الفصل العشرون :

2010 Words
تحركت داخل الرواق .. تدفع بيدها الباب لتدخل غرفة المعلمين في ثانويتها القديمة .. كان يقف هناك يغرق وجهه في اطنان من الاوراق .. اوراق الامتحانات النصفية لطلاب المدرسة .. وشعرت بالالفة .. ذاك الشعور الذي بدأ يتسلل اليها كلما رأته .. كلما تلاقت عيناهما .. وكأنها عرفته طيلة التسعة عشرة عاماً الماضية .. " صباح الخير استاذ علاء " ارتفع الرأس وتلاقت النظرات ثم تحول عبوسه الجاد لابتسامة لطيفة .. " اهلا جوري .. تعالي اجلسي هنا .. ابعدي تلك الاوراق واجلسي مكانها " اشار للكرسي المقابل له فاقتربت ترتب الاوراق وتنقلها للكرسي الاخر .. " اذا كيف حالك ؟! .. " وضعت حقيبة كتبها ارضاً بجانبها وابتسمت بدورها " افضل بكثير .. كيف حالك انت ؟! " " كما ترين .. اااف !!! " رفع حاجبيه بملل فتسربت ضحكة منخفضة من فمها لتجذب انظاره اليها اكثر .. لثوان اخذ يحدق كل منهما بالاخر .. تنقل اليها تلك العينان رسائل صامتة .. ومن يفهم بال**ت بقدرها ؟! .. " استاذ .." " كيف.. تفضلي " " لا .. لا .. انا اسمعك " فرك مؤخرة عنقه واسند جسده للخلف .. بدى كمن يصارع نفسه .. متردد .. خائف .. وهذا شيء لم تعدته منه يوماً .. مع هذا انتظرت .. انها تنتظر منذ رأته عيناها .. تنتظر وتبني .. تضع اساسات حلم .. ربما خيالي جداً .. لكنها تعلمت ان الاحلام تتحقق .. هي عادت لتؤمن ان بعض الاحلام يمكن احيائها وترميمها .. فها هي تدرس بالجامعة التي اختارتها .. وها هي تعمل مع الجمعية وتتلقى اجراً جيداً .. وتواصل الحلم كما تنصحها معالجتها التي اوشكت على انهاء مهمتها معها .. لتخرج جوري جديدة من تحت ركام السابقة ورفاتها .. تماماً كما العنقاء .. " كيف حال جامعتك ؟! " اهذا صوته ؟! .. كادت تبتسم لارتباكه .. بدى لطيف جداً لعينيها .. ان يفقد قدرته على الكلام .. ان يحاول ابعاد نظراتها فتخونه بين الفينة والاخرى .. هذا الرجل .. كم تود ان تهون عليه الامر .. لكن هي تخاف .. هذا الخوف الذي مهما مرت سنوات سيبقى عالقاً داخلها .. خوف من الفقدان .. خوف من الخذلان .. " اتظن ان اختياري كان صائباً ؟! " " انت تدرسين الطب .. وهذا كان قرارك انت هذه المرة .. لما يبدو ليس صائباً لك ؟! " اخفضت نظراتها نحو يديها وفاجئته كعادتها " اريد ان ادرس الطب النفسي .. اريد ان اساعد الاخرين تماماً كما حصل معي .. هل هذا ممكن ؟! " " انظري الي " رمشت لمرات ثم استجابت لامره .. هذه المرة نظراته كانت ثابتة متعاونة وجادة .. " ان كان هذا مجرد شعور وقتي بسبب ما عانيته .. فهو خطأ جوري .. اما ان كان هدف شغوف وحلم تريدين تحقيقه والسير اليه بعيون مفتوحة .. اذا فهو صحيح .. والان اي اختيار هو اختيارك " " الاثنين معاً .. في بداية العلاج كان الامر مجرد اندفاع .. الان هو هدف .. شغف كما شغفي للشعر .. انا ارى نفسي هناك .. اسعى لاكون تلك الجوري .. واريد ان اكونها .. في نهاية دارستي العامة ساختار احد اثنين .. اما طب عادي بعيادة شبه مجانية .. او نفسي واتعامل مع جمعيات البلد الموجودة للحد من العنف الاسري " " كم نضجتي طفلتي " ابتلعت ل**بها لكلمته .. طفلتي .. وتن*دت تتمنى لو حصلت على والد مثله .. لو ان جميعهن حصلن على عائلة سوية لم تترك ندوباً في ارواحهن .. وابعدت تلك الافكار .. لا يجب ان تغرق في ربما .. بل عليها النظر نحو ما تملكه هي دائماً .. نحو المستقبل.. اليس هذا ما علمته لها الحياة.. " اجد فرق شاسع بين جوري المشاغبة التي وضعت رسالة في معطفي .. وجوري الان .. " " اخبرتك اني لم افعل .. رباه .. لما تعاود تذكيري بهذا ؟! " ضحكة عميقة ص*رت عنه فعضت شفتها بقسوة وابعدت وجهها عن نظراته.. " قلت سابقاً انك كنت تكتبين الرسائل للفتيات .. لكنك بارعة جداً في فعل هذا " " انا بارعة بكل ما افعله " خرجت كلماتها بغرور كبير ثم شعرت بتوقف الوقت.. بتوقف كل شي من حولهما.. شهقت اخيراً تستعيد اتزانها وانحنت تلتقط حقيبتها تنوي الهرب .. لقد اجرمت .. هي تخطت المعقول .. انه استاذها لا أكثر.. وتمنت الا يلاحظ ما تخفيه داخلها من مشاعر نحوه.. لقد تبدل الامتنان منذ فترة ليصبح اعمق مما قد تصفه يوماً لبشر.. " انتظري جوري " هتف ورائها بمجرد ان تركت مكانها تتجه نحو الباب .. لتلتفت بسرعة وتوقفه بيدها : " ارجوك لا .. هذا جنون .. انسه .. انساه كله .. " " ولم علي نسيانه جوري ؟! .. انا يمكن ان اخبرك بكلمات واضحة ودون مواربة .. أن ما منعني ليس عدم وجود المشاعر .. ما منعني هو ما كنت ترزخين تحت وطئته .. وايضاً صغر سنك .. انا لست استاذ يغرر بتلميذة .. انا رجل ناضج ينتظر اللحظة المناسبة لا اكثر.. لكنه الوقت .. فقط الوقت ما منعني عنك " رمشت وضمت فمها لا تدري ما تجيبه .. اي كلمة .. اي همس .. لا معنى له.. هما كلاهما فهما ما خلف الكلمات من جمل مستترة. " انظري الي جوري " كيف تفعل ؟! .. انها تختنق بخجلها .. تختنق بض*بات قلبها المنتفضة .. ومع هذا تحرك جسدها وارتفع رأسها كما لو كانت آلة .. " لا تشعري بالخوف .. سأبقى ها هنا بجانبك .. حتى يغدو الوقت مناسباً .. حتى تصبحين قادرة على اتخاذ قرار رفض او قبول .. حتى تصبحي حرة بالكامل لقول نعم .. او لا .. انه خيارك .. انت قادرة تماماً على قول لا هذه المرة .. وللجميع " ايمكن ان تحبه اكثر ؟! .. كيف يمكنه ان يجعلها تغوص في بحر من السلام والامان فقط بمجرد سماع كلماته ورؤية نظراته .. " اين كنت سابقاً ؟! .. اين كنت ؟! .. لو انك كنت في سنواتي السابقة .. لو كنت في كل لحظة منذ ولدت .. اه كم اتمنى ذلك .. " " انا هنا الان .. هنا طفلتي " اغمضت عيناها على الكلمة .. ليس تحبيب .. انه شعور بالانتماء .. كما لو كانت حقاً طفلته . " غادري الان .. فوجودك معي .. يجعل الشيطان يدق الباب .. " غمزها بشقاوة غير معتادة منه فهزت رأسها له .. توعده وهي تشعر بانها تعيش في الجنة .. " وداعاً استاذ " ضحك بعمق لكلمتها ثم ودعها بطريقته الجديدة : " وداعاً حبيبة الاستاذ " اخذ صراعها الداخلي شكل فتاتان .. احدهما متزنة والاخرى تشبه جوري المندفعة المجنونة التي كانتها .. لكن ما جمع كلتاهما هو ذاك الامتنان والألفة والأمان الذي يملئها .. لاستاذ اللغة العربية .. استاذها ومعلمها وحاميها.. رجل.. رجل اثبت ان ليس الجميع كأدم او ابيها.. هناك وجهان لكل عملة.. الجيد فيهم والسيء.. " اراك لاحقاً .. " " اراك لاحقا جوري .. " اغلقت الباب خلفها ثم وضعت يدها فوق قلبها الذي ينبض وينبض كما لو كان يريد ان يشق ص*رها ليخرج .. ناداها حبيبة الاستاذ .. ناداها طفلتي كالمعتاد .. وابتسمت بشقاوة تعض شفتيها .. اين هالة ؟! .. اين رنا ؟! ... عليها ان تزف اخبارها اليهما .. وهرعت تترك المكان ناسية ما كان سبب زيارتها لعلاء ... ********** " عيد ميلاد سعيد طفلتي " همس علاء بجانب اذنها وهو يحرك الخاتم ليدخل اصبعها .. التجمع البسيط في منزلها اخذوا يصورون المشهد بشغف مصوري هولوود .. ويهلهلون لهما .. " انت تناديني طفلتي دائما .. انا ناضجة وقد بلغت العشرون وخطبت للتو " اعترضت ليضحك بدوره .. لم يكن لديه علم كم تلك الكلمة تشعرها بالامان .. هو كان يحي الطفلة داخلها .. كأب فقدته ووجدته آخيراً .. كرجل يحمي .. يتفهم .. يعطف .. ويحب " ماذا تريدين ان اناد*ك ؟! .. حبيبتي .. خطيبتي .. زوجتي المستقبلية .. ام اطفالي لاحقاً " احمرت وجنتاها وامتلئ قلبها بالحب لذاك الاستاذ المفضل لديها .. ابعدت خصلة من شعرها واجابت بخجل شديد : " كل هذا معاً " سحبت يدها بسرعة ورفعت وجهها لتلتقي نظراتهما .. عيون عسلية بريئة .. لطيفة .. واخرى بنية بأطار اخضر مسالم .. عاشقة .. محبة .. وواسعة .. واسعة لتختفي كلها هناك .. لتبني قصر احلامها دون ان يهدمه احد .. " احبك طفلتي " الهمس المنخفض والذي بالكاد وصلها مع صوت الموسيقى التي تتفنن رنا بتعديلها كل دقيقة .. ارجف اوصالها .. كان صادق جداً لاذنيها .. كان يتعمق ويتعمق حتى ينتشل بقايا آلامها فيحجبها عن روحها التي شفيت حديثاً .. " انا ايضاً " " انت ماذا ؟! " غمزها لتضحك وترتفع ضحكتها جالبة انظار الجميع .. كان يتعمد دائما اغاظتها .. يتعمد استجلاب تلك الفتاة المشاغبة المعاندة والمشا**ة ليجعلها تولد من جديد .. " ماذا يا عصفوري الغرام ؟! .. اظن يكفي هذه النظرات " التفت تنظر لاخته الصغرى بينما طفلها يتوضع على يدها .. كان عمره بضعة اشهر ولكنه يشبه خاله بشكل كبير يجعها تعشقه .. اقتربت وش*هت خده بحمرة شفتيها الوردية اللون لتغيظ والدته فردت عليها الاخرى بخبث كبير : " رباه جوري .. انظري اليه .. انت تفعلين هذا لانك لا تستطيعين تقبيل الاصل .. " " جنا !!!!! " قهقهت اخته بصوت عالي فشاركتها جوري الضحك .. شعرت بأصابعه يلامس كتفها العاري ليرفع قماش الشال الحريري فيغطيه، مذكراً اياها باعتراضه الغيور على ثوبها الوردي العاري الكتفين قبلاً .. لكن جوري كانت اعند من ان تتراجع عن ارتدائه .. تحركت بعيداً واقتربت تتبادل الحديث مع والدته التي قدمت من دبي خصيصاً لتحضر خطوبتهما .. كانت الطف مما تخيلت .. اكثر امومة من ظنونها وهي تحادثها على الهاتف لمرات في الاشهر الماضية .. منذ عرفت بان ابنها وجد عروسه اخيراً .. جلست بجانبها لتضمها .. حضن دافئ جداً .. ارتجفت وحاولت الا تنظر نحو الجهة الاخرى حيث تقدم امها قطع الكيك الذي جلبه علاء معه بمناسبة عيد ميلادها .. بلونها المفضل الوردي .. وازهار من ورود الجوري تحيط قعره .. كانت تتمنى لو ترى سعادتها .. ان تشعر بحضن واحد دافئ منها .. تلك التي نظرت اليها عند انتهت المزينة من وضع زهور ناعمة في شعرها المسرح بطريقة تناسب ثوبها .. وقالت اكثر جملة كرهتها جوري في حياتها " لو كان اخوك هنا " كم سمعت هذه الجملة طوال السنة ونصف الماضية .. عدد لا يحصى .. عدد لا نهائي .. بعض الدموع تبلورت حاجبة نظرها عن هالة ورنا التان اخذتا تمازحان استاذهما المفضل .. السعادة لا تكتمل .. لا تبحثي عن سعادة مطلقة فهي غير موجودة .. تماماً عدم وجود والدها في حفل خطوبتها .. ليس حزناً لاجل ابنه .. بل لانها طلبت منه الا يشرب .. ان يقف كوالد لمرة واحدة في حياتها .. وليتها لم تفعل .. عيسى كان والدها .. ذاك الطفل الصغير .. الذي اخذ دور الرجل في حياتها .. ضاماً اياها .. مخبراً اياها كم يحبها .. كم تبدو جميلة .. ووعدت نفسها .. هذا الطفل سيغدو رجلاً .. رجلاً حقيقياً .. ستفعل المستحيل ليحصل هذا .. " هيا تعالي لتأكلي من الكيك " وقفت بينما تجرها دنيا قريباً من والدتها .. نظرت كل منهما للاخرى .. وامتدت يد والدتها بالصحن الزجاجي .. اين كلمة عيد ميلاد سعيد ابنتي؟! .. اين كلمة العمر كله ؟! .. او حتى كلمة مب**ك الخطوبة ؟! .. تباً لها من ضعيفة لتطلب هذا وهي تدرك انه لن يتحقق .. فهي حزينة .. هي معذورة .. ابنها مسجون .. رجل بيتها مسجون .. " انت بخير ؟! " همس علاء بهذا بمجرد ان جلست بجانبه على الاريكة .. النسوة اخذت تتحرك حولهم .. عدد قليل لا يتجاوز الاقارب من جهة علاء والاصدقاء الثلاثة من جهتها .. وللغرابة كانت هدى .. الفتاة التي كرهتها بالماضي .. ضمتها .. باركت لها .. عايدتها .. واهدتها علبة مغلفة لا تعلم ما بداخلها .. الغرباء اكثر لطفاً .. دائما الغرباء .. وليس اصحاب الدم نفسه .. " نعم " " انظري الي اذاً " تمنعت عن فعل ذلك واغرقت شوكتها في الكيك تغرزها هناك بحقد ثم ترفع القطعة لتضعها في فمها .. وتمضغها لمرات قبل ان تتنفس بتسارع ملحوظ .. " ليك كريمة على جانب فمك .. اما ازيليها او افعل انا " مزاحه جعلها تستدير اليه لتنظر في عينيه وتمسح سريعاً شفتها بجانب يدها فتزيل بعض احمر شفاهها مع ما علق من كريما بيضاء .. " تبدين جميلة جداً .. ناعمة جداً .. هادئة جداً .. محبوبة جداً .. جداً " عضت داخل فمها والتمعت عيناها بالدموع .. يده ضغضت على يدها .. كان يعلم .. كان يشعر .. كعادته في اي شيء يخصها .. ذاك الرجل الحساس المتفهم .. " محبوبة جداً .. انت لا تحتاجين لاحد طفلتي .. لا احد سواي .. سنتزوج قريبا .. و ساكون اي شيء تريدينه منذ هذه اللحظة .. اخ .. اب .. وام .. وحبيب " *********
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD