية، تتمنى لو استطاعت الرجوع أكثر من ذلك أيضا، فهي ترى أن أفكارها تشبه أفكار بطلات أفلام الأبيض والأ**د، كم تمنت لو رأت هذا العالم ولو لدقائق معدودات، نفضت هذه الأفكار عنها بعدما وصلت أمام غرفة مدير المستشفى. طرقت الباب ثلاث طرقات ليجيبها صوت من الداخل: تفضل. دخلت الطبيبة مبتسمة مؤدية التحية العسكرية لرئيس المستشفى وهو يجلس على مكتبه، وعلى المكتب تتربع لافتة صغيرة كتب عليها العميد: سيف الدين غياض. يبادلها التحية ثم يأذن لها بالجلوس فتعيد ابتسامتها ممتنه له. - الحالة مستقرة نوعا ما سيادة العميد، ولكنه عندما استفاق أخذ يهذي قليلا، فأعطيته حبوب مهدئ حتى نام ثانية، أخشى عليه ألا يتمكن من استيعاب الزمن الذي أصبح فيه. - مممم أرى أنه سيعلم الحقيقة سواء اليوم أو غدا، العقاقير المهدئة لن تمنع ظهور الحقيقة أبدا، حتما سيعلم كل شيء. ثم أردف قائلا: أخبريني يا دعاء بمَ كان يهذي. - دعاء: لقد ظن أنني حبيبته وناداني براشيل، وعندما قلت له أنني لست راشيل، ادعى بأنني كاذبة وأني قمت بتغيير لون شعري وعيني كخدعة لكي لا يعرفني. ابتسم العميد سيف الدين ثم فتح درج مكتبه واستخرج ملفا مكتوب عليه الحالة الخامسة عشر(ميشيل رافع عالم بيولوجي)، أعطاه للطبيبة دعاء ثم أكمل قائلا: هذا الملف به كل ما يخص هذه الحالة، أرجو دراسته بعناية فائقة حتى تجيدين التعامل معه، وبالغد سأرفق معك طبيبا نفسيا آخر، لمساعدتك في تأهيله للعودة للحياة مرة أخرى، ولكنني سأخبرك أمرا حيرني كثيرا، لقد عرفت كل شيء عن تلك التجربة، لقد كانوا خمسة عشر عالما من سيقومون بها، ولكن ميشيل اختفى قبلها بأيام قليلة، هذا مكتوب في التقارير، ما يحيرني هو ظهوره منذ أيام في أحد المختبرات السرية ومرفق معه ذلك التقرير، فأين اختفى وكيف ظهر بعد سبعون عاما؟! ورغم أن التجربة كانت لأربعين عاما؛ فقد بدأ الخمسة عشر عالما يظهرون واحدا يليه الآخر في آخر خمس سنوات فقط. حين فحصت تقارير التجربة وجدت أنه تم تبديله بابنة عمه راشيل، لقد استفاق العلماء جميعا على سنوات متفاوتة وتم تجنيدهم في أجهزتنا المخابراتية، ولكنني لا أعرفهم لأن الأمر يعد سرا وأيضا لا أعلم أين ذهبت تلك الفتاة، أريدك أن تقرئي التقرير، وتري لما تشبهين راشيل إلى هذا الحد، ربما كانت محض صدفة! - ردت دعاء بقلق قائلة: حسنا سيدي، سأبذل قصارى جهدي وأبلغك بالنتائج أولا بأول. وقفت الطبيبة دعاء وألقت التحية مستأذنة إياه بالخروج فبادلها التحية وانصرفت. ابتسم ابتسامة ذات مغزى وهو ينظر للباب، وجال في خاطره أن هناك مفاجآت كثيرة ستحدث من علاقة الطبيبة بمريضها . - تمتم بصوت خفيض: الآن سأعرف هل أنتِ بالفعل فاقدة للذاكرة كما يعرف الجميع، أم أن هناك خطب ما لا نعرفه. خرجت دعاء من غرفة مدير المستشفى وهي تفكر بذلك التقرير الذي عليها أن تقرأه، ركبت سيارة أجرة لتوصلها حيث مسكنها بمنتصف المدينة، وما إن وصلت ودخلت البناية التي تسكن بها مع أمها حتى جرت على الدرجات بمرح، وكأنها طفلة في العاشرة من عمرها، فقد اعتادت على ذلك، ودائما ما تنهرها أمها بسبب أفعالها الطفولية. وصلت إلى باب شقتها لتدق الأجراس بسرعة هستيرية، صوت يأتي من الداخل لسيدة خمسينية بيضاء البشرة وبدينة نوعا ما: انتظري.. انتظري، حدثت أمها نفسها: لا بد وأن الطارق دعاء، لن تكبر تلك الصغيرة المجنونة مهما نالت من شهادات علمية، حتى وإن صارت يوما ما وزيرة الصحة، ستظل تفزعني بطرقاتها تلك. فتحت الأم الباب فاحتضنتها دعاء بطفولية، وظلت تدور بها وهي متعلقة برقبتها فرحة بلقائها، منزلهم كان قديم الطراز، اللون الأبيض يحتل المكان، الجرامافون الموضوع بعناية فوق منضدة فضية اللون، وصوت لنغمات عمر خيرت تنساب ببطء عابرة إلى أسماعهم. - الأم مصطنعة الجدية: ألن تكبري أبدا أيتها ال**بثة؟ ستجعلينني مجنونة مثلك.. هذا بالطبع إن لم أمت بسببك. - أجابت دعاء وابتسامة مكر ترتسم على شفتيها: أخبرتني يوما أنني حتى وإن صرت صاحبة مائة عام سأظل صغيرتك المدللة، سأظل أمارس جنوني ولدينا خيارين، إما أن يهديني الله للعقل، أو سأجعلك مثلي. ولكنني أرجح أننا سندخل قريبا لمستشفى العباسية فقد سمعت أن هناك سريرين فارغين. وضعت يديها على بطنها ثم لعقت شفتيها، فقد شمت رائحة الطعام الذي يملأ أرجاء الشقة. - وأكملت قائلة بابتسامة: رائحة ورق العنب تحتل الشارع من أوله لآخره، أكاد أجزم بأن الجيران قد يحسدوننا على هذه الرائحة الزكية. - ضحكت الأم ملئ قلبها وأجابت: حالا يا مجنونتي الصغيرة سأحضر لكِ الغداء، لأنني والحق يقال أتضور جوعا، وأريد التحدث معكِ في موضوع مهم. - أغلقت دعاء إحدى عينيها ثم تحدثت بمكر: أظن أنني أعرف ذلك الموضوع الذي لا تكفين عن الحديث عنه. - الأم بجدية: أبلهاء أنتِ يا صغيرتي؟ لقد أخذ مني العمر الكثير وأريد رؤية أحفادي، وأريد أكثر الاطمئنان عليك... - قاطعتها دعاء قائلة: ولكنني يا أمي لن أتزوج بهذه الطريقة، نحن في القرن الواحد والعشرين، لسنا في الخمسينيات كي أتزوج عن طريق خاطبة! - لا تستبقي الأحداث يا صغيرتي فالموضوع مختلف هذه المرة، دعينا نحضر الغداء ثم نتكلم ونحن نأكل، قالتها الأم وهي تبتسم ابتسامة انتصار. انتهت دعاء أخيرا من المباحثات والمناورات التي لا تنتهي مع أمها، فتارة تأتيها خاطبة تريد تزويجها لأحد أثرياء الخليج، وتارة أخرى يراها ابناً لصديقة أمها فيتقدم لها دون معرفتها حق المعرفة، فسمعة أبيها الراحل وأمها الزاهدة تشع نورا يلاحقها أينما ذهبت. هي تبحث عن ذاتها التي اختفت تماما لعدم اختلاطها مع الناس، حتى أنها لم تكوّن صداقات منذ صغرها، تتمنى لو تصبح بطلة لإحدى الروايات التي تقرأها، فهي لا تجد نفسها أقل جمالا من أسيل طبيبة زيكولا، الذي خرج من أجلها ملكا بجيش دولته مضحيا بكل شيء لأجل حبها مقدما حياته تحت قدميها. لن تتنازل عن ذلك الأمير، فارس الأحلام، فإن كانت أسيل طبيبة زيكولا الأولى، فهي ستصبح ذات يوم طبيبة مصر الأولى. نفضت دعاء أفكارها المحرقة، وأخرجت الملف الذي أعطاها إياه رئيسها في العمل، تصفحت وريقاته التي تعود طباعتها لما قبل 1940، الصفحة الأولى بها بعض الصور التي تخص ميشيل وعائلته، قلبت الصور حتى وجدت صورة تشبهها كثيرا ولم تستطع أن تجد الفارق، خاصة وأن الصورة قديمة (بالأبيض والأ**د). ميشيل مزدوج الجنسية، رجل في أواخر العقد الرابع، ولد لأب مصري وأم ألمانية، درس في كلية العلوم جامعة القاهرة، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة ميونيخ، عمل فترة كبيرة في المختبرات السرية التابعة للنازيين، وابتكر غازات جديدة تثير أعصاب أسرى الحرب مما يدفعهم لقول الحقيقة دون الشعور بأي ألم، ولسوء حظه أمره أدولف هتلر بأن تكون أول تجربة عليه شخصيا، وتمت التجربة؛ فاعترف حينها بأن أباه وأمه يهوديا الديانة، والحقيقة أنه كان يخفي ذلك لعلمه بأن النازيين يضطهدون اليهود جميعا. كما اعترض على السياسات الداخلية والخارجية لأدولف هتلر، ونعته بمجرم حرب هو وميليشياته، من حسن الحظ أن أدولف هتلر لم يحضر تلك التجربة وكلف باحثا علميا بمتابعة تطورات التجربة، وقبل أن يعرف هتلر أي شيء، ساعده مديره بالعمل بأن حقنه بحقنه قللت من نبض القلب إلى نبضة واحدة في الثانية، فاعتبروا أن التجربة فشلت رغم نجاحها وقاموا بتسليم جثمان ميشيل إلى السفارة المصرية ليدفن في مسقط رأسه. أخرجت دعاء صورة راشيل وصورة والدتها، تمعنت النظر فيهما كثيرا تتأمل ملامحهما المتشابهة، كانت دقات قلبها تتزايد كلما وقع بصرها على صورة أم راشيل التي تشبهها نوعا ما، ذكريات مشوشة تحتل عقلها، جال في عقلها لقطات باهتة لنفسها وهي تداعب أم راشيل، شعرت وكأنها تعرفها وجدت دموعها تنهمر رغما عنها، قلبت الصور على ظهورها بحثا عن أي معلومات قد تكون مكتوبة على ظهر الصور، ولكنها لم تجد شيئا، أعادتهم داخل الملف السري ووضعته داخل درج مكتبها. فجأة ظهر فوق سطح مكتبها خطاب طويل وريقاته سوداء، شعرت بالدهشة حين رأته، ولكن الفضول عماها عن التفكير في ظهوره الغريب، فتحت الخطاب لتعرف محتواه فوجدت... (الخطاب الأول) إلى الطبيبة دعاء.. سلام عليك حيث غرفتك الوردية وشعرك الحريري، الذي اكتسب الآن حيويته بعد حمام دافئ، هذا الخطاب الأول ولن يكون الأخير، ولكنني أريد أن أخبرك شيئا وأفسر لكِ لماذا تشوش عقلك الآن حين رأيتِ تلك الصور، ولما جالت في خاطرك ذكريات لكِ مع أمها وكأنك تداعبينها، لا تتعجبي فأنا أراكِ من مكاني البعيد كل البعد عنك، وأعلم أن عقلك سيصبح كمصفاة المعكرونة الآن، ستبحثين يمنة ويسرة عني، بالطبع لن تنسي أن تنظري للنافذة لتتأكدي بأنها مغلقة، ثم تقلبين غرفتك رأسا على عقب بحثا عن كاميرا لعينة تجعلني أراكِ، ولكنك ستفكرين قليلا وتعرفين أنه حتى لو كان هناك كاميرا، فكيف ظهر الخطاب فوق مكتبك حين رمشت أعينك! الأولى من ذلك أن تتساءلي عن السبب في إرسالي لك هذا الخطاب ولكنني سأخبرك الآن: اليوم استفاق بالمستشفى التي تعملين بها عالم يدعى ميشيل رافع، لا أعلم كيف استفاق من غفوة استمرت لأكثر من سبعين عاما، خاصة وأنني قد جالسته منذ سنتين فقط! لقد أخبرني حينها أنه لم يدخل تجربة التجميد من الأساس، أخبرني عدة أشياء عن راشيل ابنة عمه الذي تبناه، أخبرني عن قتله لأمها وأبيها قبل أن يرحل، أخبرني عن اختفائها، ولكنني حين بحثت عنها وجدتها، ستتعجبين الآن مما سأقول، ولكن يؤسفني أن أخبرك أن اسمك الحقيقي راشيل رافع، لقد تم قتل أبيكِ وأمكِ على يد قريبك أو حبيبك كما كان حينها، لقد كنتِ كما أنتِ الآن طبيبة نفسية، ودخلتِ أيضا تجربة التجميد، واستفقتِ منذ خمس سنوات وأنتِ فاقدة للذاكرة، أخذتك إحدى الطبيبات وتمكنت السلطات زرع ذاكرة جديدة لك، حينها قد أسندتك إليها كابنة لها، لقد اعتنت بكِ، بل أصبحتِ مسلمة على ديانتها، لا أقول هذا لترجعي عن دينك الحالي، ولا أخبرك بكل هذا لكي أدخل الشر في داخلك، ولكن لا بد أن نتحد سويا، فميشيل يحاول العبث معك من جديد، لا زالت يداه ملوثة بدم أبيكِ وأمكِ، إذا كنتِ تشككين بكلماتي تلك، فاسألي أمك ستخبرك بكل شيء، حتى أرسل لكِ خطابي الثاني. شعرت دعاء بالخوف وأيضا الغضب، والكثير من التعجب، تساءلت بداخلها من أنا؟ ولكن أبى عقلها أن يخبرها. - رأت أمها من الخارج نور غرفتها مضاء، فنادتها مستفهمة: دعاااااااء ألم تستريحي حتى الآن؟ أخرجها تساؤل أمها عن شرودها فصمتت، تظن أنها ستفلت من المناوشة معها، تتمنى أن تستقل ولو قليلا، تريد أن تستفرد بعقلها حتى تفكر فيما قرأت، تساءلت فيما بينها وبين نفسها هل الخطاب صادق؟ إذا كانت هي راشيل فكيف لا تتذكر شيئا عن تلك التجربة؟ إنها حتى لا تتذكر سوى آخر عشرة سنوات قضتها مع تلك السيدة التي تعتقد أنها أمها. دق باب الغرفة ثلاث مرات ودعاء صامتة، تنظر فقط إليه حتى فتحته أمها من الخارج، نظرت الأم إليها فوجدتها سارحة في الفراغ، اقتربت منها بقلق تلمست جبينها ولم تتفوه بنت شفة، احتضنتها أمها فأغمضت دعاء عينيها تستشعر دفئ حضن أمها، والدموع تذرف منهما بلا انقطاع، ربما وجدت السكن والأمان بين ذراعيها، أغلقت الأم زر الإنارة وغابتا في سبات عميق. ...... استيقظت دعاء باكرا بعد حصولها على نوم هادئ بفضل حضن أمها المستلقية بجوارها، شعرت ببعض الحيوية وتقلص قلقها وريبتها قليلا، فحقا الجنة تحت أقدام الأمهات، حاولت عدم التفكير في ذلك الخطاب الذي ظهر لها من العدم، رغم رؤيتها للحقيقة كاملة داخل عقلها، قبلت رأس أمها قبل أن تخرج لممارسة عملها في المستشفى. وما أن وصلت حتى قابلتها المساعدة الخاصة بها تصرخ مستنجدة: أيتها الطبيبة، لقد استفاق المريض في الغرفة رقم 300 وأثار ضجة كبيرة بسؤاله عن فتاة تدعى راشيل، حاولنا تهدئته ولكن بلا جدوى، حتى أننا لم نستطع حقنه بالمهدئ... - قاطعتها دعاء مستفهمة: وماذا فعلتم يا ريم؟ - ردت بقلق: تدخل مدير المستشفى وأخبره أن راشيل في الطريق إليه، فتورد وجه المريض وأشرق بابتسامة وكأنه أخيرا وجد ضالته، أعطيناه فيما بعد بعض الفيتامينات بعد وجبة الإفطار، ثم طلب مني الدكتور سيف الدين أن أخبرك حينما تصلين بأنه يريدك على الفور. شردت دعاء قليلا في آخر جملة قالتها مساعدتها ريم، ثم فكرت؛ ربما يريد مني أن أتعامل معه بشخصية راشيل! إذا كان يريد ذلك فقد حقق ما أسعى إليه، لن أتقمص شخصية راشيل لأني عرفت أنها أنا. كان عقلها مشوشا، اقتربت دعاء من غرفة مدير المستشفى، طرقت الباب عدة مرات مستأذنة الدخول، فأتاها الصوت من الداخل: تفضل. دخلت دعاء الغرفة متصنعة القلق، قدمت التحية إلى مديرها، فبادلها التحية وأذن لها بالجلوس ونظراته تخترقها، تشعر وكأنها فأر وقع بالمصيدة، تتمنى لو كان هناك مصباحا سحريا ليخفيها عن نظرات عينيه الحادة. - تلعثمت ثم قالت بصوت مبحوح: أخبرتني ريم بأنك تريدني. - سيف الدين: نعم، لقد طلبت مقابلتك لأسألك، ماذا ستفعلين مع الحالة رقم 300، المريض ميشيل؟ - حسنا سيدي، سأتبع معه الطريقة المعتادة في التقويم النفسي مثلما نفعل مع حالات فقدان الذاكرة، البداية هي تهيئته نفسيا ل**ب ثقته، ثم إعادة تأهيله للخروج للحياة مثل الآخرين. - سيف الدين: عظيم.. ولكنني أرى أن نتبع طريقة جديدة في التعامل معه، وأظن أنكِ تتوقعين ما سأقوله. - دعاء: هل تريد أن أتقمص شخصية راشيل؟ - سيف الدين: نعم. - دعاء: سيأتي يوم وتظهر فيه الحقيقة، وبعدما اكتسب ثقته كراشيل سيفتضح أمري، لعدة أسباب؛ أولها أنني لا أعرف أي شيء عن راشيل وعن علاقتهما سويا، ‏بالتأكيد لديهما ذكريات لا أعرفها، ‏السبب الآخر، أننا أصبحنا في الألفية الثانية وراشيل رفضت مرافقته في تلك التجربة وقتها، وأيضا في التقارير الأخرى ذكر أن ميشيل هرب وراشيل دخلت التجربة، الأمر فيه لغز لا نعرفه، فكيف أظهر في حياته كأنني راشيل بعد مرور أكثر من سبعين عاما؟ بالتأكيد سيكون هناك ألغاز علينا حلها، والأدهى لو ظهرت راشيل الحقيقية! - سيف الدين: يبدوا كلامك منطقيا، ولكنني سأخبرك شيئين، أولهما أن ميشيل كالغريق سيتعلق بفكرة وجود راشيل بمجرد رؤيتك، فلقد كان مولعا بها، أما الثاني هو مجرد تساؤل، لماذا تظنين أن راشيل قامت بتلك التجربة؟ إذا كانت خاضتها فأين هي الآن؟ - دعاء: ربما لم تستفق بعد، أو أن أمر ظهورها سري مثل الباقين . - سيف الدين: هذا ما أخبرتك به، لم يكن ميشيل الناجي الوحيد فقد استفاق قبله الباقون في السنوات الأخيرة، ولكن الحكومة تتكتم على تلك الأخبار حتى لا يعلم المجتمع اليهودي عما حدث. - دعاء : ولكن يبقى السؤال، أين راشيل؟ ألا يوجد أي أخبار عنها؟ - سيف الدين: سنعرف كل شيء في موعده، فبالتأكيد لن يظل اللغز لغزا، كل ما عليك الآن اتباع الأوامر وأنا واثق أنكِ لن تخذليني. تخطو دعاء نحو غرفة ميشيل سارحة في المجهول، لو كانت بالفعل هي راشيل كما رأت، فالمطلوب منها أن تتعامل مع قاتل أبويها بكل رقي، وإن لم تكن هي راشيل، فليس هناك فارق فبكل الأحوال ستتعامل مع قاتل محترف. اقتربت من الغرفة، فتحتها ودلفت للداخل، فوجدته مستلقيا على سريره مبتسما إليها، رغما عنها ابتسمت ونفضت أفكارها وقررت ترك كل شيء لتدابير الأقدار، فمهما كان هي لن تتخلى عن قسم مهنتها فهي طبيبة والأطباء ملائكة الرحمة، كيف لملاك أن يترك نفسه لنار الثأر المحرقة؟ - أهدته ابتسامة ودية ثم قالت: كيف حالك الآن؟ - تهلل وجه ميشيل، فرك جفني عينيه لا يصدق أنه يراها أمامه بابتسامتها التي لم تحرمه منها: بأحسن حال، كان ينقصني وجودك يا صغيرتي ولكن الكوابيس تطاردني كثيرا. - أغلقت نصف عين ثم قالت: أي كوابيس؟ - ميشيل مستفهما: هناك أشياء لا أفهمها، هذه الغرفة معداتها حديثة نوعا ما، شككت لوهلة أنني ما زلت في ألمانيا حتى رأيت المعالجات يتكلمن العربية، الأغرب أنني رأيتك بمنامي بالأمس بنفس شكلك الآن. - دعاء باهتمام: ماذا رأيت في منامك؟ - حلمت أن عيناكِ أصبحتا بنيتان وشعرك أصبح أ**دا مثلما أنتِ الآن، كيف تغير شكلك يا حبيبتي؟ - فأجابته دعاء بتلعثم: لا تشغل بالك بكل هذا فأنت الآن بأمان وهذا هو المهم. - ميشيل: وماذا عن محرقة هتلر وأين أمك يا راشيل لماذا لم تأتي معكِ؟ - دعاء: أمي في البيت في أحسن حال، أما هتلر فقد اختفى كحبات الملح لا أحد يعرف أين هو؟ - ميشيل غير مصدقا: هل كل هذا حدث في يومين فقط؟ - دعاء: عليك أن تستوعب ما أنت عليه الآن يا ميشيل، أنت الآن في الألفية الثانية، اليوم هو الخامس من نوفمبر للعام السادس عشر بعد الألفين.. - ميشيل ضاحكا: ألن تكفي عن ذلك المزاح؟ - دعاء بجدية: أنا لا أمزح يا ميشيل! أخرجت دعاء هاتفها النقال وأعطته إياه قائلة: أنظر للتاريخ. - أخذ منها ميشيل الهاتف قائلا: هل هذه إحدى ألاعيبك ثانية؟ منذ شهر قدمتِ لي القهوة مرة كالعلقم عقابا لي بعدما رفضت أن تتنزهي مع أصدقائك، والآن تعطيني لعبة سحرية وكأنه مكتوب عليها تاريخ لم يأتِ بعد؟ - دعاء: اهدأ يا ميشيل المهم أنك بأمان، ثم أردفت: لقد انتهت الحرب للأبد بعدما ضربت أمريكا هيروشيما بالقنبلة الذرية لتصبح فتاتا، وانتهت إمبراطورية اليابان بعد استسلامها وهزيمة ألمانيا على يد الروس. ثم هرب هتلر واختفى للأبد، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا دولتان عظميان وقامتا بتكوين مجلس كوني يسمى بمجلس الأمن، اليابان أيضا خرجت من تحت الأنقاض لتكون أكبر دولة صناعية بالعالم نلقبها الآن بالكوكب الآخر. - ميشيل: ماذا؟! - دعاء: كما قلت لك، صدقني لم أخفِ عليك شيئا، كل هذا حقيقة حدثت منذ عشرات السنين. - ميشيل متفكرا: إذا كان كلامك صحيحا، فأنا أتذكر آخر كلامنا حين رفضتِ مرافقتي في تلك التجربة، فكيف نحن في زمن آخر أنا وأنتِ معا؟ - لم أحتمل فراقك يا ميشيل خصوصا بعد وفاة أمي، ولذلك طلبت من العلماء أن أخوض تلك التجربة، فبالفعل الموت الرحيم خير من محرقة هتلر! قالتها دعاء بوجه متجمد. - ميشيل باهتمام: أكملي. - صحوت من سباتي قبلك بعدة سنوات فاقدة للذاكرة، ولكن كما قلت لك، الدولة احتضنتني ورزقني الله بسيدة حنون أعيش بين أحضانها كأنها أمي، وهي التي أخبرتك عنها بأنها في البيت، عندما تركتني كنت فتاتك البنت ذات الخامسة والعشرين عاما، مدللتك الصغيرة فاتنتك وجنتك كما كنت دائما تقول، كنت تكبرني بسنوات كثيرة رغم ذلك لم تشعرني بفارق العمر بيننا، الآن لا زلت أنت في السابعة والثلاثين من عمرك، أما أنا فقد كبرت خمسة أعوام، لقد تقلص الفارق بيننا إلى سبع أعوام فقط. كما ترى لقد أصبحت دعاء الطبيبة النفسية ولا أحد غيرك يعلم هذا، كلهم يعتقدون أنني فاقدة للذاكرة بصفة نهائية، حتى أمي الجديدة تقص على حكايات عن زوجها وكأنه أبي، تحاول أن تشعرني بطعم زائف لذكريات لم أعشها قط، ولكنني أحاول إرضائها لأنها قدمت لي كل شيء، حتى عملي في هذا المستشفى كان بفضل علاقاتها. سأعرفك عليها قريبا، ولكن لتعلم شيئا مهما أنني لم أعد يهودية كما كنت، فقد هداني الله إلى الاسلام.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD