الفصل العاشر :

2178 Words
احنت رأسها لتعود نحو سريرها تسحب هاتفها المخفي تحت طيات السرير .. فتفتحه بيد مرتجفة وطلبت الرقم الذي تريده .. الرنين استمر لوقت طويل ثم سمعت صوت اغلاق الخط .. رسالة وصلتها لتبتسم بمرارة وتغرق في حزنها اكثر . " ايتها المجنونة انها حصة اللغة العربية .. اقفلي سأحادثك عند انتهائها " تحركت اصابعها ترد رسالتها بأخرى : " لا داعي .. لقد تعرضت لحادث سيارة البارحة .. ساغيب لعدة ايام .. اخبري الناظرة حنان ارجوك .. اكلمك لاحقاً " " جوري .. هل صحوت ؟! " اخفت الهاتف بسرعة تحت الغطاء وقلبها يكاد يهوي خوفاً .. ابعدت وجهها عن نظر والدتها .. تبعد خصل شعرها بيد مرتجفة بينما خطوات الاخرى تقترب وهي تقول بتوتر وقلق : " ابيك ذهب للمقهى مع اصدقائه .. لما لا تأتي لنأكل سوياً ؟! .. " " لست جائعة .. اتركيني " " حبيبتي .. هيا تعالي " يدها لامست شعر جوري لتبعد رأسها بجفاء عنها وخرج سؤال غاضب من فمها لتشهق وينتابها الذعر : " كنت تتمنين لو اني مت عندما ض*بتني تلك السيارة .. صحيح ؟! .. لابد انك تشعرين بالاسف لاني لم امت هذه المرة ؟! .. " " اجننت ؟! .. انت ابنتي .. طفلتي " بلؤم اجابتها : " نعم .. رددي هذا وحاولي ان تتذكريه .. انا طفلتك امي .. ابنتك .. ومع هذا .. انت لم تحبيني .. لم تضميني .. لم تحميني .. وتجاهلتي اتصالي من المركز الطبي .. ولم تشفقي علي حتى وانا اموت ألماً .. ارجوك اتركيني وحدي .. اتوسل اليك .. لا اريد ان اقول شفقتك المقيتة هذه .. لكم اتمنى لو اني توفيت البارحة.. " كانت تمنع نفسها من البكاء بصعوبة.. ترشق سمها في وجه والدتها لكن لا راحة تذكر من فعلها هذا.. الذنب رسم نفسه على صفحة وجه المرأة الشاحب لينتقل لجوري .. ولم تستطيع ان تكرهها .. رغم كل شيء .. جزء منها كان يدافع عنها باستمرار ناعتاً اياها بالظالمة .. محاسباً تمردها وجحودها نحو والدتها .. والدة لم تهتم حتى بابنتها الوحيدة .. " ليتني كنت قادرة على طلب المواساة منك أمي.. دعيني بمفردي.. كلتانا تعلم ان لا جدوى من العتاب الآن.." بمجرد ان اقفل الباب رمشت تتوسلها العودة بصوت ضعيف بالكاد يخرج من حنجرتها.. داخلها صرخ وصرخ .. ان تعود لتضمها .. ان ت**ت تمردها الدائم بالحنان المفقود بينهما .. ان تخبرها انها صغيرتها .. طفلتها الغالية المحبوبة .. وضمت يدها تغرز اضافرها في قماش غطاء السرير محاولة لجم جنونها ومنع نفسها من الصراخ ..فالصراخ والنحيب العالي ممنوع في هذا السجن .. فهو يزعج ادم .. ولا يجب ابداً ان يزعج احداً ادم .. ابداً .. ******** " يا الله .. انا ارجوك .. ردني اليك ولذاتي .. ارجوك ضمني انت .. فلا احد يدرك داخلي سواك .. لا احد يفهم جوعي القديم للحب منذ كنت طفلة إلآك .. ان كنت فعلت معصية .. فسامحني .. سامحني .. هذا العذاب .. اكبر مني .. فارجوك لا تتركني وحيدة .. انت من اليه الدعاء والشكوى .. انت ولا بشر ولا انسان .. انه فقط لك انت يا رب " بصعوبة اعدت جسدها للخلف من سجودها لتختم صلاتها.. راحة نفسية تسللت الها .. تغمر جسدها بالهدوء .. وسيلتها وطريقتها الوحيد لتتخلص من ألمها ووجعها الداخلي .. كان فقط التوجه بالدعاء .. لرب العباد وحده .. وليس لاي احد آخر . " تقبل الله طاعتك بأذن الله " " وطاعاتك " همست تضم يديها معاً وتبتلع ل**بها بصعوبة .. ابعدت وجهها عن ادم الذي جلس بجانب ارضاً وحاول لمسها لتتجمد وتحاول ان تجلد نفسها بينما يده تمر فوق رداء الصلاة دون اي مودة تذكر .. " جوري .. اسمعي .. " " ارجوك ادم .. انا منهكة .. الصلاة صعبة جداً بوضعي .. هل يمكن ان تتركني انام ؟! .. تصبح على خير " وقفت بسرعة آلمت ضلعها المكلومة فتأوهت وعضت شفتها .. " سأسألك فقط سؤال واحد وبعدها يمكنك المغادرة " هذه المرة اصبح صوته صارماً لتغمض عيناها وتبتلع ل**بها بصعوبة .. ثم ترمش لمرات بانتظار سؤاله .. " هل تكلمت مع هدى ؟! .. اعرف ان .. " " لا لم اكلمها ولن افعل مجدداً .. في الماضي بغبائي .. ظننت اني ولاجلها فعلت .. كلمتها عن قلبك الخالي من العاطفة .. عن قسوتك .. ربما حتى خدعت نفسي بانها تستحق الرأفة مني وربما تعاطفي .. لكن لا .. كنت مغفلة لا اكثر .. وتلك المتعجرفة البغيضة .. " " انتبهي لكلماتك .. لن اسمح لك بكلمة اخرى عليها " عضت ل**نها تلجم سيل الكلام الذي كادت تضيفه وربما سيجعله يغضب اكثر .. " اذا انتهينا .. لن اذكرها، وانت لا تسألني مجدداً .. يكفي كل ما امر به .. دعني .. حباً بالله .. دعني فانا متعبة للموت " ارتجف فمها فضمت شفتيها .. لا تبكي امامه، هو لا يهتم لتلك المياه المالحة التي ترشح من عيناك .. لا احد يفعل سوى المسكين عيسى الذي أبى ان يفارق غرفتها البارحة فقضى ليلته يشاركها الغرفة.. " اذا لننهي الامر بهذا .. ان علمت مجدداً، انك تجرأتي على التواقح معها او مع والدتها .. فلن ارحمك " اي رحمة .. وهل هو يرحمها الان ؟! .. نظرت اليه لاول مرة .. لتلتقي نظراتهما ولم تتحمل التحديق اليه.. لقد تسلل الوجع لقلبها فأدماه.. بضعف اعادت عيناها بعيداً خائفة من نظرت الاصرار بعينيه وكعادتها همست بالكلمة الوحيدة التي تجيدها معه : " حاضر " ثم تحركت تهرب .. تختفي من امام انظاره .. من جموده وهدوئه المرعب الذي يخيفها اكثر بكثير مما تعترف لنفسها .. وقفت على الشرفة تتنشق الهواء البارد .. غير عابئة بما ستعانيه من آلام بطن لاحقاً .. فالالم منتشر في كلها .. قبضت اصابعها تزرعها في راحتها .. انها تتمنى ان تشعر ولو ببعض الراحة او السكون .. ونظرت للاسفل .. هل اذا رمت نفسها سيهتم احد ؟! .. مؤكد .. سيهتمون خوفاً من الفضيحة.. ابداً ليس خوفاً عليها .. متى خاف احد عليها في هذه الحياة؟!.. تلاعبت الرياح ب*عرها المشعث المنشور حول وجهها بصخب .. لامست وجنتها وعنقها واغمضت عيناها تترك السكينة تزرع نفسها داخلها .. وكأن الرياح داعبت قلبها ايضاً لتشفي جروحه .. تشفيها ؟! .. وهل تشفى جراح لا تندمل ؟! .. جراح مازلت تنزف كل يوم ؟! .. عاهدت نفسها .. هي لن ت**ر مجدداً .. ولن تطلب من احد الرحمة .. هي من ستقف في وجه نفسها .. وستحميها .. ويوماً ما هي لن تحتاج احد سواها .. لا احد .. ******** " لقد اشتقت اليك جداً جداً ايتها الخبيثة .. الا يكفي ان هالة مفصولة ولن تأتي حتى الغد " صوت رنا رد اليها شيء من الراحة ، وابتسمت لكلماتها المرحة عبر الهاتف الارضي في غرفة الجلوس .. " سازورك غداً .. ساحضر معي حلوى السكر التي تحبيها .. وعصير الاناناس .. اه لقد سأل عنك ذو العيون الخضراء .. والرجل الخارق ايضاً " كانت تشعر بالراحة لان الاثنين الذان لا تطيقهما خارجاً .. فادم في عمله .. وابيها كعادته مع صديقه في تلك القهوة التي لا يتركانها .. " لا تحضري شيئاً تعالي فقط .. انا افتقد مرحك وضجيجك هما يسلياني .. وحاولي احضار هالة .. لقد اشتقت لها .. هل سألا عني ؟! .. ماذا قلتي لهما ؟! " اسندت جسدها للوسادة خلفها على الاريكة حيث تجلس ،وجررت الهاتف لتضعه فوق قدميها مستمتعة بطريقة صديقتها في الكلام " اخضر العينان يخبرك بأسفه لاجل الحادث .. ويتمنى لك الشفاء العاجل.. الاستاذ علاء .. سأل عنك بعد الحصة وعندما اجبته تغيرت ملامحه .. لم يجب او يقل شيئاً .. هو نظر نحوي كما لو كنت كاذبة ثم غادر .. انه متعجرف صحيح ؟! .. كنت محقة تلك الوسامة واللطافة .. ورائها رجل مغرور بغيض " سرحت تتذكر ملامحه .. عيناه ووجهه .. طوله الفارع مقابل قصر قامتها .. هل لم يهتم حقاً ؟! .. ولما سيهتم ؟! .. ماذا توقعت غير هذا ؟! .. لقد شعرت بكرهه لها ؟! .. بمقته لتصرفاتها خصوصاً بعد ض*بها لرهف .. هزت رأسها تبعد سخطها منه .. انه لا يستحق ان تشعر بالضيق بسببه .. هو مجرد معلم لا اكثر.. " جوري .. هاي انت !!! " " ماذا ؟! " " لدي فكرة جميلة .. اتريدين المشاركة ؟! " ها قد بدأت ال**بثة الاخرى .. ابتسمت لحماسها الذي سينتهي كما العادة بشيء تافه لا يناسب وضعها كمعوقة مؤقتاً .. " عندما تأتي غداً يمكنك ان تخبريني بها " " مؤكد .. والان افتحي الكتب لاشرح لك ما اخذناه .. " ****** مرور الايام التالية كان رتيباً مملاً .. وبعد خمس ايام اف*ج عنها .. وقفت تضع القليل من مسحوق التجميل فوق جرح جبينها الذي تحول للون الارجواني مخفية اثره ببراعة، ثم خدش على طول خدها اخفي بفعل اصابعها .. زفرت تعاين ما فعلته .. انها جاهزة، هي اخيراً ستعود للمدرسة .. وشعرت داخلها بوهن رغم سعادتها بالعودة .. وهن وشعور بالخمول .. وكأن لا شيء سيسعدها مرة اخرى .. عندما عبرت الازقة التي تفضي للمدرسة وقفت تحدق بتلك الرسوم الجدارية مجدداً.. هل اتسعت الدائرة السوداء ام انها تتخيل؟!.. تن*دت بتعب يبدو ان ظلامها هو ما يتسع لا اكثر.. اصدقائها تجمعوا حولها بمجرد وصولها، وادركت انها ابداً لم تكن وحيدة .. فهالة ورنا وحتى دنيا كانو اسرتها الحقيقية هنا .. عالم من الالفة الصادقة، اخوة رغم وجودها لا تملئ فراغ روحها المش*هة خلف قناع الامبالاة الذي ترتديه ببراعة .. عضت شفتها بينما تهتف : " كفى .. ابتعدوا انا بخير .. اكاد اختنق .. " تعالت الضحكات وسوزان تهتف من خلفهم جميعا : " ها قد عادت المتوحشة اللئيمة " هي الوحيدة التي لم تبتسم .. الجمود رسم ملامحها وهي تتملص منهم وتدخل صفها بعد ان زارت الناظرة لتعطيها التقرير الطبي الخاص بالحادث .. ورأت التأثر في عينيها.. اكانت الانسة حنان رغم كل ما تفتعله من مشاكل تتعاطف معها؟!. " لدينا حصة عربي بدل الانكليزية .. " قطبت تسأل هالة بغرابة : " كيف هذا ؟! " " الاستاذ اسامة بدل البارحة مع الاستاذ علاء لسبب لم يعلمه احد " " لكني لم احضر كتاب اللغة العربية معي " قاطع كلامهما دخول المعني بالحديث وتحيته للجميع .. ثم اقترب بجسده الرجولي وانحنى قريباً منها يضع يده فوق المقعد ثم سألها : " كيف حالك اليوم ؟! " ابتلعت ل**بها لملامحه المغلقة، لنبرته الغير لطيفة، وكانه يجبر نفسه على السؤال .. فعضت شفتها وتجاهلت الرد بينما تنبري رنا من خلفها قائلة : " افضل .. لقد زالت كل اثار الحادث عن وجهها .. جوري سريعة الشفاء " " سريعة الشفاء !!.. اذا .. حمداً لله على سلامتك " تلاقت نظراتهما .. عيون عسلية مترددة واخرى بلون التراب الندي محاطة بسوار اخضر يجذب الناظر اليهما .. لثوان هو لم يرحمها بتحديقه المستمر بها .. ثم لانت نظراته وابتسم يعدل وقوفه ويتركها .. تركت العنان لانفاسها المسجونة داخل ص*رها منذ اقترب .. ما الذي يفعله هذا الرجل ؟! .. نظراته .. كلماته .. تناقضه بين لين وشدة .. بين حنان وقسوة .. وشعرت بتجمع بعض الدموع داخل حدقتيها .. انه يذكرها بوالد فقدته، والد لم يهتم بآثارها الارجوانية قدر اهتمامه بلفائفه المشتعلة التي تهبه متعة التدخين .. فجأة لم تعد تحتمل .. اختنقت انفاسها داخل ص*رها .. فوقفت وابعدت هالة بصعوبة لتخرج من الصف دون اذن، تهرع نحو السلالم مجتازة اياها بسرعة وهي تلهث .. وصلت للساحة الفارغة تقف في منتصفها.. تتلفت دون ان ترى عيناها ما حولها ، تشهق طلباً للهواء دون جدوى، وترتجف رغم ارتداها لسترتها .. " انت بخير ؟! " الصوت آلم اذنيها .. دفعها اعمق وكل جزء منها اراد منه عطفه .. تفهمه .. تلك الابتسامة المطمئنة الحنونة التي يلقيها على اي فتاة تخطئ بالاعراب اثناء درس القواعد او البلاغة .. " تعالي معي " يده جرتها خلفه .. يقبض على ساعدها المكلوم لتغمض عيناها لا تمنعه رغم شعورها بالالم .. وتحركا حتى ادخلها غرفة المعلمين الفارغة في الطابق الاول .. تاركاً يدها اخيراً.. تنفست لمرات تلهث من سرعته .. ثم رفعت نظرها تمني نفسها باهتمامه لتتفاجئ بصوته البارد الحاد : " اذاً حادث سيارة .. هل هكذا خدعت الجميع ؟! .. انا رأيت الحادث جوري .. رأيته .. الرجل بالكاد لمس اسفل ساقك بجانب سيارته .. " تجمدت .. توقف تنفسها تنتظر باقي كلماته .. تماماً ذاك ال**ت الذي تجابه به عنف ادم وتذمره .. " ماذا اخبرت والد*ك ؟! .. هل يعلمان انك طوال ايام لم تدخلي المدرسة ؟! .. اين كنت تقضين نهارك ؟! .. تكلمي " قطبت هذه المرة .. ما الذي يتفوه به ؟! .. انها لا تفهم شيء .. تأوهت بعدها بألم وهو يمسك ساعدها مجدداً ، ثم يتوقف ليحدق بها ويجرها نحوه .. يسحب القماش بعيداً لتظهر له كدمات يدها الارجوانية .. كرر الامر مع اليد الاخرى ليجد كدمات اضافية .. ولم يمنعها حين سحبت يدها منه بينما يهمس بضعف : " رباه .. جوري .. انا اسف .. اسف .. ظننت انك تكذبين .. هل آلمتك ؟! " تجمعت الدموع داخل حدقتها مجدداً .. ها قد عاد لطفه اليه .. ودون ادراك وجدت نفسها تترك العنان لدمع صامت ليتسلل فوق وجهها، فتتجمد كل الاشياء من حولها وكل منهما ينظر للاخر .. لثوان .. او دقائق .. توقف الوقت .. توقف كل شيء .. وفقت نظراتها المترددة الخائفة كانت تتحرك هنا وهناك لترسم ملامحه في مخيلتها .. اياك جوري، امرت نفسها .. التعلق بالوهم خسارة .. خسارة قاسية .. لا تخبريه بأي شيء هو لن يساعدك.. احد لن يفعل.. عاد الوقت ليتحرك بسرعة هائلة، فشهقت وابعدت نفسها تغطي يدها وتهرب من عمق نظراته المتفهمة المشفقة .. هذا كافي .. هي لا تحتاج شفقته او لطفه .. ارتجفت مجدداً وعبر خط دموع آخر خدها الايمن .. بل تحتاجها،تحتاج شفقة الجميع ،تتوسلها ب**ت كتوسل دموعها الان .. وجدت نفسها ودون ادراك تهمس له : " انها لا تؤلم .. لا شيء بات بقادر على جعلي اتألم "
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD