الفصل الثاني عشر :

2013 Words
وجه آخر احتل مكان سابقه هذه المرة بعيون وألفة غريبة ..بينما صوت المغنية اليسا يردد في اذنيها تحاكي مرآتها عن معاناتها.. علاء.. الأستاذ علاء الذي اخرجته عن طوره.. ابتسمت لسخرية افكارها تتأمل السقف بشرود .. رغم الاعتذار الذي اطلقته .. بصوت متجمد غير صادق .. هو تسامح .. هو غفر .. واخبرها انها تحتاج لان تفعل المثل .. لان تسامح نفسها .. ماذا كان يقصد ؟! .. تن*دت بسخرية .. مسامحة نفسها وكأنها الجلاد لا الضحية .. ما الذي يعرفه هو ؟! .. ما الذي عاشه ليدرك صعوبة طلب السماح من نفسها المكلومة ؟! .. تراءت لها ابتسامته اللطيفة المتفهمة وكأنه ادرك هو الاخر ما تخفيه .. تعاطفه الكبير وهو يسأل ان كانت كلمت المرشدة يسرى .. هل يظن انها مجنونة ؟! .. تذكر ايضاً محاولتها الشديدة للجم نفسها عن نعته بالجاهل الغ*ي بينما يغدو اكثر ارتياحاً في تشريحها نفسياً هو الاخر .. عضت شفتها ترسمه بمخيلتها .. شخصيته الهادئة المسيطرة .. صوته الحازم لكن المتعاون مع اي سؤال يطرح عليه .. ثيابه الانيقة ووسامة شكله .. لكن .. هناك شيء به كرهته، شيء يذكرها دائما انها طفلة مراهقة، وهو رجل .. واثق .. بعيد .. ولا يمنح املاً لاحد .. وهي لاول مرة تجنبت الخوض في مغامرة لمعرفة الاخر .. خوفاً .. نعم خوفاً.. شتمت تصرخ بنفسها .. هذه احلام مراهقة فارغة وعليك نسيانها فوراً .. هي قد تخلت عن الاحلام منذ طفولتها .. الاحلام لا تتحقق في عائلتها ابداً .. انها تتحطمم فقط .. ثم وجدت نفسها تتسامح مع جنونها وتضع لبنة .. لبنة لتبني حلم ا**ق .. متجاهلة احساس يخبرها انه حلم سيغدو قبراً لتدفن فيه يوماً ما .. " مضت سنين طويلة لا اذكرها ... غبت فيها عني .. ولا زلت انتظرني .. اشتقت جداً الي .. والى احاديثي .. وهمومي الصغيرة .. وامنياتي الكبيرة .. افتقدني .. منذ ان كبرت .." لقد قرأت تلك العبارات من قبل في مكان ما .. صورة ظهرت امامها على متصفح الانترنت يوماً واثار اهتمامها .. هذه الكلمات كانت اكثرها وجعاً .. ربما لانها وجدت نفسها فيها .. كانت فعلاً تحن لنفسها .. تفتقدها .. هي التي هجرت ذاتها لتغرق في تحدي الاخرين ومعاندتهم، ومحاولة حفظ الذات التي تتمسك بها، حتى اصبح ادماناً، ادمان لا شفاء منه .. وامنياتها فقدتها في خضم صراعها العميق مع الحياة .. حتى الاحلام هربت منها .. قد يبدو لاي احد انها ما زلت مراهقة متمردة، لكن الا يقولون .. يقاس العمر بالتجارب وليس بالسنين ،اذا هي لست مراهقة في بداية الثامنة عشر .. هي عجوز تخطت الثمانين. " جوري العشاء جاهز " صوت والدتها كان **هم اخترق سكونها .. وعمت الانارة الغرفة مؤذية عيناها.. فنظرت للمرأة بجمود.. ومع هذا ما كانت لتكرهها .. ولا تحبها .. ربما تتقبل وجودها .. كما يتقبل الانسان رداء جديداً يضيق على جسده منتظراً ان يتسع ليرتاح في التعايش معه .. فلا الرداء يتسع .. ولا الانسان يتخلى عن فكرة ارتدائه .. " لست جائعة .. اريد ان انام .. ايمكن ان تطفئي الضوء ؟! " بالكاد تلفظت ببعض اللين لتغرق الغرفة بالظلام .. ظلام رغم سواده .. كان يلف جوري بهدوء وسكينة غريبة جداً .. هي تعشق الظلام .. فلطالما حماها من جنون وقسوة ادم .. لامست الهاتف مجدداً تتنقل بين لائحة الاغاني فوق شاشته لتجد اخيراً اغنية تلائم ذوقها الخاص لهذه الليلة .. ******* تحركت داخل المطبخ، انها نهاية الاسبوع .. يوم الجمعة .. وللسخرية الرجلان الكبيران لا يهتما للصلاة .. كما يفترض ان يفعلا .. وكل منهما يتسائل دائما ان كانت صلت فروضها الخمسة .. وماذا عن واجباتهم الدنية ؟! .. ام ان ادعاء ادم بالدين يتوقف عند غيره ولا يمسه .. ابتسامة ساخرة مريرة جرت على فمها بينما تنضم والدتها لها .. " اسلقي بيض .. ادم يريد بيضاً مسلوقا " اوامر السيد .. وابتلعت اعترضاً لن يساعد بشيء .. " خذي هذا " التقطت وعاء الجبن لتضع منه بضع قطع في صحن زجاجي ثم تتحرك لتضعه فوق الطاولة الخشبية المتوسطة الحجم .. " ايمكن ان اذهب لرؤية رنا ؟! " " اسألي ادم " زفرت بحنق .. بالتأكيد .. ومن غيره عليها ان تسأل والدها مثلا ؟!، لا سمح الله ، مؤكد سيرفض كلاهما .. وعضت باطن شفتها بقوة . " ناديهم هيا .. " " الفطور جاهز " بالكاد نطقت داخل غرفة المعيشة .. صوتها كان منخفض حتى لاذنيها ثم تسللت لتترك مكانها وتعود للمطبخ .. جلست دون اي صوت يذكر .. ليرمقها ادم بعيون متأملة ارجفت اوصالها .. ثم اخذت ترتشف من كأس الشاي الذي سكبته لتوها وتتأمل صحون الفطور .. جبنة .. لبن .. زيتون .. بيض .. واشياء اخرى اخذت صور بلا معاني في رأسها .. " لقد اتصلوا من المدرسة .. الانسة يسرى طلبت رؤيتي .. رغم اني اعتذرت لمرات من الناظرة لعدم قدرتي على الذهاب .. ما الامر هذه المرة جوري ؟! .. ظننت انك توقفتي عن تصرفاتك الطفولية لتهتمي بدراستك " " هل هذا صحيح ؟! .. اسمعي .. ان لم تدرسي وتحصلي شهادتك .. توقفي عن الذهاب وجلسي هنا في المنزل مع والدتك بدل التسكع دون فائدة .. سنجد لك زوج .. وينتهي هذا الجنون للابد " كان هذا رد والدها لتجيبه بضعف ويأس : " انا من الاوائل في مدرستي وانت تعرف هذا تماما .. اريد ان ادخل الجامعة .. الايكفي انكم منعتوني من اختيار اللغة العربية " تدخل صوت امها مجدداً.. منذ متى ؟! .. منذ متى بدأت امها تنضم لركب المتسلطين عليها ؟! .. " لتصبحي ماذا معلمة ؟! .. مؤكد لا .. انت ستتزوجين احد المتقدمين لك .. انهم كثر .. وانتهى الامر " تململت مكانها وبضعف استنجدت بجلادها دون ان تدرك حتى انها فعلت ذلك : " ادم ارجوك " " انا لا اريد ان تتركي دراستك ابداً .. ولكن مشاكلك في المدرسة اصبحت مزعجة جوري .. هذا لا يليق بفتاة مثلك .. باختي انا .. وكل هذا من اجل ماذا ؟!.. لاننا منعناك من ممارسة لعبة كرة السلة التي ادمنتها خلال السنوات الماضية بتشجيع من ذاك المعلم الغريب الاطوار ؟! .. هذا كان مجرد تفاهة .. نحن لسنا في اوربا لتصبحي رياضية محترفة .. ثم ماذا دراسة لغة عربية ؟! .. هذا ما ينقصنا للحصول على فضيحة جديدة .. اختي تصبح شاعرة .. احلامك مخيبة للامال .. لذا هما محقان .. تزوجي من رجل ليصرف عليك ويعلمك هو .. " الكلام المعتاد .. الهراء المعتاد ذاته، والاعذار ذاتها،وكأنهم يملكون مستقبلها .. الاستاذ علاء محق .. هي لا تملك حق الرفض حتى .. ومع هذا حاولت مجدداً . " وان حصلت على معدلات طب .. هندسة .. اي مما تريدونه انتم " " ليس لدي المال ولا الوقت لتعليمك .. انهي الثانوية واريحي رأسي منك .. " **تت تتنفس مرارة الرفض .. تمتص الخذلان المتكرر .. وتحركت اخيرا تترك مكانها بانهزام كلي.. لقد انقطع آخر سبلها للنجاة.. " انهي فطورك " " ارجوك اتركني وشأني ادم .. لمرة في حياتك كن رحيماً واتركني وشأني " همست بصوت ضعيف .. ميت لا حياة فيه .. ولاول مرة انصاع هو لرجائها تاركاً اياها .. تسللت لغرفتها كالعادة ويديها تجر تلك الدمية القطنية وتحتضنها رغم كرهها الشديد لها .. دمعة تسللت من اسرها لتسيل فوق وجنتها تتبعها اخرى ثم اخرى .. دون اي ضجة بكاء .. حتى نحيبها يعرف القاعدة في هذا المنزل .. فخرج صامت .. اخرس .. لا يسمعه احد ********* قضم علاء من فطيرة الجبن التي تحضرها اخته جنا وتلاعب بخصل شعر ميساء ابنتها .. للحظة انقلب المشهد ليرى جوري .. هذه الخصل المجعدة تثير جنونه .. تأوه خرج من فم الصغيرة فاعاده لوعيه ليعتذر بسرعة " اسف حبيبتي " " انت مهوس بالشعر اللولبي .. اترك الفتاة وشأنها .. خذ هذا " فنجان القهوة وضع امامه وتململت الطفلة لا تريد ترك مكانها فوق ساقيه .. ارتشف من السائل المر وتن*د بيأس .. الن ينتهي منها ؟! .. حتى مع ركونها وانزوائها الصامت في مقعدها طوال الايام السابقة .. مازلت تدوس فوق اوتاره فتشدها بعنف .. نعم هو مسؤول عن طلابه.. لكن ما مبرره للتدخل في حياة احداهن في مجتمع منغلق على ذاته.. " علاء ما الامر ؟! " " لا شيء " جلست اخته مقابل له في المطبخ الخاص بمنزلها وعادت لتحدق به وتجيبه : " هناك شيء تخفيه .. انت شارد .. بعيد .. ولا نراك الا نادراً .. ما الامر اخي ؟! " " ان اخبرتك لن يتغير شيء .. لذا لا تدخلي هذه المتاهة جنا، وارجوك لا تسأليني مجدداً .. ولا تتفقي مع اختك على ان تجرب بدلاً عنك " تن*دت ولم تفارق نظراتها وجهه ليبعد هو وجه بضيق ويتململ مرتشقاً من كوبه مرة اخرى " انها فتاة ما " اخذ علاء يسعل لمرات فهرعت جنا لتجلب الماء له .. الصغيرة تركت مكانها وبدأت بجوله مشابهة لما تفعله امها،بض*ب ظهره لمرات بكفها الناعم. " انت بخير خالي " " بخير .. بخير .. تعالي " اعدها لمكانها واخذ كوب الماء من اخته .. ارتشف القليل ثم وضعه بجانب فنجان القهوة .. " اذاً هي فتاة .. من هي ؟! " " حباً بالله كفى جنا.. اي فتاة تظنين.. كل مافي الأمر ان طالبة ما في المدرسة لا تبدو لي بخير.. وانا متردد في مد يد العون لها " هدر لترفع يديها وتجيبه بينما يتماوج فستانها المنزلي الاحمر حول بطنها المستديرة التي تعلن عن الحفيد الجديد المنتظر للعائلة : " لو ان ابي موجود لقال ان عليك فعل هذا بالتأكيد.. انت دائما ما وقفت بجانب طلابك علاء.. وكنت نعم الأخ لنا بعد رحيل ابي.. ترددك يبدو لي غريباً.. " " لا اظن ان هذا ممكناً هذه المرة للأسف.. فما زال الأمر مجرد ظنون لا اكثر.. سأغادر الان .. ابلغي زوجك تحياتي .. وداعاً يا صغيرة " اقتربت ميساء واغرقته بقبلاتها .. ثم تركت مكانها ليقف ويقبل اخته ثم يغادر بشرود ملحوظ.. داخل سيارته اخذ يفرك جبينه .. بينما يقود داخل شوارع المدينة .. ما الذي يفكر به ؟!.. تلك الكدمات.. نظراتها الغريبة.. كلماتها المبهمة.. وتنمرها الملحوظ على زميلاتها.. " هذا جنون .. " امتدت يده ليفتح المسجل .. ينتقل بين اشارات الراديو حتى توقف عند موسيقا لاحد اغاني عبد الحليم .. ثانية وانطلق الصوت: " بحياتك يا ولدي امرأةٌ.. عيناها، سبحانَ المعبود فمُها مرسومٌ كالعنقود.. ضحكتُها انغام ٌو ورود والشعرُ الغجريُ المجنون يسافرُ في كلِ الدنيا قد تغدو امرأةٌ يا ولدي يهواها القلبُ ... هي الدنيا " الشعر الغجري .. هذه المرة بلون العسل الداكن .. حباً بالله .. هو يفقد صوابه .. بسبب صاحبة الشعر الغجري .. الذي سيخنقه فضوله نحوها يوماً ما .. " علاء !! " " ادم ؟! " توقف جانباً وركن سيارته قريباً من الرصيف .. ثم خطى خارجها وبادل الشاب تحيته .. لتتلاقى يده مع يد ادم .. " كيف حالك ؟! .. سمعت من عمي انك خطبت هدى .. مبارك لك " " متأخر قليلاً ها ؟! .. لكن العقبى لك " " اعذرني .. لكن انا ع .. " " لقد انتهيت " صوت رقيق جداً قاطع كلامه .. التف لتتوقف عيناه عند بحر العسل الصافي للعينين الواسعتين اللتان تجمدتا للحظات ثم انخفضتا فوراً.. " جوري .. اختي " " اعرفها .. انها احد التلميذات لدي " قطب ادم في وجهه ثم نظر نحو جوري وامر بصوت منخفض لطيف : " جوري لما لا تضعين اغراضك في السيارة ؟! .. " نظرت لاخيها وتجمدت .. شعر بانفاسها تقطع ثم عادت لتهتف سريعاً : " حاضر " اهذه هي ؟! .. اهذه القطة الشرسة ذات المخالب ؟! .. طالبته التي تتفن بجعل الكل يكرهها؟!.. " لم اكن اعلم انك انتقلت لمدرسة الفتيات ؟! " " منذ فترة قصيرة،لما لا تزورني مع هدى ؟! " ابتسم ادم واجاب ببهجة : " سأكون مسروراً جداً بهذا .. رغم ان معرف*نا ليست عميقة .. لكن اي اقرباء لهدى هم اقرباء لي بالتأكيد.. " " الامر ذاته لي .. ارجو لكما السعادة .. انتظركما .. " امتدت يده مجدداً ليصافح الشاب الذي يحمل بعض ملامح اخته .. لون العيون .. شكل الفم .. وارتفاع الوجنتين .. " اخبر هدى تحياتي .. قد بحذر " " الامر نفسه لك .. وداعاً " بمجرد ابتعاده قطب علاء .. ما هذا القدر ؟! .. ان كان فكر للحظة بجنون تفكيره بجوري .. فالان سيقتل نفسه قبل الاقتراب منها، هي قريباً ستصبح احد اقارب هدى .. وهو لا يريد اي مشاكل مع خطيبها .. فجأة اهتزت المفاتيح بين اصابعه بينما يقبض باليد الاخرى على معدن الباب الخاص بسيارته .. نظرات جوري الاخيرة نحو اخيها .. هذه ليست جوري .. حاضر .. همسها ذاك ليس لها .. هل ما فكر فيه صحيح ؟! .. مستحيل !! .. مستحيل !! .. ابتسم لغرابة افكاره ثم دفع بجسده داخل سيارته وانعش محركها ثم قاد عائداً لمنزله .. عليه ان يتوقف عن الاهتمام بمشاكل تلك الطالبة..
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD