نظر إليها ميشيل نظرة ذات معنى وانفتح فاهه على مصراعيه، استطردت قائلة : لا تفغر فاهك هكذا، كل ما عليك الآن أن تهدأ ولا تفكر، مكوثي معك في الغرفة لوقت طويل سيثير الشكوك حولنا، انسَ أنني راشيل ،وأمام الجميع نادني باسم دعاء.
- ميشيل بتؤدة : حسنا يا دعاء.
لملمت دعاء نفسها ورحلت من أمامه بخطوات ثابتة.
كانت دعاء تسير بين الممرات شاردة الذهن ، تفكر هل ستظل في هذه اللعبة كثيرا وهي لا تعرف من هي في الحقيقة؟
الحياة بالنسبة لها عبارة عن عربات قطار متصلة ، لها بداية ونهاية تدور حول خط واحد مارة بمحطات عدة ، وهي تاه عن عقلها جل ما مرت به ، فأصبحت كالفراشة المعلقة بين السماء والأرض ، لا تعرف وجهتها ولا تعرف ماذا عليها أن تفعل ، أحيانا الفضول يدفعنا بأن نفتش في سراديب الماضي ، ولكن ما إن نكشف خباياه حتى نندم ونتمنى أن ننسى ما قد عرفنا ، شعرت بالضيق فأخرجت هاتفها النقال واتصلت بأمها ، تكلمت بصوت مكتوم : السلام عليكم..
- شعرت الأم بها فتزايدت دقات قلبها لترد عليها بقلق : وعليكم السلام ، ماذا بكِ؟ ما بال صوتك لا يريحني ؟
- ترقرقت دمعة دفينة في مقلتي عينيها ثم قالت : أمي أحتاج إليك كثيرا..
- الأم بهلع : ماذا حدث؟ هل أنت بخير.
- دعاء : لا تقلقي يا أماه أنا فقط متوترة نوعا ما ، وأردت سماع صوتك كي أشعر بالأمان.
- الأم : أين أنتِ الآن؟
- دعاء : ما زلت في العمل.
- الأم بصوت دافئ : حسنا.. عشر دقائق فقط وسأكون معكِ ، لا تغلقي المكالمة سنظل سويا على الخط انتظري.
بدلت الأم ملابسها سريعا ، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى أتتها متخطية حاجز الزمن ، احتضنت صغيرتها ولم تتفوها بشيء ، أبعدت الأم ابنتها وهي تمسك منكبيها بشدة ، ثم همست قائلة : لا تقلقي أنتِ الآن معي ، سنخرج من هنا إلى أقرب نادي نتناول غدائنا وتفرغي كل ما بداخلك.
دعاء هزت رأسها مستسلمة تماما لكلمات أمها ، وصلا إلى أبواب أحد النوادي ، مرا لداخله وجلسا على أقرب منضدة في طريقهم.
بعدما جلست لاحظت كتيبا صغيرا وريقاته سوداء ، فتحته لتجد ما توقعته...
(الخطاب الثاني)
إلى الطبيبة راشيل رافع ، سلام عليك وعلى من تجالسك الآن ، قبلما أظهر لأحاورك فيما حدث وقبلما أطلب منكِ أي شيء ، سأخبرك عن نفسي الكثير مما لا يعرفه أحد ، حتى أنا لم أكن أعرف عن حقيقتي شيئا حتى علمت من وقت ليس بالبعيد ، سأخبرك الكثير والكثير عن ميشيل رافع الذي اختفى في القرن الماضي ثم ظهر ثانية ، ليختفي ثانية بعدما عرفنا جميعا حقيقته ، أعلم أنكِ تقرئين خطابي الآن ، وأنا أنتظر بمكاني حتى تستفيقي من صدمتك.
هذا خطابي الثاني ، أكتبه لكِ بعدما وصلت لقمة قوتي في رحلة غامضة لم أكن لأفهمها حتى وصلت لمنتهاها ، لن أطيل في المقدمات المملة لأنني لا أحب المماطلة سأبدأ بقصتي ولتنتبهي فهذه حكايتي الحقيقية ، أسردها لكِ من داخل مستشفى النيل للصحة النفسية بالغربية ، بعدما استطعت أن ألتقط أنفاسي بعد سنوات قضيتها حبيسا داخل غرفتي البيضاء بتلك المصحة :
أنا رعد ، صاحب القصة وراويها وضحيتها ، وربما أنا ما وراء المأساة من بدايتها لنهايتها ، ها هنا أنتهي من حيث بدأت ، حيث مسقط رأسي وربما كانت نبوءة عائلتي صحيحة وليست حكايات تخييم أو أسطورة مثلما كنت أعتقد.
لم يكن موت أمي موتا طبيعيا مثلما اعتقد أهلي قديما ، كنت في السابعة من عمري حين كنت أراها تختلي بنفسها كثيرا في غرفتها المظلمة ، لطالما سمعت أصوات وهمسات وأحيانا صرخات مكتومة لها أو كما كنت أظن أنها لها ، حتى جاء ذلك اليوم الذي علت فيه صرخاتها فأفزعت من كان موجودا بالمنزل ، **ر أبي الباب ليجدها ملقاة على الأرض منكبة على وجهها ، ويديها ممدودتان أمامها وكأنها كانت تزحف لتنقذ نفسها من شيء ما ، عيناها الفزعتان وفمها المفتوح كانا لا ينذران بخير ، هناك شيء ما تسبب بقتلها.
حملها أبي بين يديه واتصل بصديقه الطبيب ، الذي أخبره بأنها قد فارقت الحياة.
سأله أبي عن سبب الفزع الذي يرتسم بعينيها ، فأخبره الطبيب بأنها آثار سكرات موتها ، لم أكن أفهم ما يقولون ، ولكنني رأيت نظرة ارتياح في أعين أبي رغم الحزن الذي يعتريه.
تسللت إلى غرفة أمي وكما عودتني أن أصلي بجانبها ، دخلت لأصلي بجوار جسدها المسجى أرضا ولكن ما إن بدأت حتى أغشي علي ، وبدأت الكوابيس فكأن الغرفة تبدلت وسقطت في بئر سحيق من الظلام ، رأيتها تقف بجانبي بفمها المفتوح وعينيها الحمراوين تنظر إلي بكره وغيظ وكأنها تتوعدني ، شعرت بأن أنفاسي حبست وكأني لم أر حبا منها قط.
تغيرت أمي ، تغيرت ملامح الغرفة ، وكأنني في غابة ولكن الثعابين تملكتها ، أحاطتني الأفاعي في دائرة مغلقة وخفضوا رأسهم وكأنهم ساجدين أمامي ، حاولت أن أصرخ ولكن صوتي أبى أن يخرج من حلقي ، أغمضت عيني لا أعرف كم من الوقت قد مضى ولكنني استفقت ، حين شعرت بالماء يتدفق فوق رأسي ، فتحت عيني لأجد أبي يحتضنني ويسألني عن سبب تسللي ، حاولت النطق ولكنني لم أستطع ، عرفت وقتها أنني فقدت النطق وضاعت مني الوسيلة الوحيدة للتواصل مع أبي.
رأيت تلك الأفاعي تخرج من الغرفة أمام ناظرهم ولكنني أنا الوحيد الذي أراها ، لم يكن كابوسا كما ظننت ، كان حقيقة مؤلمة ماتت أمي بسببها أو ربما قتلوها لسبب ما لا أعرفه لصغر سني.
مرت الأحداث مسرعة؛ مظاهر الغسل وتشييع جنازتها ، مشاهد المقابر وأسماء أموات مكتوبة من مئات السنين ، تساءلت في نفسي يا ترى كل من مات رأى ما رأيت أم أن حكاية أمي تختلف عنهم؟!
انتهت المراسم بل ومرت أيام وأيام ، كنت أراهم حين أنام بآخر وضعية لهم وهم ساجدين أمامي ، حاولت ألا أخاف ولكنها الفطرة ، فطرة الخوف من المجهول.
اقترب أحدهم مني وأخرج فحيحا بلغتهم ولكنني فهمته ، لا أعرف كيف ولكنه كان كالآتي : (انتهت العملية مثلما أردت سيدي ، ماتت أمك مثلما تمنيت ، في انتظار أوامر أخرى ، إذا أردت أن تطاع مرة أخرى فعليك بتقديم الدم الاقرب إليك)
لم أفهم لصغر سني فأومأت برأسي ، واختفى المشهد ومرت سنوات كثيرة ولم أرهم بعدها قط ، حتى وصلت للمرحلة الثانوية ، وعندها كان مقتل والدي في حادث غامض ولكن موته أخبرني بالقصة من بدايتها ، وقتها فهمت لماذا ماتت أمي.
لقد كان مقتل أبي الطامة الكبرى حيث مات مسموما ، ملدوغا من أفعى كانت بجوار بيتنا ، نسيت أن أخبرك أنني من محافظة الغربية ، حياتي هي الريف والخضرة والهواء النقي ، أصدقائي هم البهائم في حظيرتنا ، والتي بلا سبب تبتعد عني وتزمجر حين أقترب ، ولا أعرف لماذا وكأنني عفريت ولست بشري يحن عليهم بطعام وشراب.
علاقتي بعلماء وشيوخ بلدتنا شبه خربة فلا أحد يريد أن يعرفني ، الجميع يكرهني بلا سبب رغم أنني لا زلت لا أتكلم وهم كانوا يتجاهلونني وكأنني أبكم وأصم ، أسمع الجميع يتهامسون بأني ملعون أو يظنون بأنني ملعون لا أعرف لماذا!
ولكن ما أعرفه أني لا أكره أحدا ، لأن من يتهامس وأسمع همساته الخبيثة أتمنى موته ، وما أن يختفي من أمام ناظري وأنشغل بشيء ما ، حتى أسمع أنه فقد واختفى ، ربما غرق في إحدى الترع أو مات إثر سم ما.
نظرتي كانت كافية لأن يسكت الجميع ، أظن أن الكل يعرف ما تخبئه نظرتي عداي أنا لا أعرف شيئا.
لما يموت كل من حولي؟! في العموم لا أهتم لكل ذلك فمأساتي هي موت أبي ، وليست موت البعض من الخبيثين أنصاف البشر المهجنة بح*****ت دميمة ، كانت حياتي تبدو طبيعية أو شبه طبيعية ، دراستي كانت كالكابوس ، الطفل البغيض المنفي في آخر مقعد تحول أخيرا إلى مراهق بالثانوية ولم يتزحزح مكانه عن آخر مقعد ولو لبضع سنتيمترات.
تلك مأساتي مع الفتيان والرجال ، أما عن الفتيات فكنت فتى لأحلام الكثيرات ، كلهن معجبات ، كلهن عاهرات ، أسمع همساتهن أرى نظرات الإعجاب ولكن لا تستطيع إحداهن أن تقترب قيد أنملة لبغض عائلتها لي ، حتى وجدتها من بينهن تلك الفتاة القصيرة غادة ، شعرت بأنها كل شيء لي ، عائلتي التي لم أشعر بدفئها يوما وجدتها داخل عينيها ، كنا نتبادل النظرات وأخاف الاقتراب ، وقررت يوما أن أتجرأ وأفصح عما بداخلي.
تجاوبت معي ، شعرت أنني ملكت الكون بقبضة يدي ، ولكن لا كمال في الدنيا ، لا يوجد حب كامل ولكنني أرجو أن تدعيني أكتبها لك من البداية؛ قديما كان العرب والمصريون يستخدمون الرسائل الملونة ، العبقة بأجود أنواع العطور الفرنسية ، والمزينة بالرسومات اليونانية ليخطفوا عقول وقلوب من يحبون ، بل يكتبون في بداية خطاباتهم كلمات فرنسية لأنها تجذب عقولهن فكما قال أحد الفلاسفة الثرثارين : "اذا أردت مخاطبة النساء فخاطبهن بالفرنسية"
أما الآن فالأمر أسهل بكثير لخطف عقولهن ، فما أن تخطب ابنة خالة الفتاة حتى تنهرها أمها عن سبب تأخرها في الزواج ، وكأننا في موسم تزاوج الكلاب وعليها أن تخرج ريحها لينجذب باقي القطيع لرائحتها.
أصبحت جميع الفتيات تنتظرن الفارس على حصانه أبيض اللون ، أو تقمن باصطياده بإحدى شقلباتهن في أحد الافراح ، ويأتين كالمجاذيب معجبين بفتاة مولد السيد البدوي.
أما الأخريات فلا حول لهن ولا قوة ، فهن جالسات عفيفات على حواسبهن المحمولة ، يستمعن لتلك الأسطوانة اليومية؛ لن تتزوجي أبداً لأنك خائبة الرجاء كالأرض البور.
ولكن تظل العروض المتتالية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي ، المسماة بالفيس بوك للتعارف فإما تصيب أو تخيب ، وللأسف الكثيرات يقعن فريسة بين براثن الكلاب المفترسة ، ومن كلب لكلب تصبح كاللقمة السائغة ، تنتظر حملا وديعا يغفر لها ماضيها ، وتحاول نسيان ما اقترفت من ذنوب.
ولكنها غادة ، تلك الفتاة التي اختطفت قلبي واستوطنت عقلي ، حكايتها معي كانت مختلفة ، فنحن بالفعل كنا صديقين ولسوء حظها أنني لم أكن أحسن الكلام ، لأني كما قلت لم أتكلم منذ كنت في السابعة من عمري ، فكان الكلام دائما يقتصر على كلمات تكتب في محادثات إليكترونية ، تغازلني فأبتسم وكأنها تداعب طفلا في مهده ، ولكنها لم تكن ترى ابتسامتي من خلف الشاشات ، وتلك مشكلة الحب الإلكتروني يخفي أكثر ما يظهر.
حتى ردودي عليها لم تكن بنفس قوة كلماتها ، كانت تطلب دائما ردودا رومانسية لا أعرفها ، فأنا كالفتاة البكر التي لا تعرف شيئا عن أي شيء ، كنقطة الندى التي وقعت من فوق شجرة عالية فوق طريقا من الأسفلت ، ظللنا كثيرا مع بعضنا البعض ترسل رسائلها لأرد برد بسيط؛ إني أحبك ولكنني غير ماهر بالكلمات ومتى كانت الكلمات دليلا كافيا للحب؟! فرب ماكر زلزل فؤاد فريسته بالكلام ، ورب حبيب رفع مليكته فوق السماء بأفعاله.
ربما لم تقتنع فأصبح تنمرها وازدرائها يزداد يوما بعد يوم ، حتى سألتها ذات يوم لماذا تغيرتِ وأصبحتِ دائما متأففة من الحديث معي؟ أفعلت شيئا أزعجك؟
- أجابت : أنا لا أستطيع أن أستمر في هذا العبث ، لقد أصبحت أضحوكتهم بسببك ، يجب أن تبتعد عني وتتركني وشأني.
- ابتتها وأنا غاضب : ماذا أحببتِ في إذا؟ فأنا منذ البداية لا أتكلم ، وأنت أول تجربة لي ، أنا وجدت نفسي معك ، الآن ليس لي سواكِ ، وتعرفين كل ذلك.
لست مفعما بالأحاسيس مثل باقي الزملاء ، لا أستطيع القهقهة والضحك مثلهم ، لا أستطيع التراقص ، لست مثلهم في أي شيء حتى أنني لست مميزا ، أنا مكروه ووجدت ضالتي بكِ ، أنا اقتربت حينما فتحتِ الباب لي ، فلمَ تغلقينه الآن لمَ تقتلين آخر أمل لي في أن أصير مثلكم طبيعيا ذو قلب يُحِب ويُحَبْ لماذا تفعلين ذلك؟!
أحقا كل ما أردته هو أن ت**ريني ، ماذا فعلت لكِ؟
كنتِ دائما تنظرين إلي بأعجاب من بينهم جميعا وكأنني فتى أحلامك ، شعرت برغبتك في الاقتراب ، خفت من ضياعك فاقتربت أنا.
حقا لقد صدق من قال ومن الحب ما قتل ، كانت غاضبة فحسب ، أخبرتني بأن لا داعي لذلك الهراء ، وأنها كانت تريد شخصا طبيعيا يغدقها بحب لا ترى مثيله ولكنني غريب الأطوار.
حتى اقترابها كان مجرد خطة لمعرفة ماهيتي ولكنها فشلت ، فلا أنا صالح للمعيشة ولا للحب ، ما أنا سوى آلة غ*ية تأكل وتشرب.
أغلقت حاسبي بغضب متوعدا إياها ، ففي النهاية سيفتقدها أهلها كثيرا!
ولكن بعدها عرفت أن الإعجاب أدنى درجات الحب ، فالمسكينة كان يعجبها حب الأخريات لي تريد ، أن تسبقهم للإيقاع بي في شباكها ، ويا ليتها ما فعلت! فلعنة الفضول دائما ما تقتل صاحبها.
نمت باكيا ، لأول مرة منذ سنوات تمنيت لو أراهم ، أن يأتوني ولو لمرة أخيرة لتنال تلك الكاذبة عقابها ، انتظرتهم يوما فالثاني فالثالث ولم يأتِ أحد ، حتى ظننت أن ما حدث بالماضي كان مجرد وهم ، وأنني كنت أحلم ، ولكن إن لم يكن بي شيء ، فلماذا أنا ملعون ومكروه؟
لماذا يبتعد عني البشر ، حتى الح*****ت تخاف وتهرب مني عدا الذئاب تظل تطاردني؟
حتى تلك الليلة التي قررت فيها أن أقوم بآخر تجربة لعلها تنجح ، أغلقت باب غرفتي ثم قطعت شرايين يدي ، وناديت بأعلى صوتي : أيتها الثعابين إني أقدم دمي فإنه أقرب من أقرب دم لي ، أيتها الثعابين أنا أريد تدمير البقية ، أريدهم أمواتا ، لا أريد أحدا على هذه الأرض ، إن كنتم تستطيعون تنفيذ مطلبي فها أنا أمامكم بدمي ، عليكم تنفيذ الاتفاق.
فجأة شعرت بزلزال قوي وأغشي علي ، رأيتهم كما تركوني منذ سنين عدة واقفين أمامي ، اقترب كبيرهم مني ، وأخرج فحيحا : (دمك ليس المطلوب ، رغم أنه غالٍ علينا فلا تهدره ، نعلم أنك تريد تدميرها ، الدم الأقرب إليك هو أبيك فإن أبيت فلا طاعة لك ، وإن وافقت فطلباتك مجابة ، تذكر لا تهدر دمك فإنه مختلط بدمائنا).
فتحت عيني لأجد تدفق الماء على رأسي ، وكما حدث بالماضي من أبي تكرر ووجدته يحتضنني ، صراع بين حبي لأبي الذي ضاع لسوء معاملته ، وبين انتقامي ممن جعلتني دمية بين يديها فكان الانتقام اختياري ، ضحيت بأقرب دم لي ، ضحيت بمن يربطني بعالم البشر ، ضحيت بدمي.
وجدتني بلا سبب أهمس في أذن أبي فائحا : لن تعيش طويلا ، حياتك على المحك يا أبي .
ورغم ثقتي بأنه لن يفهمني ، كنت أعلم بأنه شعر بأني أدبر للخلاص منه فنظرتي كانت كافية ، وجدته يرتعد ولكنه يظهر ع** ذلك ويحاول الثبات ، رغم ثقتي بأنه فهم ما أخبرته به ، لم أحتضنه حتى ، لم أودعه الوداع الذي يليق به كأب لي ، بعد ذلك بساعتين وجدوه قتيلا خارج البيت.
لا أنكر أنني تفاجأت بموته بتلك السرعة ، ولن أنكر أيضا أنهم ينفذون عملهم بحرفية كفرقة اغتيالات من المافيا ، وكل ضحاياهم يموتون في حوادث تصنف تحت صفة القضاء والقدر.
مرت مراسم الموت للمرة الثانية ولكن تلك المرة لم يكلمني أحد ، أخي وعمي من تكفلوا بكل شيء أما عني ، فكنت أقف بعيدا أشاهد في صمت ما يحدث وكأني ضيف عليهم ، حتى الصلاة لم أستطع أن أصليها عليه ثمة شيء لجمني.
انتظرت المقابل بعدما قمت بتقديم دمي الأقرب فلم أسمع به ، كنت أراها يوميا على عهدها ، تضحك مع زميلاتها لا تأبه لنظرات **يرها الذي خدشت قلبه بلا سبب ، حتى جاء ذلك اليوم الذي حلمت فيه بأني أمشي بين الخضرة ، وخلفي تلك الأفاعي وكأننا مجموعة من الأصدقاء خارجين في نزهة لطيفة ، وكل خطوة نخطوها نجد شخصا ما معلقا من قدميه على أحد الأشجار ، الكثير من الضحايا أمر عليهم فلا آبه لهم ، حتى رأيتها مقيدة باكية منتحبة ولكنها حية لم يمسسها أحد منهم ، اقتربت منها ، صرخت بي أأنت من فعلت هذا؟ أأنت من قتل عائلتي؟
- أكملت قائلة : أعلم أني **رت قلبك ، أعلم أني لطخت روحك بالجروح ، ولكن ما ذنب عائلتي؟
كنت أعلم أنك ملعون من البداية الكل يعلم هذا ولكن لماذا عائلتي؟ لماذا هم؟ ألم يكن قتلي يكفيك؟
- همست الأفعى الكبرى في أذني قائلة : إن قتلتها سترحمها ، ولكن بلمسة صغيرة من إصبعك تصبح مجذوبة القرية ، ستظل معذبة مدى الدهر.
لمستها على جبهتها فصرخت بأعلى صوتها ، صحوت من نومي على صوت جلبة بالقرية ، علمت أن جميع أفراد عائلتها ماتوا بلعنة ما ، أما عنها فمختفية، لم يرها أحد، لقد نلت بدم أبي دم اثنين وسبعون دم مخلوق آخر ، تلك معادلة عادلة.