الفصل الثاني

2418 Words
حدق "تليد" فيه بصدمة ثم قال: -دا بجد!!!.. دا أنا حبيته أوي من كلامك عنه يا شيخنا!. انطلقت ضحكة كبيرة من فم "سليمان" الذي سحب "تليد" إلى حضنه وراح يربت برفق على ظهره ثم يُكمل: -بس دا سر المِهنة، إياكَ والبوح به!. انتظر "سليمان" كي يستمع إلى ردة فعل ابنه الذي لم يخيب ظنه، فقال بنبرة سادرة: -يعني لو حد تعبان ومحتاج الوصفة دي ما أقولوش يا بويا؟!!. خفتت ضحكة "سليمان" ولكنها بقيت اِبتسامة حانية مُجيبًا ابنه برقة أبٍ ناصحٍ: -نقول له طبعًا يا روح أبوك.. نقول له يا عِز الناس. تشبث "تليد" بخصر والده وراح يبتسم في سعادة ثم يتمتم بخفوت: -أُترُج!!!!!! ولم يسبح الوالد وحده في ذكرى جميلة عابرة؛ بل فعل ابنه الذي أراد وبشدة أن يطلق عليها هذا الاسم الذي يخص تلك الثمرة الطيبة النافعة والتي تعلق قلبه بأشجارها منذ تص**ح والده بحبه لها وكثرة منافعها فصار يهتم بتلك الأشجار بصفة مستمرة وبشكلٍ خاصٍ فلا يجعلها تجف أو تلقى هلاكًا من الماشية القريبة من المشتل. تذكر حينما دخل بالصغيرة على والده الذي طلب منه أن يُسعف الصغيرة معه بسرعة وأن يأتي بثوب من ثيابه التي صغرت وضاقت عليه كي يُلبسها للصغيرة التي يسقط الماء من ثيابها في هذا الشتاء القارسٍ ففعل "تليد" الذي انتظر حتى سها والده في إشعال المدفأة بالحطب وراح يضع ورقة داخل ملابسها المبتلة بسرعة، عاد الشيخ إلى الطفلة مرة أخرى ثم بدأ في نزع ثيابها حتى صادفهُ رؤية هذه الورقة التي كُتب عليها بخط مُنمقٍ غير متهادٍ قد كُتب على عجلة رغم التشبث الواضح في الحفاظ على تشكيل الكلمة ذلك الشيء الذي يشتهر به صغيره المولع باللغة العربية. «اسمها أُترُج». نظر "سليمان" الكلمتين بتوجس ثم شمل ابنه بنظرة عابرة قبل أن يضع عينيه في الورقة مرة أخرى ثم يبتسم بفطنة بينما جاهد "تليد" في أن يبدو غير مُهتمًا بما يقبع في يد والده، تن*د الشيخ بهدوء ثم قال: -تخيل يا تليد البنت طلع اسمها أيه؟!. تليد وهو يتظاهر غير مُبالٍ: -اسمها أيه؟!. الشيخ بابتسامة خفيفة يواريها عن أعين ابنه فيقول بثبات: -اسمها أُترُج.. أيه الصدفة الجميلة دي!!!.. دا نفس نوع الفاكهة اللي إنتَ بتحبها!!!. تليد بضحكة واسعة: -قصدك اللي إحنا الاتنين بنحبها. عادا للواقع معًا فتلاقت أعينهما بين نظرة مُحبة وابتسامة دافئة تتألق على مُحياهما، كانت هذه نفسها تلك الابتسامة المُمتنة بجزيل الشُكر حينما اعتمد الشيخ "سليمان" هذا الاسم للطفلة مما جعل صغيره يطير كعصفورٍ أوجد الحرية بعد ليالٍ طويلة من الأسر. -أوعدك بعد ما تخلص حصاد الطماطم النهاردة إنك تاخد بكرا أجازة وتلعب معاها على راحتك. انف*جت أسارير طفولته المُبهجة وراح يقفز في مكانه بمرح وحماس ليقطع مجيء "رابعة" قفزاته حينما قالت بحب وفير نحو هذا الصغير الذكي: -يسعد قلبك دايمًا يا تليد يابني. التفت "تليد" لها ثم أكمل بنفس الحماس الذي لم ينقص من تأججه درجة حتى: -خالة رابعة، هتجازيني بأيه بعد ما أخلص الحصاد مع العمال؟!. رابعة وهي تبتسم ابتسامة عريضة ثم تقول الجملة الأحب إلى قلبه على الإطلاق: -هعمل لك سندوتشات زبدة بالعسل. تليد وهو يقذفها بقبلة طائرة ثم ينصرف بحماس مُتقدٍ: -هو دا الكلام. تحول ضحكها مع الصغير إلى ابتسام هاديء يليق بالتحدث إلى الشيخ الوقور، أومأت برأسها في سلام ثم تابعت بهدوء: -أخبارك يا شيخنا وأخبار البنت الصغيرة أيه؟!. سليمان يومئ بثبات: -نحمد الله على كل حال يا بنتي. وقفت أمامه على استحياءٍ من ارتفاع قدره وسط أهالي البلدة وهو الذي يُعرف باصطفافه في صفوف الحق والعدل ومناصرة الفقير والمظلوم ووعظ الناس بالحُسنى والتماس الأعذار حتى تفنى وتلبس الحجج وشاح الأعذار فتجده لا يُخفيها كُلها، ف*نجلي للجميع!. -لسه عند قرارك وناوي تسلم البنت لناس تانية يا شيخنا؟ رفع "سليمان" سبابته ثم قال بنبرة حازمة لا يشوبها ذرة استخفاف أو تهويل: -مش أيّ ناس يا بنتي، ناس أرضهم صالحة وطيبة لزراعة نبتة جميلة زيها علشان تكبر مُستقيمة وأخد أجر تأمين مستقبلها. أومأت "رابعة" التي تعمل في بستان الشيخ مُنذ سنوات حتى وثق بها وجعلها المُشرفة العامة على العُمال بالمكان كما أنها تمتلك أرضًا زراعية بجوار المشتل وبعض الماشية التي تتركهم يرتعون فيها بحُرية أثناء جلوسها في عملها بالمشتل وتترك ابنتها الصغيرة تعيرهم الانتباه والاهتمام. -طيب أنا عندي اقتراح يا سيدنا الشيخ، تسمح لي؟!. رحب باقتراحها ببشاشة قبل أن تقوله، فهو يعلم أنها صاحبة رأي راجح عاقل حتى إن لم يتناسب مع ما يُفكر به فسوف يستفيد منه بشكلٍ آخر رغم أنها لم تدخل المدرسة أبدًا، تنحنحت "رابعة" باستعداد ثم قالت: -فاكر يا شيخنا أستاذ علام ومراته؟! لمَّا كُنا بنجمع لهم تكاليف العملية بتاعة الخلفة من تبرعات المسجد والعملية للأسف منجحتش!! تزين ثغره بابتسامة هادئة وهو يعي جيدًا ما سوف يأتي بعد هذا السؤال، أومأ ينتظر استكمال اقتراحها فقالت بهدوء: -طب ما هم أولى بالبنت يا شيخنا؟.. خصوصًا إنهم ناس كويسين وإنتَ عارف أخلاقهم!. تن*د الشيخ بثُقل يع** شيئًا جللًا يستقر في نفسه، انتظرته "رابعة" أن يتكلم أو يرد بالاعتراض حتى على كلامها ولكنه ظل ينظر أمامه في **تٍ مهيبٍ كأنما يُراجع أمرًا عظيمًا ويبحث فيه بحنكة، لم يدُم **ته طويلًا حينما أبصرها تترقب جوابه فقال بثبات: -فكرت في الحل دا، بس تليد؟!. رابعة تستفسر سريعًا: -ماله؟! تابع بنبرة هادئة: -تليد متعلق بيها أوي يا بنتي وإنتِ عارفة إن علام شغال في قصر عثمان أخويا، دا معناه إن تليد لو عرف مكانها هيتردد على قصر عثمان كتير وأنا مش عايز كل دا يحصل. رابعة بتفهم تقول: -خلاص، منقولش لتليد عن الناس اللي هنديهم البنت!. الشيخ بابتسامة خفيفة: -هيزن.. هيسأل.. طول الليل هيسأل عنها.. مش هيبطل. رابعة بابتسامة مثيلة: -حاول إنت بس متضعفش قدامه يا شيخ سليمان وهو هيبطل يسأل. أومأ صامتًا يُعيد التفكير في حديثها وقد طال هذا التفكير لأيام قليلة حتى اتخذ قراره بشكل نهائي بعد أن صلى لله أن يعينه على اختيار الصالح لطفلة مثلها. جاء ذلك اليوم حينما كان "تليد" يلعب مع الطفلة بطاقة مُتفاقمة خاصةً أن هذا اليوم هو المخصص لإجازته من المشتل، لم يكن الشيخ بحاجة لعمله ولكنه يريد أن يُنشئه على الحياة الصعبة و**ب القوت بالكد والتعب كي يشتد ساعده ولا ينتظر مجيء الشيء بسهولة إلى حجره. -السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ألقى الشيخُ التحيةَ وهو يدخل إلى المنزل، فرد "تليد" السلام دون أن يلتفت له فتابع الشيخ بتساؤل: -تليد إنت مصليتش الضهر؟. التفت إليه فورًا ثم أجاب بثبات: -صليت طبعًا يا أبويا. أومأ "سليمان" بتفهم ثم تمشى إلى الدكة القابعة بجوار المدفأة وبنبرة حانية قال: -بطلت تروح دروس السباحة يا تليد باشا والكابتن اشتكى لي النهاردة حتى بطلت تدرب في القناة مع نفسك!. جلس "تليد" أمام الصغيرة التي حبوت حديثًا ثم فرد ذراعيه أمامها كي تهرع إليهما فيلتقفها بين جنباته في حب واحتواء فتضحك ببراءة من مُداعبته لها، ضمها سعيدًا ثم توجه بنظراته صوب والده يقول بشغف: -علشان أنا لقيت الأحسن من السباحة وكُل حاجة. تن*د "سليمان" بصعوبة وهو يُطالع ملامح ابنه المُتقدة من الفرح أثناء وجودها معه، أوجد صعوبة أكبر فيما عزم على فعله اليوم وكيف يخبره بالأمر ووجودها قد أثلج نفس طفله وأنس وحدته؟ وقفت الكلمات ثقيلة في حلقومه يدقق النظر ويُمعن في هذه الملامح المُشرقة التي ستتحول بعد دقائق إلى أُخرى ذابلة؛ ولكنه لابد أن يفعل وإلا تفاجأ "تليد" بالأمر وكُسر خاطره، قرر أن يتحدث إليه في مناقشة عاقلة كما عوده متوسمًا في صغيره الناضج خيرًا أن يتفهم حياتهما الشاقة التي لا تتلاءم مع صغيرة تحتاج رعاية أمومية كافية، تن*د بحسم ثم قال بنبرة هادئة: -تليد، تعالى يا بني اقعد جنبي!. قال وهو يربت بكفه على طرف الدكة، أومأ الأخير مُطيعًا في سرعة وهو يضم الصغيرة إلى حضنه ثم يجلس بجواره أبيه ويضعها على ساقيه، رفع "سليمان" ذراعه صوب غُرة رأسه مُداعبًا خصلاته البُنية الفاتحة والتي تلمع مع شُعاع الشمس في وضح النهار وبنبرة هادئة استطرد: -أترج مش هينفع تعيش معانا يا بني، لو حصل نبقى بنظلمها لأننا مهما قدمنا لها هيكون ناقص حاجة مهمة. قطب "تليد" ما بين عينيه ثم تساءل متوجسًا خيفة مما هو قادم بعد هذه الافتتاحية ال*قلانية: -أيه هي؟ سليمان بشرح مُبسط: -الاحتواء والمشاعر الأمومية يا بني، إزاي إحنا راجلين هنربي طفلة صغيرة ونعتني بيها، الكلام سهل يا حبيب أبوك. ن** "تليد" ذقنه حتى لامست ص*ره بان**ار ثم تمتم بخفوت: -يعني إنت خلاص هتديها لناس تانية؟! أومأ "سليمان" آسفًا على حزنه الذي لا يهون أبدًا ولكن ثمة ضروريات وجب الحُكم فيا وإن كان الحكمُ لا يُحيي مشاعر أحبائنا. -مقداميش اختيار تاني يا عِز الناس. -وهتديها لمين؟! ناس كويسين مش كدا؟!. أغمض "سليمان" عينيه يستقبل سؤاله الذكي الذي توقعه قبل أن ينطق به ابنه، تن*د بتماسك في محاولة مُميتة منه كي ي**د أمام رغبة الأخير في الحصول على معلومة كتلك فقال الشيخ بثبات: -أكيد مع ناس طيبين أوي، أنا سألت عليهم، بس آسف يا بني مش هقدر أقول لك مين ولو سمحت متتعبنيش وتصر على سؤالك. ضم "تليد" الصغيرة إليه في حزن صامتٍ حتى أنه لم يُعلق على حديث والده بالطاعة حتى، امتلأت عيناه بالدمع رغم نفسه الأبية مُنذ صغره وكانت هذه المرة الأولى التي يسقط له دمعُ منذ أن نضج واشتد عوده وتخطى حاجز العشر سنوات، مر الكثير من الوقت على آخر مرة بكى فيها لتُجدد الصغيرة مشاعره المسجونة خلف جدران نصائح والده له بكونه رجلًا، وسقط دمعُ الرجُلَ ونسى ما تلقى من نصيحة يومًا. بكى في **تٍ مهيبٍ يليق بشاب كبيرٍ يخشى رؤية أحدهم لضعفه فرق قلب الشيخِ له وراح يطبع قُبلة حنونة على جبهته في مواساة وبنبرة هادئة تابع: -سامحني يا بني، بس مينفعش نكون أنانيين في رغباتنا متناسين الخير للغير!. أومأ "تليد" دون أن يرد فتأكد الشيخ أنهُ ربما أدرك جيدًا فحوى رسالته، فابتسم بوقار ثم تابع: -تقدر بقى تودعها وتجمع هدومها وعرايسها في شنطة علشان الناس جايين بالليل! ارتفع صوت بكائه عاليًا بعد أن أعلن استسلامه بألا يُظهر ما يغمره من **ود أكثر من ذلك فقال الشيخ "سليمان" بنبرة صابرة: -قادر ربنا يجمعك بيها تاني وإنتَ مش مقنن مشاعرك ناحيتها، إنتَ دلوقتي اختارتها تكون لك أختك.. بس مين العالِم لو فضلت معانا وربيناها هتقدر تسيطر على مشاعرك وهي بتكبر قدام عينك ويا ترى قلبك هيقبل القانون الجبري اللي فرضته عليه؟؟؟ ولا هيتمرد!. **ت لبرهة ثم صرح بحكمة والأخير مُصغيًا في رسالته البليغة: -وهل لو اتمرد، نضمن منين إن الأخ ميكِنش مشاعر متأججة لأخته!!!. تن*د (سليمان) بصبر طال ومازال يطول ثم أسدى له نصيحة جوهرية لن يتلقاها مهما عاش إلا من والده الحكيم: -مشاعر الأخوة جميلة وجوهرها ثمين بس للأسف لا تُطلق إلا على الأخوة الحقيقيين ورغم قيمتها الثمينة إلا إنها لو قيلت في غير موضعها بتكون ضعيفة مُميتة، فاهمني!!. تلألأت قطرات الدمع في عين "تليد" الذي ابتلع أوجاعه صامتًا مُنصتًا فقط، ارتجفت شفتيه الجافتين ثم قال بحيرة: -مُميتة!!! سليمان مُجيبًا بحزم: -أضعف ما يمكن، لأ وكمان طعمها ماسخ ومُر.. أخاف عليك يا بني روحك تتعلق بيها فتعشق وتخاف البوح علشان هي أختك بين الخلق وهي لا بنت أمك ولا أبوك!!!. رأرأ بعينيه يواري صدق اقتناعه بكلمات والده التي رغم حقيقتها إلا أنه كمن ينفخ في النار فيرتفع وهجها ويفيض على جانبي قلبه الوحيد في الحياة دائمًا. استسلمت قواه تمامًا في هذه اللحظة فقام حاملًا إياها ثم دخل غرفته وأغلق الباب بقوة تشي بنيران قلبه المُتأجج من ألم التعلق وتوجه إلى مكتبة صغيرة خصصها لترتيب ووضع ملابس الصغيرة بها وقبل أن يجمع أشيائها سمع صوت والده يقول بنبرة متأنية من وراء الباب: -«من تعلق قلبه بغير الله، بكى وجعًا يا بُني». أغمض عينيه باختناق محبوس في ضلوعه ثم أحضر حقيبة قماشية وبدأ يجمع فيها كُل ملابسها إلا ثوبًا واحدًا ودمية وحيدة راغبًا في الاحتفاظ بهما كي يتذكرها دائمًا، وضع جميع الدمى التي صنعها لها وكذلك الفساتين التي تم تخييطها من ملابسه وأثناء إنجازه لهذه المهمة الصعبة وجد تلك (التميمة) تسقط من بين الملابس وكانت على شكل فص من ثمرة الأُترُج مُطرزة بطريقة جذابة ومكتوب عليها حرف (أُ)، تن*د بأسى وهو يتذكر ذكرى هذه التميمة. -دي العرايس اللي طلبتها مني يا تليد، ها تحب أعمل لك حاجة تاني؟!. سألتهُ "هدى" باهتمام؛ ففكر قليلًا قبل أن يقول على مضض: -لأ، كدا تمام شكرًا يا خالة هدى. داعبت خصلاته بحب ثم قالت: -مقولتليش، سميتها أيه؟!. ضحك بانبساط وأجابها: -أُترُج. زوت "هدى" ما بين عينيها دهشةً وما أن وصله شعورها المتعجب حتى تساءل بتوجس: -معجبكيش!!. هدى بهدوء: -هو حلو، بس مش تقيل شوية!!! تليد يؤكد على رأيها مفسرًا وجهة نظره: -يمكن عندك حق، بس أنا بحبها زيّ حبي للأُترُج والمشتل بتاعنا مليان بيه دا غير إن أبويا بيحبه وشايف إنه أنسب اسم لأنه جامعنا إحنا التلاتة في حاجة واحدة. هدى بتفهم تقول: -ربنا يصلح حالك يا بني وبمناسبة اختيارك للاسم، أنا بقى هعمل لك إنتَ وهي هدية حلوة أوي، عدي عليا كمان يومين علشان تستلمها. انشرح قلبه وانتظر مرور يومين بفارغ الصبر حتى عاد إليها مرة أخرى وقامت بتسليمه تميمتين رائعتين على شكل فصين من ثمرة الأُترُج مُطرزين بخرز من اللونين الأبيض والبرتقالي معًا وقد كُتب على كُل واحدةٍ منهما الحرف الأول من اسميهما. عاد من ذكرياته مُتذكرًا وجود التميمة الخاصة به في جيب بنطالونه، غرس يده حتى أخرجها ثم قرب الاثنتين من بعضهما وراح يبتسم في اشتياق؛ اشتياق للذكريات وشوق مُشتعل قد بدأ باكرًا عن وقته. فرغ من توضيب حقيبتها بعد أن وضع التميمة الخاصة بها في الحقيبة أيضًا ثم قرر تجهيز ورقة مكتوب فيها كُل المعلومات التي تخص الصغيرة حتى يلتزم مرافقوها الجُدد بهذه المعلومات وطلب من والده أن يشترط عليهم؛ ألا يتم تغيير اسمها او تاريخ ميلادها مُطلقًا وقد احترم والده رغبته في الحقيقة. حل الليل وتلاشت لحظات الانتظار السامة وحل مكانها لحظات الفراق القاتلة؛ اللحظتان يغمرانك ب*عور مؤسف ف*نجذب نحو أيسر موتةً من بينهما. دق الباب وتوقع هو الطارق بسهولة، تمشى صوب الباب بخطوات مترددة وأكتاف مُتهدلة مُتمنيًا لو يرجع والده عن هذا القرار المُجحف في حق قلبه من وجهة نظره الضيقة، فتح البابَ واستقبل الطارق بفتور فلحق به والده ثم سلم على الرجل الواقف أمامه وطلب منه الدخول. أسدى الشيخ "سليمان" للرجل المدعو "علَّام" مجموعة من النصائح لا سيما أن أهمها الحفاظ على الصغيرة كي يستحق ثقته واحترامه طوال العُمرٍ وكيلا يُجحف على نعمة وهبها الله له من بعد يأس. تفهم "علَّام" لحِكمه الخيّرة النقية ووعده أن يفي بهذه العهود كاملةً، التفت "سليمان" إلى ولده الذي يحمل الصغيرة ويقف على جنب قائلًا بهدوء: -أدي له البنت يا تليد. طالعهُ "تليد" بنظرات مترجية لامعة ثم نحى بصره إليها وراح يتأملها لوقت طويلٍ ربما يشبع من رؤيتها قبل أن يُفلتها من بين يديه كأنها سراب لم يلمسه في الحقيقة، توجه بها إلى "علام" الذي شعر بيأس الفتى وهمه ولكنه تناولها منه بحذر يتأمل براءتها في سعادة متطايرة من معالم وجهه، تراجع "تليد" خطوتين قبل أن ين** رأسه في عجز من إقناع والده عن العدول عن هذه الفكرة. تكلم "سليمان" بعد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ فقال: -البنت اسمها (أُترُج) وعندها سنتين وتاريخ ميلادها هتلاقيه في الورقة اللي في الشنطة دي. ناوله الحقيبة ثم تابع بإيجاز: -شنطة لبسها و***بها. علَّام يهز رأسه بموافقة أكيدة: -متقلقش مفيش أي حاجة من المعلومات دي هتتغير يا شيخ سليمان. سليمان وهو يبتسم بخفوت: -فيك الخير يا بني. أظهر "علام" ابتسامة واسعة تنم عن امتلاكه للدنيا في هذه اللحظة ثم قال بتوتر تجاه الموقف الجديد عليه: -مراتي مستنية على أعصابها وبتحضر لها الأوضة من ساعة ما بلغتنا، ربنا يرضى عنك يا شيخنا زيّ ما رضيتنا وأثلجت قلوبنا. ابتسم "سليمان" بهدوء ثم قال بثبات: -دي بُسرة، اعتبرها هدية مني لك، اكرم مثواها وانبتها على الصالح بس يا علام، لو فعلًا مش عايزني أندم على القرار دا. علَّام يرد مُمتنًا: -أوعدك مش هخذلك يا شيخنا. وقف يستمع إلى حديثهما بانفطار قلب ضعيف أصابه الصدع بسهولة، ظل رأسه مُطرقًا وقد بسر وجهه بألم دفينٍ إلى أن سمع صوت "علَّام" يصيح بحسم وابتهاج:
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD