الفصل الاول

2344 Words
أيّ تشابه بين شخصيّات الرواية ورموز عامّة، هو من قَبيل الصُدفة البحتة؛ أو محض خيال القارئ ليس أكثر. . . . . . {إنّني أضحك من تلك الشعوب؛ التي تجرؤ على التحدّث عن الحرّية وهي تجهل ما تعنيه، وتتصوّر أنّه لكي يتحرّر الإنسان يكفي أن يكون ثائراً متمرّداً.. أيّتُها الحرّية المقدّسة السامية؛ ليت هؤلاء يتعلمون أيّ ثمن يُبذَل للظفر بك ولصيانتك، وليت في الإمكان تعليمهم أنّ قوانينك أشدّ صراحة من نَير الطُغاة}. . «چان چاك روسو» . . . . . {فتاة ستوكهولم} . . بداية النهاية  . . الإثنين. ٢٤ يناير ٢٠١١. ١١:٥٩ مساءً. خيّم الليل سرمدياً حول محيط ڤيلّا منعزلة في منطقة «الشيخ زايد».. ليلٌ مُظلِم كئيب، فاح منه صوتٌ أجشّ أمطر في إستئذان : — ”عزمي“ بيه!.. ”عزمي“ بيه!!.. نهجم دلوقتي سعادتك؟!!. المُقدّم ”عزمي عقرب“.. تأخّرت ترقيته أكثر من مرّة لقسوته؛ التي لها خاصّية سبق الإصرار والترصّد في معاملة المتّهمين.. مُقطّب الجبين أغلب الوقت، ولم يره أحدٌ مبتسِماً قطّ.. يعتزّ بشاربه كثيراً، ويقضي ما لا يقلّ عن نصف ساعة يومياً في تشذيبه.. حادّ الطِباع ويعاني من مشاكل زوجيّة بسبب رغبة «ا****عة» في الإنفصال عنه.. زواج صالونات تقليدي، يستغيث لتحقيق النتيجة المتوقّعة بالطلاق. عبثاً قطّب ”عزمي“ بيه جبينه، وعقد حاجبيه ليزيد من هيبته النافرة بعد أن ترجل من سيارة «سيدان» زرقاء، مُتعارف عليها بين أرباب السوابق بالـ«أتاري»، ثم ردّ على المعاون في ضيق مستنكراً سوء تشكيل القوّات.. بعدها، تحرّك المعاون ليعيد تشكيلها ثانيةً مُسترشِداً بالإضاءة الناتجة عن كشّافات سيارات الدوريّة لاعناً اليوم الشؤم؛ الذي إلتحق فيه بكلّية الشرطة.. وسريعاً إستبدّت به «زربونة» طفيفة، إضطرّ معها التوجّه للحاجّة ”تحيّة“.. إمرأة مُسنّة قليلاً ترتدي عباءة سمراء، وتقف بالقرب من إبنها ”كريم“.. شابٌ في مقتبل العِقد الرابع من العمر، منكوش الشعر، وهوايته المفضّلة هي ال**ت، ويمارسها عن جدارة لا يُحسَد عليها.. إذا كان ال**ت سِلعة لأصبح ”كريم“ حتماً هو المُحتَكر الرئيسي لها.  — يا حاجّة ”تحيّة“، بلاش الوقفة هنا بالله عليكي!!.. يا تقفي بعيد شويّة؛ يا تروّحي دلوقتي ولما نِعتر في بنتك إن شاء الله هنبلّغك على طول.  لم ينتظر المعاون ردّاً من ”أم سلمى“ - كما تُحِب أن تناديها جاراتها - وإنشغل بإعادة رصّ الأمناء والعساكر تنفيذاً لأوامر قائده.. وفي عُجالة أنهى مُهمّته، ثم عمد إلى ”عزمي“ حاملاً مكبّر للصوت، كتب عليه «Made in Japan»؛ فإلتقطه الأخير متحسّساً شاربه بسبّابة تحوّل لونها إلى الأصفر الداكن من كثرة التدخين.. وبصوتٍ جهوري مُبالغ فيه، أنشدت حنجرته : — سلّم نفسك يا ”يوسف“، مفيش داعي للمقاومة.. المكان كلّه مُحاصَر.  عبارات لطالما حُفِرَت في دماغه بسبب مشاهدة الأفلام العربي المتهالكة، ولم يجد سبباً لإستبدالها بأخرى «مودِرن» تتماشى مع الحداثة العصريّة الجديدة.. أو بالأدق لم يجد أفضل منها.  بعد إنهاءه وصلة الترتيل المملّة، وضع الميكروفون فوق مُقدّمة سيارة نصف نقل كُحلي، شنطتها لها غلاف قماشي مميز باللون الرمادي، ويطلق عليها - والعياذ بالله - «بوكس» جاعلاً منها ساتراً يحميه من رصاص المطلوب القبض عليهم.. وبيدّ لها خصائص مطرقة حدّاد، إلتقط اللاسلكي الخاص به؛ ليطلب الإذن روتينياً من مدير الإدارة بالإقتحام. . . . . . . ***  . . الفصل الأول . . - ١ - قبل ذلك بحوالي ثلاثة أشهر.  نهضت ”سلمى“ ذات العود الفرنساوي، وبشرة بيضاء نضِرة خالية من العيوب من على سريرها.. وكفراشة تتنقّل بين الزروع والثمار، إتجّهت إلى مرآتها المميّزة بإطار خشبي مصنوع على طراز الأرابيسك؛ والتي تم دسّها بحرفيّة لاعب «Puzzle» في ركن شرقي من غرفة نوم، تجمعها بأختها الصغيرة ”هدى“.. بطيئاً سرّحت شعرها داكن البُنّية بذهن شارد من أثر حلم رومانسي، رأت نفسها فيه مخطوفة على الحصان الأبيض إلى أن إنتبهت للواقع على صِياح «الفَصَلان».. صياح هادم للذكريات، ومُفرّق للأمنيات : — يالّة يا عيال، الشاي هيبرد!.. ولو بِرِد مش هعمل غيره.  هكذا صرخت ”تحية“ في جهير بواسطة حنجرتها الفولاذيّة.. إمرأة شبيهة بمصارعي الـ«سومو»، وتستطيع عن طريق شفط دهونها فتْح مصنع صابون «محندق».. إسمها ”تحية“ وتحيتها كانت هي إطعام الطعام نظراً لقضاءها أغلب وقتها في المطبخ. وعلى إيقاع زعيقها، إبتسمت ”سلمى“ كاشفة عن أسنان بيضاء؛ كأنها اللؤلؤ والمرجان عندما لمحت ”هدى“ في المرآة تداري وجهها بالغطاء سريعاً متظاهرة بالنُعاس؛ فتحرّكت نحو باب الغرفة مفتعِلة دَبيب خطوات وهميّة لتتظاهر بالإنصراف، وعينيها مثبّتتين على أختها كأوتاد خيمة صحراوية أصيلة.. لدقيقة ظلّت ساكنة عند الباب إلى أن أزاحت ”هدى“ البطّانية لتتأكّد من مغادرتها.. وأسفاً لم يكن هناك إمكانيّة للطعن بالإستئناف على ما حدث.. مطأطأة الرأس توجّهت الصغيرة إلى الحمّام في خجل ودون أن تنبس ببنت شفة.. بعدها، بدّلت ”سلمى“ ملابسها بأخرى تصلح للخروج.. حذاء «كونڤيرس» أبيض، وبنطلون چينز أزرق، وأخيراً چاكيت «برجاندي» فاتح، ثم إتجهت للسُفرة الساهرة دوماً في قلب الردهة.. كان عليها وجبة دسمة صعبة الهضم كغداء؛ فلم تلمس منها إلا بضع لقيمات من مربّى الفراولة.. وسريعاً تسلّلت نحو باب الشقّة مستغلّة إعتكاف والدتها في المطبخ؛ إلّا أن الظهور المفاجئ لأخيها ”كريم“ من فتحة الرواق جعلها تتوقّف قليلاً، خاصّةً عندما أخفض صوته ناطقاً في همس : — ”سلمى“، أنا عايز ردّ نهائي إنّهارده.. كفاية تأجيل بقى لحدّ كده!!.  نطقها صاحب الـ«دوجلاس» المزخرفة؛ فهزّت «سلمى» رأسها بإيماءة سريعة، فَهِم منها بسهولة أنها ستفيده بالقرار الحاسم ليلاً بعد عودته من المجلّة.. بعدها، غادرت وقضت ما يناهز الساعة في المواصلات طمعاً في الوصول إلى جامعة القاهرة.. ساعة تخلّلتها عدة مكالمات من صديقة العمر ”ياسمين“ تؤكّد عليها فيهم : — ما تنجزي بقى يا بنتي، بقالي ساعة مستنّياكي!.. المحاضرة قرّبت تبدأ!!!. كانت ”ياسمين“ تتحدّث كالعادة جلوساً على سلالم كلّية الأداب إلى أن وصلت إليها ”سلمى“ بأنفاس متلاحقة؛ فنطقت ”ياسمين“ بعصبية واضحة : — ما لِسّة بدري ياختي، خلاص المحاضرة زمانها إبتدت!!.. وإنتي عارفة إنّه معيد فصيل، وهيقعد يهلّل لو دخلنا وراءه!. في حنق مصطنع، وضعت ”سلمى“ كتاباً على أحد السلالم لتجلس عليه جوار صديقتها؛ فتحسّست ”ياسمين“ حقيبة يدها من الداخل بأنامل مزيّنة بطلاء أظافر تقشّر أغلبه؛ لتتأكد من عدم نسيانها لسجائرها النحيلة : — أنتي لِسّة هتقعدي!!.. يالّة بسرعة على الحمّام، مش قادرة!!.. دماغي فاصلة ولازم أشحنها نيكوتين الإصطباحة. — طب إستنّي لما آخد نفسي طيب، هو أنا لِحِقت!!. جذبتها ”ياسمين“ من يدها؛ لتحملها قهراً إلى دورة مياة ضيقة كقبور الموتى.. أربعة جدران مزيّنين بهِباب إحتراق أطنان من التبغ، وتجلس أمام بابها عاملة تزن قنطاراً من الدهون تكفي لسدّ فوّهة الأوزون، وتتقاضى أجراً من الطالبات نظير الدعاء لهن بالنجاح، وإذا كانت نفحة الكَرَم قويّة يكون الدعاء وقتها بالزواج.  — صباح الخير يا أمّ ”رباب“.. إزيّ ”رباب“ عاملة إيه؟!!. إهتزّ القِنطار مَحدِثاً زِلزالاً خفيفاً فوق كرسيها قبل أن تردّ : — الحمد لله بخير، جالها عريس إمبارح وجاهز من مجاميعه.. عقبالكم يا بنات لما تحصّلوها، وأفرح بيكم قريّب إن شاء الله.. ندراً عليّا لأرقص في فرحكم طول الليل.  صهلت ”ياسمين“ بضحكة أحدثت دويّاً في أروقة المبنى، ثم أردفت : — يسمع من بوقّك ربنا قادر يا كريم.. بس هي مش لِسّة صغيرة يا وليّة!!.  — صغيرة إيه!!.. دي هتمّ ستّاشر سنة كمان كام شهر.. ده بنات أختي إتجوّزوا أصغر منها وعيالهم دلوقتي في حضانة.. إنتي عايزاني أقعّدها جنبي لغاية ما تخلّل!!.  رمقت ”ياسمين“ صديقتها بنظرة تتبعها ض*بة براحة يدها اليمين على كتفها الأيسر، جعلت الخدَر يتسلّل إليه : — سمعتي بودنك يا متخلّفة!!.. طيب والنبي ده فآل حلو. سعلت ”سلمى“ بعد أن دخلت الحمّام حتى كادت تتحوّل حنجرتها إلى أشلاء، ثم نطقت بصعوبة : — أخويا مستنّي منّي ردّ إنهارده ضروري في موضوع العريس اللي متقدّم لي.. وأنا لِسّة محتارة ومش عارفة، أوافق ولّا أرفض!!.  دست ”ياسمين“ سيجارة «Slim» في زاوية فمّها اليسرى بعد أن إستندت على حَلْق إحدى الكبائن، ثم أشعلتها ليتدفّق النيكوتين إلي عقلها : — يا بنتي هي صورة!!.. عشرين مرة تسأليني وأقولك إتنيّلي وافقي وماتضيّعيش الفرصة من إيدك.. وبعدين ما تنسيش أن أمّ ”رباب“ بنفسها هترقصلك في فرحك.. يعني هتوفّري حقّ الرقّاصة يا هبلة. إستغاثت رئة ”سلمى“ بحثاً عن ذرّات الأ**چين في صومعة الدخان المتوهجة في الحمّام قبل أن تُفضفِض : — خايفة، خايفة أووي!!.. خايفة مايطلعش حنيّن عليّا.. أنا كل اللي طلباه هي الحنيّة.. حنيّته عليّا هتحسّسني بالأمان، أنتي فهماني!!.  توجّهت ”ياسمين“ إلى المرآة؛ لتوضيب مكياچها حاملة سيجارتها بيسراها، وبالأخرى عِلبة «Eye shadow» أخرجتها سريعاً من حقيبة يدها : — يا بنتي والله فهماكي.. بس إحنا اللي بنخلّيهم حنيّنين لمّا بنفرد البوز الخشب.. إسمعي منّي، إبنك على ما تربّيه وجوزك على ما تعوّديه.. وبعدين هو إحنا كنّا أخدنا إيه يعني من الحنيّنين!!.. إتوكّلي على الله خلّيني أقرصك في رُكبِتك.  إستعدّت ”سلمى“ للخروج بعد أن وأدت صديقتها السيجارة أسفل حذائها سعيدة بالإفراج الصحّي؛ الذي حصلت عليه رئتيها ثم أتبعت حديثها بعقلٍ مشتّت : — تمام، طيب بصّي!.. أنا مش هينفع أحضر المحاضرة الجايّة.. فيه مشوار لازم أعمله ضروري قبل ما أردّ على ”كريم“ أخويا إنهارده.. خلّيكي جدعة بقى وإبقي قولي لـ”هاجر“ تصوّرلي المحاضرات بتاعة إنهارده، وقوليلها إنّي هبقى أدّيلها حقّ التصوير بكرة.  أطلقت ”سلمى“ العَنان لقدميها نحو ميدان «رمسيس» بعد أن ودّعت صديقتها؛ لتستقلّ منه «بيچو» ٧ راكب، حجزت الكنبة الخلفية فيها كاملة حتى لا يزعجها أحد، ثم أخرجت مصحفها بعد أن تحرّكت السيّارة، ثم دسّت السمّاعات في أذنيها وأخذت تحرك شفتيها مع الأيات : — {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. . . . . *** . . - ٢ - . من داخل ڤيلّا منعزِلة بـ«الشيخ زايد»، إنتفض ”سيمپل“ على صرخة أطلقها ”يوسف“ بعد عودته من غيبوبة، دامت لثمانِ ساعات نتيجة جرعة هيروين مغشوشة بعقاقير هلوسة، أدخلته في عوالم موازية يصعُب عودة أبالسة سَقَر منها.. هَرَش بعدها رأسه بقدمه، ثم أسقط بعضاً من ل**به على سجّادة مصنوعة يدوياً من قماش الـ«موهير» متوجّهاً إلى سيّده.. تعبيراً عن سعادته لعودته سالماً إلى الحياة، ل*قه في وجهه مِراراً؛ فبصق ”يوسف“ جانباً بعد أن إمتزج ل**بهما سوياً كقطعة سكّر في كوب ماء مغلي، ثم أزاحه بيده بعد عناق للحظات.. لم يكن ما رآه في غيبوبة الهلوسة يسيراً على عفريت بثلاثة أرجل وأربع عيون.. وبم***ة نحيفة نوعاً ما، جلس على حافة سريره لثوان، لَعِن فيها تاجر البودرة النصّاب.. لا يتخيل نصب هؤلاء مطلقاً في البضاعة.. يتفهّم ويتقبّل خيانتهم في سرقة ماله وعدم جلب دقيق الحياة؛ لكن غياب الضمير في مِهنة مقدّسة كمهنة الـ«Dealer» أمر غير مقبول فيزيائياً بالنسبة له.  نظرة سريعة إلى شاشة تليفونه، أدرك من خلالها أن اليوم هو سنوية والده : — يا ريتني ما كنت فوقت!!.  تمتم بها قاذفاً هاتف «IPhone» على قدم الكلب، فإنزوى الأخير إلى ركنه بالطابق السفلي بعد عواءة قهر، وثب فيها قلبه أسفل ل**نه.. بعدها، أعدّ ”يوسف“ نفسه ببذلته البيضاء قماش «أرماني“؛ والتي لم يرتدِ سواها في تلك المناسبة طوال العشر السنوات الماضية.. ولا أتخيّل فكرة زيارة المقابر ببذلة بيضاء؛ فلماذا أُخترِعت البذلات السوداء إذا لم يتم ارتداؤها في العزاء وزيارة المقابر؟!!. بطيئاً هَبَط سلالم ڤيلّته المهجورة، ثم قفز داخل سيارته الـ«Ford» المميزة باللون الفضّي يقطعها طولاً خطّان بالأبيض، مرتدياً نظّارة «RayBan» أصلية لعدم تحمّل عينيه ضوء الشمس على الرغم من برودة الجو وتلبّده بالغيوم.. ومن مخدع السيارة، سحب أقراص النعناع بعد أن روى عطشه بزجاجة «»، أعادت الحياة في شرايين صدأة، ثم مضغ منها قليلاً قائداً سيارته ذات المحرّك الرياضي؛ فنهب بها الأسفلت حتى كاد أن يشتعل ناراً من سرعة الإطارات.  ساعة تقريباً حتى وصل أخيراً لقبر أبوه في مدافن الإشارة بـ”الشرقية»؛ فتجمّع المقرئين إلّا أكبرهم حول سيارته عارضون عليه قراءة بعضاً من آيات القرآن على روح فقيده.. تأفّفاً قا**هم ”يوسف“ بضحكة سخرية، جعلتهم يشكّون في صحة قواه ال*قلية، ثم أمضى دقيقتين سيراً على حصى الطريق، تهتّك فيهما نعل حِذائه الأ**د : — والله خسارة فيك الجزمة، سنويّتك فقر من أولها.. معذّبني حتى وأنت ميّت!!!. غمغم بها مبتسماً بعد أن وقف أمام قبر والده، ثم أنصت السمع لفتاة تتحدّث إلى قبر والدها طالبة منه أن يداوي حيرتها في الزواج من زميل أخيها.  — معلش بقى يا باشا، مش هعرف أدعيلك وانا شارب كده!!.. كان نفسي أجيبلك معايا شوك، بس للأسف مش بيزرعوه!! . تحدث بهذه الكلمات وأبخرة الكحول تتصاعد من بين شفتيه؛ لتحجب الرؤية عن عقله، ثم أكمل حديثه لقبر والده بعد أن إختفت إبتسامته الموحِشة. — شوفتها على فكرة من شهر، ولعنتك ساعتها مئة مرّة.. بقى معاها دلوقتي ولد زي القمر.. مش هتصدّق سمته إيه!!!. توقّف عن الحديث لبرهة عندما سمع الفتاة تحكي لقبر والدها عن أختها الصغيرة؛ وهي تتظاهر بالنعاس أمامها حتى لا تذهب لمدرستها كما كانت تفعل هي معه تماماً عندما كانت في مثل عمرها. — شايف الأبّهات!!.. على فكرة يا باشا أنا مش بكرهك.. أصل حتى اللي بيكره ده بيبقى فارق معاه البني آدم اللي بيكرهه.. إنما أنت - من غير زعل يعني - أقلّ من إنّك تتكره.  أخرج ”يوسف“ عِلبة معدنية من جيب چاكيتة البذلة، وتجرّع كمية خمر لا بأس بها حتى يهدأ لدقائق بعد أن إحتدّ في كلامه كأمواس الحلاقة، ثم أتبع الحديث لقبر والده ثانيةً : — نفسي أعرف، أنا عملتلك إيه بس عشان تعاملني المعاملة دي؟!!.. رُدّ عليا!!.. عشر سنين بجيلك عشان تجاوب على سؤالي.. طيب ما وافقتش على جوازي منها ليه؟!!.. رُدّ عليّا، أنا عملتلك إيه!!.. على فِكرة دي أخر مرة هاجي لك فيها!!. وقفت الكلمات في حلقه ولم تجد سبيلاً للخروج بعد أن إنتبه لوجود فتاة خلفه.. ترمقه بنظرات طويلة لها رائحة الشياط كادت أن تسقطه بها أرضاً قبل أن تتحدّث إليه في خجل : — الميت مايجوزش عليه إلا الرحمة!!.. إدعي له ربنا يسامحه ويغفر له.. أنت كده بتعذّبه وبتعذّب نفسك معاه!!. مسح بيمينه عرقاً غير موجود على جبينه، ثم تغلغل بين خصلات شعره السوداء؛ التي يتخلّلها خصلات فضّية على كلا الجانبين بأنامل يحمل إحداها خاتم «L'azurde» مثبّت عليه قطعة من الماس، تلألئت في ضوء شمس يجاهد في إختراق السحب قبل أن ينطق : — إنتي مش عارفة حاجة، وبعدين أنا ماسألتكيش على فكرة!!.. خلّيكي في حالك أحسن!!. وصلت كلماته إلى أذنيها محمولة برائحة كُحول أصابت شعيرات أنفها في مقتل من شدة تركيزه، ثم شاعرة بالحرج تفوّهت وهي تعدّل من وقفتها ريثما تجد رداً مناسباً : — أنا أسفة لو كنت ضايقتك بكلامي، ماكانش قصدي أضايقك خالص على فِكرة.. على العموم أنا مالحقتش أسمع حاجة أصلاً!!.. بالمناسبة، أنا إسمي ”سلمـــ,,. لم يمهلها فرصة لتكمِل جملتها بعد أن ضاق ذرعاً من تطفّلها؛ كما أن حالته المزاجية لم تكن تسمح له بالحديث معها أكثر من ذلك.. سريعاً غادر المدفن متجهاً إلى سيارته كي يعيد ملء العِلبة من كبيرتها الموجودة أسفل المقعد : — رحمة!!!.  ردّدها متعجّباً وهو يدير المحرّك؛ لينطلق بعد أن تجشّأ قاتلاً بيسراه قطرة كُحول، بحثت عن مخرج آمن عند الزاوية اليُمنى من فمه.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD