مالك مراد
إذاً التميز هو الطريق لأكون أول مصري عربي بأعالي السماء, و عضوية الاثني عشر الأسطورية هي المعنى الحقيقي للوفرة, من حيث المال, الحصانة, النفوذ وعلم أخصه لبلدي . نحيتُ التميز قليلاً ونلتُ بعضاً من الراحة وعدتُ للقاهرة للإجازة الأولى بعد ثمان أشهر من الجحيم لألقى جحيمً أخر. أحوال أبي المادية مستمرة بالتدهور بلا أدنى أمل للتحسن, الشركة تنهار, المصانع غُلقت أبوابها, أبي قرر بيع فيلا الزمالك وبنايتين الزمالك والإسكندرية ويستعد للعودة لشقة المعادي التي تسكن بها جدتي الآن ليخفف قليلاً من الديون المتراكمة.
لم يعد لدى أبي ما يرسله ليعولني ببعثتي, فالمبلغ المالي الذي كان يعينني على المعيشة بأمريكا كان مصاغ أمي تبيعه تباعاً وترسل إلي النقود لأحيي مكرماً و قد أوشك على النفاذ.
أين هشام الآن؛ ليجد لنفسي التي ملأها الضيق حلاً للترويح ولو قليلاً, كلماته المنمقة لن تمنع عني جوعاً ولا فقر, أنما تجمل الخواء بآمال المستقبل المشروط بهمتي. كريم أكمل الدور الذي أداه بلوس أنجلوس على أكمل وجه لما نزل لمصر, و عاد لدعوتنا للسهرات و النزهات على نفقته, لأننا أنس ظرفاء نجمل خوائه بدورنا.
منذ وصولي للقاهرة لم أسأل عن حب حياتي, لم أستطع مواجهتها بمدى السوء الذي وصلت إليه حياتي فمن الآن فصاعد, لن أستطيع حتى تأمين المبلغ الذي كنت أرسله إليها شهرياً, فقد انتهى مصاغ أمي وأتى دور جدتي ولن أقبل بذلك بأي حال. لا أعلم كيف ستعيل ماهي نفسها أو أمها المريضة, و لم أسعى لمعرفة مؤكدة, بينما يدي فارغة من دعم و عون, لذلك فضلت الاختفاء ولكن نساء متى خفى عليهن شيء.
أراها تدخل بخطى واسعة لقاعة الديسكو بالفندق الفخم الذي دعانا إليه كريم ومن خلفها صديقتها الجديدة والتي نهيتها مراراً عن صداقتها المريبة. ترتدي بعضًا من ملابس الصديقة الفاضحة على الدواء, بلوزة لامعة شفافة أباحت مفاتنها للعيان, و تنورة قصيرة تظهر سيقانها المغلفة بجوارب سوداء تزينها نقشات النجوم, و أنا و النجوم في نزال, فقد سقطت أحدهم من أعلى رأسي و تهدد بحريق أخضري و يابسي, بل أظن أن النجمة تغلب علي, و أحرقت أوصالي بعدما أمسى مالك مراد فقير.
عودة لماهي؛ تهتز الأرض تحت وطأة حذائها العالي و أول من اهتز و التفت للجمال الصارخ صاحب الدعوة الكريم, قد و أثنى عليها بعيناه. تفاجأ كريم لما سقطت ماهي جالسة بيننا, تتوسطني و صاحب الدعوة و المال, و قد وضعت رسغها على كتف حبيبها الغائب وحدثت صديقاي من معشر الطيور البشرية قائلة بلوم :
- انا مش زعلانة منه بس .. انا زعلانة منكوا إنتوا كمان .
أجابها هشام بلهفة فكاهية بعض الشيء:
- حتى أنا؟
تفحصته ماهي متباحثة ثم خاطبتني :
- مين ده ؟
أجاب هشام تساؤلها مأخوذ بسحرها :
- هشام عطويه .. صديق وأتمنى من كل قلبي بناء جسور صداقة مديدة .
ربت أمجد على كتف هشام مهدئًا لتلك اللوعة و قال موضحاً :
- خطيبة مالك .
أنهى هشام فروض التعارف في أسف و خذلان قائلاً في حزن :
- لمؤاخذة.. تشرفت بمعرفتك.
ضحك كريم هازئاً بلا أسباب ثم أعاد عيونه لمشروبه وترك الجميلة لمالكها, بينما مالكها لفظ أدخنته سيجارته بعيدًا عن وجهها الصبوح ثم نظر لها و قال:
- مين اللى قالك إني وصلت ؟ هى مش كده ؟ إنتي فاكرة لما تخشى قبليها مش هعرف إنك لسه مصحباها خليها تنفعك.
احتدت ماهي بتمثيلية, و أنزلت رسغها عن كتفي بينما تقول بثقة :
- انا أصاحب الأشكال دى أنا بسمع كلام حبيبي.
- إدينى أمارة ؟
أجابتني بنعومة هذه المرة :
- ممكن أد*ك حاجة تانية .
أعادت رسغها لكتفي ثم طبعت قبلة حانية على وجنتي رغم أنني نهيتها عن فعل تلك الأشياء بالعلن ولكن شغف فراق ثمان أشهر أصابها بال**م, و ض*بني باللامبالاة, فلكم تمنيت أن تعيد الكرة, و لكن بشقتي بالزمالك قبل بيعها المرجح من أبي.
صفق جمع الطاولة مهللين للفعل الفاضح بصالة الرقص المحترمة الوقور, أما كريم قال للتهليل كذلك:
- المسامح كريم يا مالك .. خليها ليلة حلوة على الكل .
هذا المثل لا يتورع كريم لحظة عن ترديده لأي سبب يتراءى له, رغم أن المثل يناقض كريم كل التناقض, لأن كريم ببساطة لا يسامح. كريم و ينفق علي و على أصدقائي ببزخ من المرجح أن لا أراه مجدداً , أنما لا أعلم فيمَ تدخله في حياتي أو فيمَ تحدثه من الأصل, يلاطف النجمة المظلمة من عالم الفن و هو يردد أنه مأخوذ بصوتها الساحر, و مسجل سيارته لا يبث شيء إلا أغنياتها الهابطة, بينما النجمة قسماتها تومض بالامتنان لمعجبها الأوحد.
لابد أن يتدخل كريم و يرغي و يزبد كيفما يشاء, فنحن نجلس بالفندق الفخم على نفقته, أيضاً الع***ة التي أحببتها تلاحقها لعنة بدورها و هي- حظ العوالم- أينما حطت تجد ممولين على أتم الاستعداد لتلبية أحلامها, كما الكريم فقد غامت عيناه بينما يفكر في غير جدية بافتتاح شركة شرائط كاسيت تكون نجمتها ماهي.
لا بأس, معجبين ماهي كثر, ببادئ الأمر حسام يدافع عنها و الآن الكريم ينشأ لها شركة. فيما بعد تقبلت سخافات الكريم العديدة, ولا سيما تساقط بعض الكلمات الدونية منه لما علمت من هشام أن كريم نشأ وحيد بلا أخوة أو أصدقاء, علاقاته الاجتماعية لا تتعدى رجال الأعمال وموظفيه, لذلك دائماً حاد الكلمات وغير مراعي لمشاعر أحد والأغرب كريم رغم ثرائه الفاحش لا يدفع مقابل صحبة أحد ولو نساء, فكل من حوله طامعين بصحبته المفيدة, وهو لا يحب أن يُستغل من قبل أحد كما أن الصداقة ليست من شيمه و يراها أغلب الأحيان مضيعة لوقته الثمين.
وهنا تهشمت إحدى أهم قواعد الدويري الصغير بمعرفته للثلاثي الطائر, فقد بات له أصدقاء ليسوا في حاجة لنفوذه أو نقوده إلا قليلًا.
الكريم مهذب بعض الشيء, بتر نظرة التوق عن عيونه للجميلة رغم أنه طلب من النادل دورة مشروبات أخرى على شرفها المصون, أما الجميلة عيونها تحتاج للاقتلاع من محاجرها فهي تتفحص الدويري الصغير بإعجاب واضح, تتفقد وسامته الأقرب لجمال النساء وبدلته الفالتينو وساعته الرولي** ومفاتيح البورشا. يروق لها أخر بوجودي فكيف الحال بغيابي, يبدوا أن نظرة أبي بالنساء لا تقبل تشكيك أبدًا فقد رءاها ع***ة على الطريق.
انتهت السهرة لي فسحبت الجميلة وخرجت من الفندق لأخر الليالي بالزمالك وبعدها الاستعداد لاستعادة جيرتها بالمعادي.
الزمالك و لياليه الساحرة وهى من أمهر المشعوذات, حب حياتي, حبي الأول, جربت كل سحر و يبقى سحرها داخل نفسي. ارتوى العطش و خمدت الهمم, و هي جاثية برسغيها على ص*ري تنظر لعيناي الحزينة وتسألني فيمَ الحزن, فكل مُلك يفنى و علي ألا أزعج قلبي, فهي معي بكل الظروف. كاذبة لم يكن كريم الأول, لوح لها منتج مدعي فتركت الغناء بالفرقة التي تفرق أغلب أعضائها وقرر كلاً منهم الانفراد بموهبته كما فعلت تماماً ولكن لا يبدوا عليها أثار غنيمة ظفرت بها.
قلت متسائلاً :
- سيبتِي المنتج ليه ؟
- كان عايز يعملي عقد احتقار بـ عشرسنين وحفلات خاصة وعايز يمضى ال*قد فى فيلته .
- عجبتك الفيلا ؟
أزعجتها كلماتي اللاذعة واعتدلت عن ص*ري مسكنها كما تدعي و قالت:
- أكيد عارف عجبتنى ولا لاء .
ضحكتُ بتهكم على عفتها المزعومة ثم قلتُ:
- قولتلك وإنتي ركبتي دماغك ومشيتي ورا بنت الـكلب إياها .
- وبتشتم ليه بس ؟!
- زعلانه عليها.. طب إيه رأيك هى بنت كلب واللى مشيت وراها زيها .. مبسوطة ؟
بلحظات عادت لسياميتها وقالت بنعومة :
- غايب عني تمن شهور وجاي تشتمني .
صحت أخيراً بما يعتمل في ص*ري :
- إحترمى نفسك وأنا أحترمك .. عايزة إيه يا ماهى .. انتي ناقصك حاجة .. طلبتي حاجة وانا قصّرت .. ده أنا سفيت التراب عشان تاكلي إنتي البسبوسة .
أجابتني بحدة ملوحة بكلتا يداها لتقلع عينيَّ على الأرجح و ليس للتوضيح:
- هى كل حاجة عندك فلوس.. نسيت الحلم .. نسيت فرقتنا إللي إتفركشت بسببك.. لما إتخليت عنا و كل واحد مشي فى طريق .
- لو بتحبيني تحبي تشوفيني أحسن .. أنا دلوقتي أحسن .. كنت عايزاني أفضل عازف للأبد .
- يبقى إنت عمرك ما كان جواك فنان.. كنت بتضيع وقت لحد ما ضيعتنا كلنا .
هذا هو استقبالي اللائق بعد غياب مضني, لومي على غرور أعضاء الفرقة, ما ذنبي إذ الأعضاء باتت لهم طموحات منفردة بلا الأخرين, أما أنا سيقتُ للجوية رغم أنفي, و بالرغم من ذلك لم أتركهم حتى نلتُ لقب الطبال الطيار المشهر عن جدارة و استحقاق.
لتنتهي الليلة الحالكة كما بدأت, اعتدلت بعصبية على السرير جلوساً, و أزحتها عن ص*ري و صحت بها بغضب:
- أم نكدك .. قومي أرووحك .
عادت لهدوئها و شجنها مجدداً :
- أنا قولت لماما إني بايته عند صاحبتي إنهاردة.. كنت فاكرة إني وحشاك .
- خلاص يبقى تخرسي .. لسه معاكي فلوس؟
- معايا .
- أومال ما جبتيش لبس جديد ليه زي ما إتفقنا .. حتى التغيير مطلوب للفنان الحقيقي اللي زيك ؟
- وعايز تغير فيَّ إيه مش عاجبك ؟
صحتُ بها:
- إنتي هتعيشي الدور عليَّ للأخر ؟! إنتي عجبك اللوك الجديد عشان تبقي شبه صاحبتك الوسخة وتلمِي الزباين من حواليكي .
أجابتني بحدة :
- أنا ما بقلدش حد على فكرة.. وبعدين إنت هتعمل بتغير .. انا مش مراتك يا مالك .. بنام سوا أه .. بتحبنى يمكن .. بحبك أكيد .. بس الفلوس اللي بينا دي معناها إيه؟ تمن إيه بالظبط ؟ تمن الساعتين بتوعنا ؟ ولا كلامك اللي يوجع ؟ ولا مستقبلي اللي ضاع معاك ؟
كلمات بلا معنى, حقائق غابت عنها لسنوات وتذكرتها الآن لما ضاق حالي وحالها كذلك, تبغى انخلاع أنيق يعفيني من التألم, مشكورة الفتاة و عليها أن توفر حججها الغير متقنة بالمرة لضعيف وليس لديب, أي رد يناسب طموحها الجديد غير ال**ت لتمر الليلة هادئة وذلك أفضل للجميع ألا إنها أردفت:
- أنا محتاجه أحس إنك بتحبني .. إنك عايزني بجد .. نجوز يا مالك.
- ما احنا إتكلمنا فى الموضوع ده قبل كده وقولتلك هيحصل شوية أدام .. انتي عارفة ظروفي, أبويا بيصرف عليَّ ولو عرف إني إجوزتك أقل حاجة هيعملها مش هيصرف عليَّ تقدر تقوليلي هنعيش ازاى ؟
كشفت تملصي من فورها لما قالت بخبث:
- من مرتبك .. انت مش بتاخد مرتب برضه؟
- ومرتب الجيش هيقضينا إزاى إن شاء الله.. ما انتي عارفة انا باخد كام .
- أنا كمان هشتغل حفلات .. و انت تبطل شرب وصرف وهنظبطها .
ابتسمت ساخراً و أشعلت أخر سيجارة بعلبتي لاستيعاب المهاطرات الجديدة وقلتُ متهكماً:
- وأنا أستناكي أخر الليل وأكون محضرلك العشا والحمام بعد عرق العافية وأغنيلك يا حلوه يا بلحة .. أنا هنام تصبحي على خير .
***انتهى الفصل***