(الكفيف)
رفع أحدهم يده بابتسامة أمل ،أظن أنه أكثر الجالسين طلبا للشفاء ،فأذن الطبيب له بالتحدث ، نظر إلينا جميعا ثم تن*د وعاود ابتسامته ، سأخبركم من أنا ، فربما أنا أكثركم فرحا بهذه الجلسة ، ولكنني لا أريد أن يعرف أحد اسمي ، فكما في سجلات الدولة ذكر أنني ميت ، أريد أن أظل بالنسبة لهم ميتا.
ربما إن شعرت بأني أصبحت منسيا ، فقد تنسى الأرض ما فعلت ، يوما ما.. منذ ثلاثين عاما كنت أحتاج العلاج ، ولكن لم يشعر بي أحد ، حتى أبي وأمي لم يشعروا بما أشعر ، ربما تعبا أشد التعب معي ، فأنا ولدت كفيفا ، أتعرفون معنى أن يولد شخص بهذه العاهة؟ أن يحتاج رعاية كاملة؟
حتى قضاء حوائجه في الخلاء لا يتقنها ، كنت أسمع كلمات الآخرين المستهزئة عني ، وهم يدعونني بالشيخ صابر الكفيف ، رغم أن سني وقتها لم يتعدَ العشرة أعوام.
لم أكن أعلم معناها ولكن ضحكاتهم أخبرتني بالمعنى ، حين طلبت من أبي أن يترك يدي ذات مرة ، فانزلقت فجأة داخل بلوعة للصرف الصحي في الطريق ، كان أبي يصرخ كي يساعده أحد في استخراجي ، حتى نجح أخيرا ، وكانت ذلك أول تعامل لي من البشر ، منتهى السخف والتنمر واللامبالاة.
- قاطعه الطبيب مستفهما: ولكنني أرى أنك مبصر ، حتى التقارير الطبية تقول أنك حاد البصر ، قوي السمع؟!
- فابتسم صابر وأكمل كلماته دون أن يكترث لتساؤل الطبيب: أدخلني أبي مؤسسة لتعليم المكفوفين ، لو قلت لكم أنها لم تكن مؤسسة ، بل كانت وكأنها الفرع الرئيسي لمعتقل أبو غريب لن تصدقوني ، ضربات تأتي عن يميني وعن يساري دون أي أسباب ، أظن أنهم كانوا يطبقون المثل الشهير(اضرب المربوط يخاف السائب).
ولكن كيف كانوا يظنون أن ذلك قد ينجح معنا ، فكلنا مكفوفين؟
ذقت الذل والويلات مرارا ، كنت أشتكي لأبي حين يأتي لزيارتي ولكنه لم يكترث ، كان يدفع المصروفات ويمضي في طريقه ، حتى قررت الهروب ، ستتساءلون حتما كيف سأفعلها وأنا كفيف ؟! حسنا سأجيب كل تساؤلاتكم ، كان معنا فتى ليس بمكفوف ، وليس بمبصر ولكنه ضعيف النظر أكثر مما ينبغي وقد ساعدني للهرب.
حينما خرجت قابلت طبيبا نفسيا ، أريد أن أخبرك يا طبيبنا العزيز ، أنك لم تكن أول طبيب تعقد هذه الحلقة ، فقد كانت فكرة طبيب آخر ، ذلك الطبيب أخبرني أن أبدأ من جديد مثلما فعلت أنت ، وساعدني بالفعل حتى قابلت طبيبا للرمد ، وقمت بإجراء عملية وشفيت تماما ، كما ترى أرى مثلكم ، كانت أعيني لا أمل في شفائها ، ولكن الحل أن أجد متبرعا.
وتم التبرع من مجهول ، وحين ألحيت عليه أن يخبرني من ذلك المجهول ، شعرت بتوتره وعندما صممت أن أعرف ، أخبرني أنه كان أبي.
أتعرف إحساسك حينما يتبرع لك أكثر شخص بغضته في حياتك بأثمن ما يملك ، ولكنه وترك لي ورقة إن عرفت أنه هو يوما ما ، ملخصها أنه لم يكن لي يوما أبا صالحا ، وأن أستمع لكلام الطبيب مهما كلفني الأمر.
انتابتني قشعريرة حين أخبرني الطبيب بوصية أبي ، فقد كانت وصيته ، أن أتبرع بأعضاء جسده للمستشفى الذي يعمل فيه الطبيب ، ترددت أولا ثم استسلمت للوصية.
كانت كلمات الطبيب كالسحر ، إذ أخبرني أن التضحية بأجساد الموتى لإنقاذ المرضى عمل نبيل ، فلولا عيني أبي لما رأيت النور ، ولكانت عيناي تسبح في الظلام حتى الآن ، ولكنني غرقت في ظلام من نوع آخر ، فعجز النظر شيء وظلمات القلب شيء آخر.
لقد ظللت على هذا الظلام ، وأنا أظن أن عملي خيرا أجزى عليه ، حتى قرر الطبيب البوح بكل شيء ، سألني ذات يوم عن مفهومي عن القصاص.
أخبرته بأن العين بالعين ، والسن بالسن ، والرمح بالرمح.
- ابتسم ثم قال: إذا ضربك أحدهم فعليك ضربه أليس كذلك؟
- أجبته برضا تام بأن نعم.
أخرج من جيبه ورقة ، دون بها بعض أسماء الذين عايروني مرة بأني كفيف ، وقال: هؤلاء اليوم سيصبحون مكفوفي النظر.
رفضت في بادئ الأمر ، ولكن بعد تأثير سحره اقتنعت ، حتى عائلتي ضحيت بهم ، أمي التي لم يكن لها قلب وجدتها أمامي ، قررنا اقتلاع قلبها ، كنت واقفا أثناء استئصال القلب ، وحين أخرجوه من جسدها لم استوعب ما حدث فوقعت أرضا كالمغشي عليه ولكنني ما زلت واعيا لما يحدث ، فتكلم القلب هامسا بخوف (بسم الله عليك).
فأمسكت مشرطا وقطعت به شريانها التاجي الموصل للقلب ، حقا لقد كنت حقيرا بما يكفي لأضحي بعائلتي.
(حكاية ياسمين)
دارت عيون مصطفى بين المرضى ، فاختار من بينهم فتاة بيضاء البشرة ، يبدو من ملامحها أنها من الطبقة الأرستقراطية ، بشعرها ال**تنائي ، وخضرة عينيها ، وملابسها المنمقة كإحدى عارضات الأزياء الشهيرات ، أشار إليها بأن تقص عليهم خبرها.
نظر إليها الجميع منتظرين لها أن تحكي لهم ما أتى بها إلى هنا ، وأخيرا بدأت الكلام بصوت خافت ، قائلة: أنا ياسمين ، في العشرين من عمري ، دائما ما يؤرقني سؤال واحد منذ كنت صغيرة ، هل استحق كل ما يحدث لي؟ ولماذا لا يملك الجميع القدرة على تحقيق وعودهم؟ أكانوا جميعا كاذبين ، أم أنني كنت ساذجة لدرجة تصديق وعود واهية؟!
علمتني الحياة أن الكلمة عهد ، وأن العهد دين والدين لا يوفيه أي رجل ، لماذا على أن أسامح العديد من المرات ليعيدوا نفس الغلطة ، وفي كل مرة أعود بابتسامتي وأغفر؟ لماذا يختارونني أنا بالتحديد ليحتالوا علي بغراميات كاذبة؟
لم يكن طموحي أبدا حب رجل ، لم أكن أنتوي أبدا خوض تلك التجربة للمرة الثانية ، هل أخطأت حين سلمت قلبي لمن لا يرحم؟
لطالما أخبرتني أمي وأنا في الخامسة من عمري قائلة؛ إذا جاءك غريب وأخبرك أنه سيعطيك الحلوى ، لا تذهبي معه يا صغيرتي ، فهو سيأخذك من بين أحضاني ، سيحزنك ، سيبكيك ، ستنسين نفسك ، وتدخلين في دائرة من البكاء لن تخرجي منها أبدا.
الآن أيقنت أنه كان ذلك الغريب الذي أخبرتني عنه أمي ، ولكنني لست ضعيفة إلى هذا الحد الذي يجعلني أظل باكية مفطورة القلب لسنوات ، من أجل رجل خدعني وسار في طريقه غير مبال ، بل دمر حياتي وأخذ في طريقه كل شيء ، أخذ الأخضر واليابس ، ليتركني في صحراء جرداء أواري ضعفي ، وكأنني خيمة في مهب الريح تناثرت أوتادها وتد وراء وتد ، أو كشجرة في مهب الريح ت**رت أغصانها ، وتطايرت أوراقها ، وكان حولها حية فدنست ظلها فلم يعد لها فائدة ، وصمتها بالموت حتى لا يقترب منها أحد.
ليواصل خططه اللامتناهية في خداع إحداهن كما خدعني ، فأنا انتظر يوما سيأتيني فيه راكعا ، يطلب المغفرة ، ولكنني وقتها لن أبالي بشخص دميم القلب خالي المشاعر مثله ، ولكن لم يجيبني أحد على ذلك السؤال أبدا ، ودخلت قائمة من اللعنات والمآسي ، وقلت لن أبالي بكل ما حدث ، غدا سيكون أفضل ، ولكن الغد الأفضل لم يأتِ.
النفق المظلم لم ينتهِ بعد ، والشمس خرجت من مغربها ولن تأتي أبدا ، قيامتي أتت وأصبحت داخل قبر مقفر لا مفر منه ولا هرب.
صمتت ياسمين قليلا ، والجميع ينظرون إليها غير مستوعبين ما تقول ، يبدو أنها مشتتة نوعا ما ، الجميع يريدون إشباع فضولهم ومعرفة ما حدث لها.
بعد دقيقة صمت أكملت؛ حكايتي ستتعجبون لها أشد العجب ، حكايتي ستنشدونها ولسوف تدرس في كلية الحقوق ، ليتعلم الحمقى كيف أن القانون لا يحمي المغفلين ، وأن عليهم أن يفرقوا بين العدل والحق.
كنت في الحادية عشر حين سمعت همهمات في غرفة أمي ، رغم أنها تبيت وحدها لسفر أبي ، ظننت أن أبي قد عاد ، شعرت بفرحة كأي طفلة ، فعودة أبي تعني هدية ذات قيمة ، ربما فستان جديد أو عروسة ، ولكنني حين اقتربت من غرفتها سمعتها تضحك بغنج ، تتأوه وتصرخ وكأنها في حلبة قتال ، سمعتها تقول يكفي يا صلاح ، صلاح!
لم يكن أبي اسمه صلاح ، إن صلاح هذا هو السائق ، أيعقل أن يكون صلاحا يضرب أمي؟!
فتحت الباب على مصراعيه لأنقذ أمي ، فقد اعتقدت أن طفلة في الحادية عشرة قد تستطيع إنقاذ أمها من رجل عملاق ، كان المنظر رهيبا ، فقد كانا يحتضان بعضهما البعض ، ولكنهما دون ملابس ، كانوا عرايا تمام!
كانا منسجمين تماما حتى أنهما لم يرياني ، وكأني طيف أمر وأمضي حيثما شئت ، ولكن الله كان بالمرصاد ، فتلك الليلة عاد أبي على غير عادته ، لقد سمعت صوته وهو يفتح مزلاج البيت ، ارتميت بين أحضانه أبكي ، فاحتضنني بقلق ، ثم سألني لماذا تبكين ءآذتك أمك في غيابي؟
وضعت يدي على فمه وهمست قائلة: اخفض صوتك ، أمي لم تؤذني قط ، ولكنها الآن تؤذيك أنت ، إنها بالأعلى تفعل شيئا بشعا مع السائق ، لا تستعجبون فأنا كنت في الحادية عشرة ، لست كبيرة كما ينبغي ، ولكن التلفاز فتح أعيننا حين عرفنا منه كيف تتم العلاقات الحميمة ، لعنة التقدم شوهت عقولنا مثلما قتلت براءتنا.
أنزلني أبي من بين يديه ، وطلب مني أن أذهب إلى غرفتي دون أن أحدث أي صوت ، ثم فتح حقيبته وأخرج منها هاتفه ، صعد إليهما بالأعلى حيث مسرح الجريمة ، وصعدت خلفه وتواريت كي لا يراني.
دخل عليهم الغرفة فلم يشعروا به ، ظل واقفا لدقائق معدودة يصور ما يحدث ، حتى سمعت صوت أمي تصرخ عاليا ، أخرج أبي مسدسا من جيبه ، تكلم بصوت عالٍ لم أعهده منه قبلا ، أيها الأنجاس تفعلونها في مضجعي؟ هل تريدون فضيحة علنية على الفضائيات المصرية؟ أم نقول قتل الزوج زوجته وسائقه بعدما وجدها بين أحضانه؟
أرى أنكما صامتان ، ربما الصدفة قطعت ألسنتكما ، أنتما بالطبع لا تريدان الفضيحة ولا تريدان الموت ، تريدان أن أغفر وأصفح عنكما ، أتتخيلان أني كالخروف بلا أي إحساس؟
أنا مثلكما لن أفضح نفسي ، ولن أضيع ولو ثانية من عمري في السجن بسبب ع***ة ، ولكنني أيضا لن أترككما أحرارا ، لقد حرمتك على نفسي كتحريم الأخت والأم ، بالنسبة لابنتك لن تريها ثانية ، وستمضين على وثيقة تنازل عن حضانتها ما دمت حية ، حتى وإن مت ستكون حضانتها لأقرب حي من عائلتي ، أما أنت فالسجن حلال عليك ، حينما تمضي على وصل أمانة الآن.
وهكذا وافقت أمي على تركي بدلا من قتلها ، تلك كانت أقل الخسائر ، فلو كنت مكانها ، لتنازلت عن اثني عشرة من الفتيات لا فتاة واحدة ، أما بعد فقد أصبحت الحياة سيئة بشكل كبير ، لقد أصبح أبي سكيرا ملازما للبيت لا يخرج أبدا ، حتى شركته أصبح يديرها من المنزل ، فقد ترك إدارتها لنائبه ، بالنهار كان دائما نائم وفي الليل ساهر.
أهملني بشكل ملحوظ حتى ظننت أنه نسي هيئتي ، عاودت أمي الاتصال بي ، لقد اشتقت لها كثيرا ، سألتني إن كان أبي تكلم عنها أمامي ، فأنكرت اني أعلم ما فعلته ، فمهما حدث منها ستظل أمي ، كانت تذهب أينما ذهبت لكي تراني فقط ، ذات يوم قابلتني وأخبرتني أن أبي قد فضحها في البلد أجمع ، الفيديو انتشر والجميع شاهدوه ، ولم يعد لها مكان هنا أبدا.