الفصل الأول..هنا و هناك

1548 Words
هنا..تفتح هزان عيونها على مهل..تتمطى في فراشها..تبتسم عندما تلامس أشعة الشمس الذهبية وجهها..تلقي نظرة على هاتفها..الساعة تشير الى السادسة صباحا..غادرت سريرها..استحمت و ارتدت ثيابها ثم توجهت نحو غرفة سيبال..صديقتها الوحيدة و رفيقتها في السكن..طرقت الباب ثم دخلت و هي تقول " سيبال..صديقتي..هيا استيقظي..لم يبقى الكثير على موعد الرحلة" ازاحت سيبال الغطاء عن وجهها و تأففت بضيق" اوف يا..أريد أن أنام..لماذا لا تذهبين أنت الى الرحلة و تتركينني أنا؟" ابتسمت هزان و ردت " لا..لن أذهب لوحدي..كلتانا مضيفتا طيران..و هذا عملنا..يجب علينا أن نقوم به على أكمل وجه..هيا..كفاك **لا..سأجهز الفطور بينما تستحمين..اياك أن تتأخري و إلا سكبت عليك الماء" قطبت سيبال ( ناصليهان اتاغول) جبينها و قالت باستسلام" حسنا..سأنهض أيتها المزعجة" ..في المطبخ الصغير لشقتهما..وقفت هزان أمام الموقد تعد البيض المفضل لدى صديقتها و هي تغني بصوتها الرقيق تلك الأغنية التي تعني لها الكثير..أغنية لطالما سمعتها بصوت أمها و هي تهدهدها لكي تنام..أغنية ظلت هي الذكرى الوحيدة لها منها قبل أن توافيها المنية منذ خمس سنوات تقريبا..أما أبوها فهي لا تتذكره جيدا..ملامحه ضبابية في مخيلتها ..توفي و هي فتاة صغيرة لم تكن قد أتمت عامها السابع بعد..أنهت هزان اعداد الفطور و جهزت الطاولة و ماهي إلا لحظات حتى انظمت اليها سيبال التي كان الانزعاج باديا على ملامحها..نظرت اليها هزان و سألت بقلق" سيبو..مالأمر؟ ليست هذه المرة الأولى التي نذهب فيها في رحلة طويلة..فيم انزعاجك هذا؟" حركت سيبال شوكتها في صحنها دون أن تضع لقمة في فمها و اجابت و هي ترسم ابتسامة مجاملة على شفتيها" لا تقلقي عزيزتي..أنا بخير..أشعر فقط ببعض الصداع..سيمر..لا تقلقي" ربتت هزان على يد رفيقتها و قالت" كلي جيدا و سأحضر لك حبة دواء و ستكونين بخير" ..بعد حوالي نصف ساعة..كانت الرفيقتان في مطار اسطنبول الدولي تستعدان للمشاركة في الرحلة المنطلقة نحو ألمانيا..ارتدت هزان زيا مكونا من تنورة قصيرة و سترة بلون ازرق تحتها قميص ابيض و على رأسها قبعة صغيرة تغطي بها شعرها الأ**د القصير..ألقت نظرة على سيبال التي كانت تقف بالقرب منها صامتة و شاردة..سألتها بقلق" هل أنت بخير ؟ ان كنت لا تستطيعين المشاركة في الرحلة فلا بأس..قدمي ما يلزم للإدارة و سأتولى أنا الأمور أثناء الرحلة..لا تقلقي" صمتت سيبال لوهلة ثم ردت" لا داعي لذلك..أنا بخير..هيا لنصعد الى الطائرة..لقد حان موعد الإنطلاق" و اتبعت جملتها بإبتسامة فربتت هزان على كتفها و خرجا معا نحو مدرج الطائرات.. هناك..في قصر كبير و جميل يطل على مضيق البوسفور..كان الخدم يدبون دبيب النمل في الأرجاء..في حرص مقيت على تجهيز كل شيء كما يلزم..و عدم التقصير تفاديا لغضب سيد القصر الذي يشبه الجحيم الحارق..صاحت السيدة فكرت رئيسة الخدم قائلة" هيا..أسرعوا..ألم يجهز الفطور بعد؟ دقائق و يستيقظ السيد..لا أريد تهاونا او تراخيا..فليكن كل شيء مثاليا و بلا نواقص..تحركوا" وقف بجانبها شاب ثلاثيني و سأل بقلق" ألم يستيقظ بعد؟" رفعت فكرت عيونها نحوه و ردت" ليس بعد..سيد جان..أنت تعلم جيدا أين كان ليلة البارحة..لذلك لا تتوقع منه أن يصحو باكرا اليوم..لا داعي لأن أذكرك بأن اليوم هو الأربعاء" هز جان ( براق سيفنش) برأسه و قال" معك حق..المهم أن يكون كل شيء كما يريد..و إلا تحول يومنا الى مأساة..انه.." صمت فجأة عن الكلام عندما سمع صوت سيده يناديه من الطابق العلوي" جان..أين أنت؟" جرى جان مسرعا و صعد الدرج بخطوات واسعة و هو يقول" أنا هنا سيدي..قادم اليك" و ما هي إلا لحظات حتى طرق الباب و دخل بعد أن أذن له..بشعر مجعد و عيون بلورية متعبة..وقف ياغيز قبالة جان و سأل بصوت أجش"هل كل شيء جاهز؟" اجاب جان" نعم سيدي..الفطور جاهز و .." قاطعه ياغيز بغضب" و من سألك عن الفطور؟ أنا أتحدث عن الصفقة..هل اتصلت بالعميل؟" رد جان" نعم..اتصلت..و كل شيء على ما يرام..لا تقلق يا سيدي..ليست هذه المرة الأولى التي نفعل فيها هذا" اغلق ياغيز أزرار قميصه الأ**د و مرر أصابعه على شعره ثم خرج و تبعه جان نحو الأسفل..في غرفة الطعام..كانت المائدة الطويلة تعج بشتى الأطباق الملآى بألذ المأكولات..و كان الخدم يقفون في حالة استنفار قصوى ينتظرون أوامر السيد..سحب جان الكرسي لياغيز ليجلس فجلس و أشار له بالجلوس قبالته ففعل..اقتربت فكرت من ياغيز و سألت" صباح الخير سيدي..هل أسكب لك القهوة؟" هز برأسه بالايجاب فسارعت المرأة الى ملئ كوبه بالقهوة الساخنة و وضعت فيها نصف قطعة سكر كما يفضل دائما..ارتشف رشفة من قهوته و أشار الى الخدم بالانصراف بعد أن ألقى نظرة رضى على المائدة..لم يبقى سواه هو و جان فنظر اليه و سأل" جان..متى ستصل البضاعة القادمة من ألمانيا؟" وضع جان الشوكة و السكين من يده و قال"غدا ان شاء الله..ان لم يحصل تأخير في الرحلات" قطب ياغيز جبينه و تمتم بصوت مخيف" لن يحدث تأخير..لا يجب أن يحدث..متى أعطى العراب موعدا و أخلفه؟ يجب أن يسير كل شيء كما خططت له..البضاعة هذه المرة أكبر من كل المرات الماضية..و قيمتها المالية ضخمة..لا مجال للخطأ أبدا..هل فهمت جان؟" طأطأ جان رأسه و هو يقول" فهمت جيدا سيدي" ..بعد لحظات..أنهى ياغيز فطوره فأعطاه جان سيجارا من علبة سجائره الذهبية..خرجا معا الى الحديقة و راح ياغيز ينفث دخان سيجاره في الهواء..كان مداخل القصر و مخارجه تعج بالحراس المسلحين..و هو أمر طبيعي بالنسبة لشخص مثل ياغيز..يسمونه العرّاب..يخشونه..يخافونه..يهابونه..يحسبون له ألف حساب..هو الإبن الوحيد لعائلة إيجمان..أبوه حازم توفي منذ سنة تاركا له مسؤولية المحافظة على تلك الامبراطورية التي تعب في تأسيسها و التي لا يعلم البعض مصادر أموالها الطائلة..فمعرض الأثاث الذي يملكونه و الشركة التي يديرونها لا يمكن أن تكون المص*ر الوحيد لهذه الثروة الكبيرة..فتتعدد بذلك الروايات و تكثر الاشاعات حول مصادر أموال عائلة الايجمان ..فالبعض يقولون بأنهم تجار سلاح..و البعض الآخر يشيعون بأنهم تجار م**رات..و يصل الأمر ببعضهم الى الاعتقاد بأنهم يتاجرون في الأعضاء البشرية..لكن يبقى كل ذلك كلاما دون أية اثباتات..و الشرطة تستمر في البحث و التدقيق و التفتيش احيانا في الشركة و المعرض لعل ذلك يجعلها تعثر على دليل ادانة واحد..لكن دون جدوى..أعمال العائلة قانونية و صفقاتها نظيفة..ف*جل بالغ الذكاء مثل ياغيز..مستحيل أن يسمح لنفسه بأن يخطئ خطئا فادحا يكلفه هدم امبراطورية العائلة على رأسه..يدير كل أعماله بطريقة حذرة و دقيقة..و لا يمنح ثقته الا لمن يستحقها..و رجاله يفعلون كل ما ينبغي لكي ي**بوا ثقته الغالية و لكي لا يعرضوا أنفسهم لغضبه العاصف..و لعقابه الذي لا يرحم..مشى ياغيز بخطى وئيدة و هو صامت و كأن أمرا مهما يشغل باله..و لم يجرؤ جان على ازعاجه او على فتح أي موضوع معه.. في المساء..كانت هزان صحبة رفيقتها سيبال في مطار برلين تنتظران موعد انطلاق رحلة العودة..جلستا في كافيتيريا المطار تتناولان طعام العشاء..قطعت سيبال الصمت بقولها" هزان..اعتقد بأنني سأبقى هنا..في ألمانيا..لبضعة أيام ربما" نظرت اليها هزان باستغراب و سألت" و متى اتخذت هذا القرار المفاجئ؟ و ماذا ستفعلين مع الادارة؟ هل اخبرتهم بذلك؟ و أين ستبقين هنا؟" ابتسمت سيبال و اجابت" عزيزتي..هل نسيت بأن أخي يقيم هنا صحبة زوجته..و بصراحة أشعر بالملل من العمل و أريد أن آخذ قسطا من الراحة..و بالنسبة للإدارة فلا تقلقي..لقد أخبرتهم و أعطوني الإذن للبقاء" قطبت هزان جبينها و قالت بصوت حزين" أنت تعلمين جيدا بأنك صديقتي الوحيدة..و يحزنني أن أعود من دونك" صمتت قليلا ثم اضافت" و لكنني لن أمنعك من أخذ عطلة و من الاستمتاع هنا لبعض الوقت..لكن عديني بأن عطلتك لن تطول و بأنك ستعودين الى تركيا في أقرب وقت" رمقت سيبال صديقتها بنظرة غريبة قبل أن تهمس" حسنا..اتفقنا" وقفت هزان و استأذنت في الذهاب الى الحمام فيما بقيت رفيقتها جالسة تراقب ابتعادها..طأطأت سيبال رأسها و همست بصوت مبحوح" أنا آسفة هزان..لكنني مجبرة على فعل ذلك..أتمنى أن تسامحيني" ..بعد حوالي نصف ساعة..ودعت هزان صديقتها بدموع سخية و بحضن غامر قبل أن تصعد على الطائرة و تنطلق في رحلة العودة الى أرض الوطن..اهتمت كعادتها براحة المسافرين و الابتسامة لا تفارق وجهها رغم حزنها الشديد على فراق رفيقتها الوحيدة..و اولت اهتماما خاصا بالطاقم الدبلوماسي الموجود في ركاب الصف الأول..سفير المانيا في تركيا و بعض مرافقيه..مرت الساعات طويلة عليها للمرة الأولى منذ أن بدأت العمل كمضيفة طيران ..لقد تعودت على السفر صحبة سيبال التي كانت مشاغبة و مزوحة و كانت احاديثها الكثيرة تجعل الوقت يمر سريعا..الآن تشعر بأنها وحيدة رغم وجود مضيفتين أخريين خصصتهما الشركة لرحلة العودة..و انتهت الرحلة أخيرا..و حطت الطائرة في مطار اسطنبول..غيرت هزان ملابسها و خرجت من المطار..كانت شاردة و مكتئبة و لم تنتبه لنفسها الا عندما ارتطم بها احد الصبيان و اوقعها ارضا..سقطت حقيبتها و تناثرت اشياؤها فساعدها بعض الموجودين على جمعها..راحت تنظف ثيابها و تعيد تصفيف شعرها قبل أن يقترب منها شاب طويل و يعطيها حقيبتها و هو يقول" تفضلي يا آنسة..هل انت بخير؟" ردت" شكرا لك..انا بخير" ثم ركبت سيارة اجرة و عادت الى المنزل..استحمت و نامت بعمق بعد أن بكت طويلا على فراق صديقتها..كان التعب قد أخذ منها كل مأخذ فلم تنتبه الى صوت الباب الذي فتح على مهل و لا الى الخطوات التي اقتربت منها ببطء..شعرت فجأة بشيء بارد وضع على جبينها..فتحت عيونها المثقلة فوجدت سلاحا موجها نحو رأسها و صوتا خشنا يقول من خلف القناع" أين سيبال؟ و أين البضاعة؟ هيا أجيبي قبل أن أفرغ طلقات المسدس في رأسك؟"
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD