الفصل الثالث

2487 Words
كانت رائحة الموت تطاردني أينما لبثت ، أصبحت وحيدا كآخر جرثومة قضى المطهر على 99% من نسلها ، ولكنني كنت الجرثومة التي لا تقهر ، ربما كنت الفيروس الذي تسبب في قطع نسل عائلته ، ولم يتبقَ سوى الأقلية الذين لا يريدون معرفته. تركت البيت وفضلت البقاء كالمطاردين في مزارع القصب ، أتذكر لحظات جمعتني بأمي حين كانت تساعدني في الاستحمام ، أتذكر مدحها لي بأني مميز وسيكون لي شأن ذات يوم ، أغمضت عيني فداعبت رائحتها أنفي وكأنني عدت من جديد بين يديها. فتحت عيني ووجدتني أجلس كما أنا بين مزارع القصب ، ولكن جسدي كان كأنه لشخص آخر ، شعرت أني كالطيف أطفو بلا إرادة مني إلى بيتنا ولكن د*كوره يتبدل شيئا فشيئا ، حتى رأيتها معي تغسّلني ، سمعتها تتفوه بنفس الكلمات التي كنت أتذكرها منذ قليل ، أخبرتني الكثير مما لا أعرفه عن سبب اختلافي عن بقية البشر وهو ليلة اختلائها مع أبي لقضاء حقوقهم الشرعية عرفت وقتها أنه يستلزم على الزوج قول دعاء معين وإلا سيكون الشيطان ضيفا عليهم ، وأبي لم يكن يقل ذلك الدعاء ، حتى شعرت بألم شديد وكأن أبي شخصا آخر ، بعدها عرفت أنها تحملني في أحشائها ، كانت ولادتها غير طبيعية أبدا فقد حملت بي ستة أشهر فقط. فجأة المكان تغير واستفقت لأجدني كما أنا بين مزارع القصب ولكنني عرفت بعضا من الحقيقة ، احترت كثيرا ، هل أنا حقا ابنا للشيطان؟! لا أعرف ، ولكنني سأسألهم حين يأتون ، أعرف أنهم بجانبي دائما ولكنهم لا يأتون أمامي حتى أطلبهم. ظللت على ذلك الوضع أياما ليست بالكثيرة ، أحاول أن أعيش كشخص طبيعي ولكن الطبيعة لا تحبني ، الحيرة مكتوبة عليّ ، شعرت بشيء ما يسحبني لا إراديا إلى عالم آخر ، لأرى أبي قبل موته يكتب خطابا لي وكان الخطاب كالآتي: (صغيري العزيز عندما تقرأ رسالتي سأكون قتيلك لا محالة ، لقد عرفت ذلك منذ سنوات عدة ، منذ نعومة أظافرك وانا أتشمم فيك رائحة أخرى ، لم تكن طفلا كأي طفل ، الجميع يخاف الاقتراب منك حتى الأطفال كانوا لا يلعبون معك ، جلدك كان ناعما ع**نا جميعا ، كنت أشعر أنك لا تشبهنا ، وكأنك لست ابنا لي. انتابتني الشكوك ذات يوم فأجريت تحليل ال (DNA) وتأكدت بأنك ابنا لي ، ولكن حين تفحصوا الحمض النووي أخبروني أن هناك شيء عجيب في تركيبة حمضك النووي ، هناك خليط من حمضين نوويين ذكريين واحدا لي والآخر لم يكتشفوا صاحبه ، بالإضافة لحمض أمك النووي. كنت أعرف أن بك شيء غامض ، حتى جاء ذلك اليوم الذي قتلت فيه أمك ، أنت من قتلها ولكنك لم تتذكر وقتها ، أتذكر حين أغشي عليك جيدا ، أتذكر كلماتك التي تفوهت بها مع الفراغ ، لا أعلم مع من كنت تتحدث ، ربما كائنات فضائية أو أحد الشياطين. كنت الوحيد معها في الغرفة ، وجدتك تقبلها من فمها وكأنك تخطف روحها ، بعدما سمعتك فقدت النطق ولم يخرج لك سوى فحيح يشبه صوت الأفاعي. بالتأكيد هذا ليس دليلا على قتلك إياها ، ولكن المصائب انتشرت في بلدتنا بعدها ، كلما كنت تختفي عن ناظري ، كنت أجدك في مكان ما مغشيا عليك وبجوارك قتيل أو ربما اثنين ، كنت أخفيك عنهم لأنهم بدئوا بالشك بنا ، ولكن من يظن بأن طفلا قد يرتكب كل ذلك؟ أصبح الجميع يلقبونك بالملعون ، وأصبحت مذموما ، الجميع يكرهك ما عداي أنا ، حتى أخوك ابتعد عنك ، تركت عملي وتفرغت لمراقبتك حتى لا يؤذيك أحد أو تقدم على إيذاء نفسك. أذكر يوما حاولت عرضك على أحد المشايخ واستقبلته في بيتنا ، ولكنه هرب وقت دخوله البيت ، لم يستطع تحمل المكوث في البيت أكثر من خمس دقائق ، لا أعرف هرب منك أو ممن كنت تراهم! لا أعرف شيئا سوى أني أريدك دائما بخير ، بداخلنا يا بني ذئبان يتصارعان يوميا ، أحدهما يسارع للخير والآخر للشر ، أريدك بعدما تعرف ماهيتك أن تغذي الخير فإنه دائم ، اقتل الشر بداخلك لا تدعه يقتلك ويسلب آدميتك. حتى وإن كنت ذا قوة تفوق مخيلتك ، فحاول أن تستغلها في الخير لا الشر ، فإن الشر سيقتلك ذات يوم ولن تبقى سوى سيرتك السيئة. في الختام أريدك أن تعرف أنني لم أحب سواك أنت وأخيك ، سأفتقدك كثيرا يا صغيري. أبيك) الآن حصحص الحق فأنا من قتلهم كما أخبرني ، ربما كنت مختلا عقليا مريضا بالقتل منذ نعومة أظافري؟! احترت بين سطور كلماته ، أأصبحت مجرد آلة قتل بين أيديهم لا شخصية لي ، لا لست مميزا. مات الجميع بسببي ، مات الأقربون بسببي ، لم أعد كما كنت ، لقد أطيح بنصفي البشري ، لم أعد أعلم ماهيتي ، ولكنني أعلم أني أقوى من في الأرض ، مثل الذئب الذي سيقبض بيديه على الأرض يوم القيامة ثم يهتف قائلا لو علمت قوتي لقتلت أهل الأرض جميعا. عزيزتي دعاء أنا وأنت داخل دائرة واحدة يحكمها الشر ، لقد أدخلك أحدهم في الدائرة ولسوف أخرجك منها ، إلى اللقاء في الخطاب الثالث ، لأشرح لك لما اخترتك أنت دون معرفة سابقة. (ابن ناچيني) نظرت راشيل (دعاء) عن يمينها وعن يسارها وهي تعلم أن لا أحد سيظهر لها ، فالخطابات تأتيها دون أن تعرف مص*رها ولكنها تعرف ما عليها فعله ، هناك قوة ما لا ترغب بوجود قاتل أبويها ، إذاً فالمصلحة مشتركة وعليها اتباعه حتى وإن كان في اتباعه هلاكها ، فجأة سمعت صوت أمها وكأنه يأتيها من مكان بعيد: - إلى متى ستظلين شاردة الذهن يا صغيرتي ، أين ذهبت ابتسامتك؟ - ذهبت بلا رجعة يا أماه ، لقد عرفت الحقيقة التي لطالما أخفيتها عني ، عرفت من أهلي الحقيقيين و.. - قاطعتها الأم قائلة: أجننتِ يا دعاء؟! أنا أمك ، لو كنت أستطيع أن أعيد إليك ذاكرتك لفعلت ، لقد كنتِ دائما فتاة مشا**ة كما أنت الآن. - ابتسمت لها راشيل ثم قالت: أشكرك على كل شيء ، لقد كنتِ أمي أكثر من أمي الحقيقية ، لم أشعر أبدا بأنني لست ابنتك ، لقد عرفت الحقيقة وعادت ذاكرتي لي. كادت الأم أن تتكلم فألجمتها راشيل وهي تقول: لقد رأيت قاتل أبواي ووصلتني بعض الرسائل الغامضة ، حتى عادت الذكريات تقتحم عقلي ، أنا أعلم أنك تحبينني ولكن أريدك أن تفهميني ما لم أعرفه ، كل ما أتذكره أنني استفقت بالمستشفى ثم عرفتني وقتها بأنك أمي ، ولكن ما أريد أن أعرفه ، من هو الشخص الذي طلب منك أن تتبنيني؟ - تن*دت الأم ثم قالت: الموضوع سري للغاية يا صغيرتي ، سأخبرك ما أعرف لأنني لا أخاف من أحد سوى الله ، ولتعلمي أني لم أقصر أبدا تجاهك لقد كنت ابنتي التي لم أنجبها ، حين استفقتِ طلب مني العميد سيف الدين غياض أن أكفلك وأتكتم على الأمر ، لأنهم ينتظرون ظهور ميشيل رافع قريبك ، إن حكومتنا رشيدة يا صغيرتي ، كانت تعلم أنه سيظهر ولذلك حين وجدوه في المختبر السري ، أتوا به إلى المستشفى الذي تعملين به لتحدث المواجهة ، وكونهم لم يخبروكِ بحقيقتك فهذا لحمايتك فقط ، أخبريني عما تنوين فعله. - سرحت راشيل في الفراغ ثم قالت وكأنها تحدث نفسها: لقد وصل إلي حتى الآن خطابان من شخص خفي ، ولكن في الخطاب الثاني كتب لي أين يسكن ، الآن عرفت ما علي فعله. علي السفر إلى محافظة الغربية ، قبل أن أواجه ميشيل للمرة الثالثة ، لربما حينها أستطيع ردعه والأخذ بثأري. - الأم: أخاف أن يصيبك سوء يا صغيرتي ، فأنت كل ما لدي في هذه الدنيا. - احتضنتها راشيل ثم قالت وهي تضمها: لن يحدث شيء ، لقد عوضنا الله ببعضنا البعض ، سأرجع إليك ثانية لا تقلقي فأنا أعرف ما عليّ فعله. سارت في طريق اللاعودة فهي وحيدة تقابل المجهول بشره ، لا تعرف هل صحيح ما هي مقدمة عليه أم لا ، لقد آمنت بدعوة واحدة "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين" ولكن أين السلامة وهي مضطرة أن تنضم لأحدهم للانتقام من الآخر؟ مرت عليها الليلة ببطء وهي تفكر في خطوتها ، هل تسرعت بقرارها؟ نظرت إلى الساعة المهملة فوق الكومود ، عبس وجهها وكأن الزمن تحول لسلحفاة ساكنة بلا حراك ، حتى أتى الصباح لتنزل من مخدعها وتركب أول سيارة أجرة لتقلها حيث تريد ، وصلت لهدفها (مستشفى النيل للصحة النفسية) كانت تشعر بالخوف ينتابها ، تذكرت حسناتها وسيئاتها وكأنها توقن أنها في الطريق إلى الموت ، رغم رؤيتها للشمس فوق رأسها إلا أن المشهد أمامها كان غريبا ، فقد شعرت بأن النهار اختفى وحل الليل بسبب بتلك الغمامة السوداء التي تخيم عليها منذ تحركت من بيتها ، وكأن أحدا قصد أن يخبرها بأنه يتتبعها. نفضت أفكارها وقررت الدخول للوكر الغامض ، حالة صمت تعتلي الأجواء ، لا يوجد أحد بالمكان رغم أن المستشفى تزينها حديقة شاسعة ، سمعت صوتا يحدثها من داخل عقلها: "لا تقلقي.. لقد أخليت المكان من أجلك الجميع هنا ولكنهم نائمون ، إذا شعرتِ بالخوف ولو للحظة سأوقظهم كي يطمئن قلبك" شعرت بالخوف يحتل كل ذرة من جسدها ، ولكنها الآن على بعد خطوات من المجهول فلا سبيل لها سوى التقدم ، فالرجوع أصبح مستحيلا ، جاهدت خوفها وتقدمت بضع خطوات لتجد شابا حليق الرأس يجلس على أريكة سوداء متهالكة ينظر لها ويبتسم ، وقفت في مكانها مذهولة ، تساءلت بداخلها من هذا؟! أيعقل أن يكون هو من يحدثني ، لقد تخيلته وكأنه شيطان رجيم؟! سمعت صوته يحدثها بداخلها: "الأفعى رغم جمالها الأخاذ تظل أفعى ، المظهر ليس له علاقة بمكنون الأشخاص ، ميشيل من الخارج سراجا وهاجا أما من الداخل فهو أتون من يحموم" - ولكنني أريد أن أفهم من أنت وما معنى أنك ابن ناچيني؟ قالتها بقلق. - ابتسم لها ابتسامة ودية وتردد صوته بداخلها: "قبل خلق البشر خلق الله الجنة والنار ، خزنة النار من الملائكة وأيضا من الأفاعي ، ناچيني كانت كبيرة الأفاعي في الملأ الأعلى ، خلق الله آدم أبو البشر بعدها" - تفكرت قليلا ثم قالت: وماذا حدث بعدها ، وكيف عرفت كل ذلك؟ - قال: هناك أشياء لن يستوعبها عقلك الآن ، علم البشر كقطرة الماء غير قابل للزيادة ، دعينا لا نستبق الأحداث فلدينا وقت لأخبرك فيه كل شيء. - لماذا تساعدني؟ - قال: لأنك تشبهينها. - من هي؟ - قال: لن يسعني أبدا أن أصف لكِ جنة عدن ، ولكن يمكنني أن أريكِ إياها ، ما رأيك في قراءة ذلك الكتيب الذي بصدد نشره قريبا للبشر قبل أن تأتي النهاية الحتمية؟ نظرت له باستنكار. - ابتسم لها ثم أكمل : قريبا ستتفتح أبواب الجحيم ، سيخرج الدجال الأعور ثم يأجوج ومأجوج ، ثم كائنات الهوجيمو ثم ريح طيبة تخطف الأرواح الطيبة ، حتى يأتي دخان أ**د ، حينها سيختنق الجميع وتتحول الأرض إلى كتلة سوداء ، تختفي النجوم وينصهر القمر ، لتغرق الأرض في الظلام ، ليحكمها من جديد بشر آخرين. لم تفهم شيئا مما قال ، ابتسم ابتسامة رجل حكيم وهو يعطيها الكتيب الأ**د ، فتحت وريقاته لتجد صورة قديمة له ولكنها صورة حية وكأنها شاشة تلفاز. كحبات الرمل تفرقت شتات ذكرياتها لم يعد عقلها كما كان ، تحاول جمع شتاته ولكن بلا جدوى تائهة كتيه بني إسرائيل ، تدور شمالا وجنوبا باحثة عن نفسها ، تنظر للجميع وتتساءل من أنا؟ ولكن لا مجيب. ملابسها رثة وشكلها مزرٍ ، الجميع يهرب منها ويلقبونها بالبلهاء ، يقذفها الكبار والصغار بالحجارة ، فرغم ما تبقى لها من آثار لجمال قديم ، فوحل الزمان يزيل عنها كل ما هو جميل ، ويستبدله بما هو أقبح. جميلة أنتِ يا صغيرتي ، تاه عقلك بلمسة من إصبعي ولكنك ما زلتِ تحملين عبق من جمال الماضي ، تبيتين بملابسك الرثة بين الجرذان التي لطالما فزعتِ منها بل ابتعدتِ عنها صارخة أو باكية. أعلم أنكِ لا تستحقين ما عانيتِ ، ولكنني الآن لا أستطيع التراجع ومعالجتك ، فمصيرك إما الجنون ثانية ، أو الموت على يدي ميتة لا رجوع بعدها ، لقد أصبحت الأرض إما أنا أو أنت. فقدان العائلة أمر صعب عانيته قبلك ، وصرت مجنونا مخبولا يجول الطرقات في أسى ، ما أجمل الحياة حين نكون بلا عقل؛ فلا تفكير ولا هموم ولا خذلان ، كالأنعام نأكل ونتزاوج فما أجملها من متعة. هل لو عاد بنا الزمن وخيرنا القدير بحمل الأمانة فهل سنحملها ثانية ونخوض اختبار الحياة؟ حقيقة لا أعلم. أراقبك يا عزيزتي عن كثب أحاول أن أحميكِ بقدر استطاعتي فمن يقذفك بحجر أقذفه بعشر ، من يلقبك بالبلهاء أجعله مجذوبا لتوه. أصبحت لعنتي تلاحقك ، بل أصبحتِ ملعونة في نظر الجميع يتمنون حرقك **احرات أوروبا في القرون الوسطى ، الجميع من حولك يتساقطون حتى ظنوا أنك ملعونة فأصبح الجميع يخافون الاقتراب منك كما حدث معي بالماضي. عزيزتي غادة سأظل على عهدي ، فلا يمسسنك أحد بسوء ما دمت حيا ، ولكنني لم أعد أحتمل رؤيتك هكذا ، سأودعك بإحدى المصحات ، قبل تنفيذ خطتي في الانتقام ممن كان سببا لكل ما حدث. انتقامي الأول وليس الأخير ، فالبشر ليسوا سوى حشرات تكاثرت تكاثر بهيمي ليس له معنى. أتعلمين يا غادة لا زلت أتذكر تلك الأيام البسيطة التي جمعتنا سويا ، نظراتك المشجعة لي ، ابتساماتك القاتلة التي تحثني على الاقتراب من قلبك ، احمرار وجنتيك الخمرية حين أسبح تائهاً في زرقة عينيك ، خصلات شعرك ال**تنائية التي لطالما كانت تنير مع ضوء الشمس لتع** ضوءا يسبقها. أتذكر همسات الكثيرين المحذرة إياكِ بعدم الاقتراب من الفتى المذموم المنبوذ ، المسخ الدميم ، أما الآن فقد اطمأننت عليك بشكل مؤقت فالانتقام أصبح وشيكا ، انتقام بلا رحمة قتل بلا هوادة. دم لا تشربه الأرض تبغضه كبغضكم لحم الخنزير ، فإن كانت محرمة عليكم لحوم الكلاب النجسة ، فدمائكم محرم على الأرض امتصاصها. ......... ( في مصحة الأمل للصحة النفسية بالغربية ) قد تعتبرون تلك سيرة ذاتية لي ولكنني لا أحبذ تلك التسمية ، فالسيرة الذاتية يستطيع كتابتها أي شخص ، ولكنني أكبر من ذلك فأنا الأوحد على وجه الأرض لا مثيل لي ، إذا فلتعتبروها تراث من النور لتتعلموا منها أو قبس من شهاب ولتحرقكم أجمعين. كنت قد مكثت بالمصحة لأكثر من خمس سنوات ، أقرأ أفكار المرضى المشتتة ، حاولت استخلاص سبب ولوجهم لها ، فالمهدئات المعالجة لا تساعدهم البتة لذلك يلجأ الأطباء لجلسات الكهرباء ، التي تنهك المرضى أكثر مما يجب. كنت أحاول العطف عليهم ، ربما لأنني لا زلت أحمل الدم البشري ، أو ربما لأنهم لم يؤذوني بشيء تلك الفترة وكأنهم حملان طيبة. ذات يوم دخل طبيب لم أعهده يوما بتلك المصحة ، يدعى مصطفى سلامة ، واقترح على مديرها طريقة علاج يستخدمها الغرب ونتيجتها فعالة ، هي عبارة عن حلقة مكونة من شخصين إلى ثلاث أشخاص من المصابين بالاكتئاب فقط ، أو بالمعنى الأدق بأصحاب العلة الخفيفة ، ويكون الطبيب حاضرا معهم ليقص كلا منهم سبب علته أمام أصحاب الأمراض الثقيلة ، كمرضى البرانويا والفصام الحاد ، وهكذا يتشجع الجميع ، أو ربما يلفت انتباههم بأنهم ليسوا الوحيدين المنكوبين على هذه الأرض. اختار مدير المصحة المرضى ، وبالصدفة المحضة كنت أنا وغادة من المختارين للتجربة ، وبدأت الحلقة باليوم الثالث من الاقتراح. عقدت الحلقة وكأنها حلقة الرعب التي كتبها العراب (أحمد خالد توفيق) منذ سنوات عدة ، الغريب أنه بعدما كانت ستقام التجربة لشخصين فقط وهما حسب ما عرفت أنا وغادة ، إلا أننا كنا ما يقرب على العشرة أشخاص من بيننا ثلاث فتيات ، وكانت غادة أيضا بيننا ، كانت تكمن في الركن البعيد من الغرفة تجلس القرفصاء لا تعي شيئا ، منطوية على نفسها ربما تسمع وربما لا ولكنها كانت مشتركة معنا باختيار الطبيب ظنا منه أنها ستتجاوب معه. ارتدى الطبيب نظارته الطبية التي تعطيه وقارا لا يستحقه ، وتعمد ألا يرتدي معطفه الطبي كي يشعرنا بأنه ليس طبيبا ، وإنما شخص مثلنا يساعدنا ونساعده ثم دخل غرفة الاجتماع بالمرضي محييا إيانا ، قدم اعتذارا عن التأخير الذي حدث ، كان اليوم حافلا والغرفة مكتملة الأركان ، نظر الطبيب إلينا واحدا واحدا ولاحت على شفتيه ابتسامة ماكرة بلا مغزى بالنسبة إلي ، ثم تكلم قائلا: أرى أن عددكم تكاثر من شاب وفتاة إلى أكثر من عشرة أشخاص ، ربما مدير المستشفى أحب أن يفاجئني.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD