الفصل الثاني
في أقصى مكان بالأرض، يقف رجل على شاطئ البحر، يضع يديه بسرواله، يطالع الموج الهادئ الذي هو على يقين بأن أسفل هذا الساكن زوبعة ضخمة من الموجات المتلاحقات بعضها فوق بعض، انتشل يداً من يديه مررها على شعره الأ**د و يمررها على قسمات وجهه الذي تخللها بعد الخطوط البسيطة التي تظهر أن هذا الرجل قد جاوز منتصف عمره، ظل وجهه ساكن لفترة لا بئس بها، احتبس أنفاسه داخل ص*ره يخرجها على دفعة واحدة، اختفى الهدوء الذي رسمه باحترافية على وجهه، حل محله الغضب و المقت تجاه شيء ما، ارسل بعينه في الأفق كأنه يبحث فيه عن المستقبل الذي يجهله، ابتسم بمكر يوازي عضبه القابع بين أضلعه قائلا:
عارف يا حبيبتي أنك بتعاني معاه، بس وعد إني هريحك قريبا من كل الذل اللي عشتيه
أخرج صورة لها من جيبه، يتأمل ملامحها الهادئة، يمر بأصبعه على ملامح وجهها و كأنه يرسمها، ينحت لها تمثال ليحيا بقلبه، يطفأ نار الشوق و البعد الذي فُرض عليه، لا يعلم لمتى سيظل هكذا، لكنه منتظراً أن تن** بالعهد، لين** هو الآخر و يكون أكثر من سعيد بفعلته هذه
تحرك من المكان الذي يقف به، ساقته قدامه ناحية سيارته يقودها للذهاب إلى شركته، يلهي عقله في العمل الذي يجيده، و داخله يقسم على الكثير و الكثير
.........................
تجلس لينار بجانب كلا من ريان و اريان، تبتسم معهم ببسمة ميتة، عيناها ساكنة تماما و كأنها في حالة سُبات لا ينفك أبدا، لكن عقلها الشريد شرد في ذلك الجدال المُقام بالأعلى، تسمع كل كلمة تحاك كأنها وسطهم، أو كأن سمعها أصبح أكثر دقة كي يسمع ما يكاد أن يفنيه، لم تعد تهتم بأي بسمة كاذبة ينسوها ما تسمعه حاول ريان أن يليها عن ذلك الصوت الذي تسمعه، غمز إلى اريان بعينيه، فقال اريان:
لينار تعالي نخرج نقضي باقي اليوم برا، نخرج غياث معانا
طالعت لينار وجهه فقالت بعد أن أدركت لما قال هذا:
لا يا اريان أنا مش عايزة أخرج انا قاعدة هنا، بعدين متحاولش أنا من تلت سنين و أنا بسمع نفس الكلام ده بس الفرق إني مكنتش عارفة إني أنا عشان كانت مبتكلمنيش بس دلوقتي عرفت إنها أنا، بس الفرق إني مش عارفة السبب
هطلت دموعها بغزارة، لم تقوى على الحديث أكثر من ذلك، تجاهد نفسها كي لا تنهار، تريد القوة، تريد أن تصبح لهيب لا ينطفأ كاسمها، لكن هي النار من تقترب منها تأكل فيها دون رحمة منها، كما دعت الله و تمنت الموت و لم تنله، تتساءل دوما هل الله يكرهها هكذا لا يسترد أمانته كما تدعوه و لم يستجب، احتضنت نفسها لعلها تسرى في ذاتها القليل من الدفء لكنها لم تستطيع، رفعت نظرها تجاه ريا و اريان قائلة:
أنا طالعتة أوضتي
ريان حاول ردعها عن فعلتها لكنها لم تستجيب له قائلة:
معلش يا ريان عايزة اطلع
ابتسم لها ريان قائلا:
ماشي يا لينار اطلعي و احنا كمان هنطلع نشوف غياث
أومأت له برأسها، سار في ممرات القصر العتيق بالفعل، كلا متجها إلى هدفه، لكنها لم تعرف إن كل طريق سيكون به أشواك، ربما هي لا تريدها
..............................
في الأعلى وقف أحمد أمام انجي، يهز رأسه نفياً من الحديث الذي يسمعه منها، لا يود تصديق ما تقوله هذه المرأة التي عشقها، أي قسوة قد حلت على قلبها حتى تتحول بهذا الشكل البغيض، لو يكن يرافقها، يراها كل يوم، يلمح نظرة الندم التى تخلل عيناها كل يوم لكنها تسيطر عليها لأقسم أنها ليست هي التي يحبها، جلس على طرف الفراش، يحوى رأسه بين راحتي يده، يود الهرب من كل هذا، أيطلقها، إن أراد لن يفعل حتى تخبره بسبب هذا التحول
جلست على أقرب كرسي لها، تتطلع للفراغ من حولها، تتذكر ذلك اليوم الذي كانوا عائدين فيه من الساحل الشامل، في صيف منذ سنوات ليست طويلة و لا قصيرة، كانت سيارة تسير على الطريق الصحراوي متجهين صوب القاهرة، مذياع الراديو يصيح بأنغام فيروز الرومانسية، رجل يضع يده على بطن زوجته الحامل بتؤام في شهرها الأخير، يحادث طفليه بحب، يصنع تلك الربطة الأبوية بين الأب و أطفاله قبل أن يقدما إلى الحياة، يحادثه بمرح كبير، يحكي له عن مغامراته، و مغامرات أخوته، و مع كل حديث يشعر بركلات تض*ب بيده و كأنه يشاركه الحديث، أصوات الضحك تنتشر في السيارة، و الأطفال من الخلف يضحكون بشدة، من الخلف سمع صوت الفتاة تتحدث:
بس بقا يا بابا هما مش فاهمين كلامك، بعدين أنا و أخويا مش أش*ياء أحنا كيوت
استدار لها برأسه و هو يقرص وجنتيها الممتلئة فالطريق ليس به سواهم، شعر بصرخة زوجته التي أفزعته، ترك وجنة ابنته و استدار لها، حاول إيقاف السيارة ليعلم ما بها، لكنه فقد التحكم في السيارة، ليس بها فرامل، هل الموت يؤذن بهم الآن، حاول باستماته إيقاف السيارة لكنه عجز عن ذلك رأي سيارة قادمة بالطريق المعا**، تصادما ليدرك أنها ربما تكون النهاية، لم يعد يشعر بشيء بعد البسمة المودعة و الآسفة التي يلقيها على صغاره، مر وقت طويل جدا، جاءت الشرطة و سيارات الإسعاف، تحمل جميع من في الحادث إلى المستشفى، مر وقت أطول في محاولة لإنقاذ الفتاة التي كانت مصابة بالقلب في صغرها، حالتها سيئة، تحتاج لعملية زرع سريعة جدا، أما الام فقد فقدت طفلة، و الآخر يصارع و هو على وشك الموت، الشاب قد تضرر عموده الفقري، شعر الاطباء حينئذ بالحزن على عائلة تُصارع الموت بكل أشكاله، كانت إصابة الأب كبيرة، لكنه أصر على أن يكون مع زوجته بغرفة واحدة، كانت مغيبة عن الواقع بفعل الم**ر، شعر بالطبيب يدخل عليه بهدوء و هو يربت على كتفه قائلا:
باشمهندس أحمد، حضرتك مؤمن بقضاء الله، انت عارف بإصابة ولادك، بنتك حالتها خطيرة و عايزة عملية زرع بسرعة
هز أحمد رأسه بحزن قائلا بدمع تسلل على وجنتيه قائلا:
انا عارف يا دكتور بس مين المتبرع، إحنا منتظرين إننا نلاقي قلب مناسب لبنتي
ابتلع الطبيب ريقه لا يعلم ما سيقول لكنه أنهى صراعه و قرر البوح:
أنا آسفه للي هقوله، بس الولد الصغير بيموت حرفيا، مفيش أمل إنه يعيش، ممكن ناخد قلبه للطفلة يمكن نقدر ننقذها
ازداد تساقط الدموع على خديه، هز رأسه نفيا، أبكل بساطة سيفقد أحبته، ماذا سيقول للتي ترقد جواره، ربت الطبيب على كتفه قائلا:
أهدى يا سيد أحمد، قول لا إله الله و سلمه أمورك، هسيب لحضرتك وقت نص ساعة تحدد فيه هنعمل ايه، اما تنقذ واحد، يا تفقد الاتنين
بعدها رحل الطبيب، تركه بين المطرقة و السندان، يشعل النار بداخل قلبه أنه على وشك أن يفقد فلذتي من كبديه، طفليه، سر سعادته و تمسكه بالحياة، ماذا يفعل، انجرفت الدموع على خديه تصنع شقوق من قهر الرجال، يطالع زوجته التي ترقد جواره، لا يعرف ماذا سيقول لها عندما تفيق من غيبوبتها لتعلم أنها فقدت ليست روح أنما أرواح من أحبتها، مر وقت ليست طويل حسم فيه قراره بعدما استعان بالله عز وجل، قرر أن يمنح قلب ابنه لابنته، يود ان يخرج بأقل الخسائر، رغم أن خسارته لن يضاهيها خسارة، مضى وقت طويل جدا، فعلت لينار فيها العملية لتحيا بقلب أخيه الذي قد يكون بعثه الله فقط كي يكون منقذ و منجد لها من موت حتمي
مرت أيام طوال، وضعا فيه الأطفال بعد موتها بثلاجة الموتى حتى يأتي من يدفنهما، آتي عبدالله إليهم بعد يومين من الحادثة، الدمع يتسلل على وجنيه، يرى أخيه الذي انهزم ظهره من بشاعة الحادثة، يربت على ظهره، لم يجد منه إلا أن عانقه، يبكي و يقول بقهر:
أحنا أدمرنا يا عبدالله، ولادي ماتوا، ملحقتش أفرح بيهم، ملحقتش أشيل على أيدي أحس بيهم
مسح عبدالله دمعاته، يربت على ظهر أخيه قائلا:
وحد الله يا أحمد عندك اتنين حافظ عليهم
ربت على يده قائلا أن رايح أدفن الأولاد
أحمد بجمود أنا جاي معاك
عبدالله بغضب:
إزاي يا أحمد مش هتقدر تمشي
هز أحمد رأسه نفياً و قال بإصرار:
اتصرف يا عبدالله
بالفعل استطاع عبدالله فعلها، اتجه الاثنان في هدوء لدفن الأطفال، أبى أحمد أن يحمل أطفاله غيره، يود أن يشعر بملمسهما قبل الوداع الأخير، إنه لن يراهما، لن يلمح طيفهما حوله، لن يري مراحل نموهما، تساقطت الدموع على أكنافهما، كأنه يرسل لهم بفعلته تلك مرارة البعد عنه، أنها العناق الأخير، الدفء الأخير قبل أن يواريهم التراب عنه
استفاقت انجي من غيبوبتها، وجدت رجل تعرفه جيدا جالسا جوارها، على وجهه علامات خبيثة لا تحمل ذرة من الرحمة، اقترب بوجهه منها قائلا بحبث:
ألف حملالله على سلامتك يا مدام، و البقاء لله
تجاهلت أول جملة من حديثه، انخلع قلبه من آخر جملة و قالت بتردد:
تقصد ايه؟
لمعت عيناه بمكر:
أوه نسيت إنك كنت في غيبوبة، البقاء لله في اللي كانوا في بطنك ماتوا
هز رأسها في محاولة تنفي حديثه:
إذ اقترب منها بغتة دنا بوجهه نحو أذنها قائلا:
انا اللي كنت السبب في الحادثة، و هكون السبب في موت الاتنين الباقين لو معملتيش اللي هقول عليه
هزت رأسها بنفي ليكمل حديثه:
الولد و البنت و جوزك تكرهيهم فيكي، م***ع تقربي منهم نهائيا، أنا لو سمعت إنك قربتي أو أمومتك سيطرت عليكي و غلبتك، صدقيني مش هندم في قتلهم
قالت بصوت باكي:
ليه
ابتسم لها بمرارة قائلا:
أنت عارفة ليه، بس يمكن ناسية، لو عايزة تشوفوا ولادك بيتنفسوا تعملي اللي قلت عليه
رحل و تركها من خلفه في حالة من الجمود، بعده بفترة و جيزة أتي أحمد و عبدالله، حكيا لها ما حدث، لم تذرف الدمع، كأنها أُصيبت بلعنة الجمود، بعد حديث طويل ردت بكلمة واحدة:
أنا عايزة اروح
استعادت نفسها بعد ذكرياتها المريرة، نهضت من على الكرسي تقترب منه قائلة:
عايز تعرفي ليه
هز رأسه بنعم
قالت دون رحمة منها:
أنا بكرها عشان هي السبب في موت ولادي، السبب في أن ابني يموت عشان تاخد قلبه تعيش بيه، فضلت نفسها على ابني يارتها كانت ماتت هي
ذُهل أحمد من كلامها، ليست التي تقف أمامه الآن حبيبته، بل هي أحد غريب لا يعرفه
سمعت لينار ذلك الحديث حينما تمر بجوار الباب، أصابتها الدهشة حتى لم تقدر على المقاومة سقطت صريعة لحديث لم يرحمها قط