الفصل الأول
الفصل الأول
على شرفات القصور، تقف الطيور تغرد بحنين، الصباح قد حل، و السماء أشرقت بمصابيح النهار الجلي، ذلك الضوء الذي يبعث الأمل في نفوس الكثير من ساكني الأرض، الشمس تخترق النوافذ الحسناء، تداعب جفون الكثيرين، أما تمنحهم بسمة الأمل لذي اكتسبته من ضوئها، و إما تمنحهم ألم هم في غنى عنه
تسلل شعاع الشمس الذهبي يخترق نوافذ أحد القصور الكبيرة، في غرفة باللون الوردي مرسوم ببهجة اللون، رسوم كرتونية، صدقا إنها تليق بفتاة جميلة، أخذت الشمس تلاعب وجهها الناعس، أخذت يدها تفرك في عيناها و وجهها، مازالت مغمضة العينين، تحرك يدها يمينا و يساراً و كأنها تقول للشمس اذهبي، لا أود الاستيقاظ، و كأنها تبغض حياتها، و تبغض ذلك النور الذي يتسلل
نهضت من على فراشها على غفلةٍ منها، فتلك اللصة سرقت منها نومها، أو بالأدق استطاعت أن تسرق منها هروبها، رجعت بظهرها للفراش، تعانق قدامها، جعلت منهما وسادة لها، تتكأ عليهما ليعيناها على ما هي فيه، استباحت ذكرى الأمس عقلها الصغير، لتجهش في بكاء مرير، أفكار تعبث داخل عقلها الصغير، لا تناسب عمرها الذي لا يتجاوز الثالثة عشر، حتى و إن كانت صغيرة ألا يحق لها أن تشعر بحب أحدهم أو كرهه، لا يحق لها أن تشعر أنها مرغوبة من الناس، أما لا يحق لها كل هذا؛ لكن الأمس، بل الماضي قد سلبها كل حقوقها المشروعة لها، لم تشعر بأي من هذا، أخذت تتطلع لرسومات الحائط، استقر نظرها على رسمة سندريلا، كما جال بخاطرها أنها تريد أن تصبح مثلها، ربما ستكرهها زوجة أبيها عقداً؛ لكنها ستنال السعادة مع أميرٍ قرنٍ، هزت رأسها بنفي خفيف، تدرك استحالة أن تصبح مثلها يوما، لن تحظى بحظها، لكن الأمنية العالقة بذهنها رغم سنوات عمرها القليلة أن تنال أمير تعرفه هي كما نالت سندريلا أميراً
كل ذلك التفكير الذي يجمع بين الطفولة و النضوج لحد المكان، احتل ذهنها ذكرى أمس الحزينة، اغتصبت حلقها حتى تزيد مرارة، يزيد نشيجها الشجي بعلو، ذهب ذهنها للأمس، حينما كانت تجلس في غرفتها، تلعب على جهازها اللوحي، فهم في إجازة نهاية العام التي بدأت منذ شهر مضى، تتابع بعض البرامج الكرتونية عليه، تارة تبتسم معهم، و تارة أخرى تبكي، فمن يراها هكذا يصنفها بالجنون، إذا فجأة تشعر بأن أحد دلف إلى غرفتها، يكاد يقتلع الباب من شدة قبضته عليه، ظلت عيناها موضوعة على جهازها اللوحي، لم تقدر على أن ترفع نظرها البتة، هي تدرك تماما من دخل و ماذا يريد منها، انتفض جسدها بفزع، بدأت أوصالها ترتجف خوفا، ظلت من**ة رأسها بخزي و رعب، حاولت التحدث، صوتها يرتجف:
و الله يا ماما ما عملت حاجة
نظرت لها بملامح لم تحمل من الإنسانية شيء قط، اقتربت منها أكثر حتى أصبحت قبالتها مباشرةٍ، امسكت وجهها بيدها تعتصره، تجبر عيناها الصغيرة على التطلع إلى حدقتاها المرعبة، أطالت النظر بهم، نظراتها كانت تحمل بريقا مختلفاً، ظلت ساكنة و هي تحتوى ملامحها بيدها، إذ فجأة تلطم وجه الأخرى بيده بقوة دون أدنى شفقة
تراجعت الأخرى بعد فعلتها الشنعاء، تقهقرت و هي تطالع ملامح الباكية أمامها، تطالع بجمود و كأنها لم تقترف شيء بحقها، كأنه شيء عادي تجيد فعله كل يوم
رحلت من الغرفة تاركة من خلفها طفلة على مشارف الانهيار، علا صوت صراخها في الغرفة، أخذت تتحرك في الغرفة بفوضوية و عشوائية، إنها على حافة من الجنون
انهارت على الأرض باكية، لم تقو على الوقوف أكثر، تنعي حظها كطفلة أن تعيش طفولتها كالتي يعيشها أقرانها، حاوطت نفسها بدراعيها في محاولة طفولية منها ان تهدهد من نفسها، انفتح الباب فجأة مرة أخرى، لكن تلك المرة لم تكن هي الوافدة، بل رجل في ال*قد الخامس من عمره، بأعين بندقية دافئة تحمل نظرة بائسة، و خصلات شعر قد تخلله بعض الشيب، دنا منها حتى جلس إلى جوارها، يعانقها بدفء أبوي، عيناه تحمل حزن و نظرة ان**ار شفعت به عاطفته كونه رجل لا يحق الان**ار، عانقته الفتاة بشدة، و كأنها تود أن تُضاف له كضلع آخر يسكن داخله و لا يئن أبدا، ربت على شعرها، اغتصب ابتسامة على ملامحه قائلا:
أيه يا شعلة النار، لازم كل يوم عياط كده، أنا عايز بنوتي الحلوة تفضل مبتسمة و كلها نور زي النار و اسمك
لينار و هي تحاول رسم بسمة على وجهها الباكي، لم تستطع فسألته بقلب مفتور:
بابا هي ليه ماما بتكرهني كده يا بابا، أنا معملتش حاجة تزعلها مني و الله
ربت أحمد على شعر ابنته، لا يعلم ما الذي سيقوله، فهو الآخر لا يدري ما السبب، اصطنع إجابة تريحهما قليلا:
عارف إنك معملتيش حاجة يا حبيبتي، بس كلنا عارفين إن ماما من وقت الحادثة و هي تعبانة، و كمان زعلانة على أخواتك اللي ماتوا
ظن إنه بعد حديثه هذا ستسكت عن أي حديث آخر، لكنها فجأئته و هي تسأله سؤال أسقط الباقي من تماسكه:
و أحنا كمان مش ولادها يا بابا، أنا و غياث مش ولادها
أطبق على جفناه بشدة قائلا بوعد ربما يكون زائفاً:
و عد يا لينار، وعد إن كل حاجة هتتغيير في القريب العاجل، قومي أتوضي و صلي و انزلي أنت في إجازة، مش هتفضلي حابسة نفسك في الأوضة
أومأت له برأسها موافقة، نهض والداها من مكانه كي يتجه إلى غرفته، بينما وقفت لينار من موضعها، تجاه المرحاض، اغتسلت ثم بدلت ملابسها بملابس ملائمة تقضي بها نهارها، من بعدها توضأت ثم وقفت بين يدي الله تصلي فرضها، رتبت فوضى نفسها أولا ثم هبطت درجات السلم، تتجه صوب مكان تجد فية راحة حتى لو مؤقتة
نزلت و يديها تتلمس سور مذهب، و لوحات أنيقة تتراص باحترافية على الحائط، هادئة لكنها تثير الدفء في النفس، الأثاث الأنيق ينشتر داخل أرجاء قصر الدالي ليدل على فخامته و رقيه و رقي ساكنيه، عبرت كل هذا دون أن تعيره أدنى اهتمام، فهي لا تهتم قط بكل هذه المظاهر الخادعة، فكل ما تريده هو الدفء و الحب الذي قليل ما تجده، ليس من الجميع، لكنها تحتاجه من واحدة قد تغنيها عن الجميع
عبرت الباب الذي يطل على المسبح الكبير، أحست بنسيم عليل يلفح وجهها، ابتسمت بسمة هادئة، شعرت بتلك البرودة تجتاح قلبها، تقدمت في سيرها تجاه مكان مفضل لها من تلك الحديقة، محاط بأسوار من الأزهار النادرة، أوركيد، توليب، نرجس، كل زهرة تعبر عنها، تعطيها أنغام خاصة تعطي لهم طيب خاص لهم جميعا و هي بالأخص، جلست على كرسي في حديقة، كانت شرفة أبويها تطل على الحديقة، استكانت مسندة ظهرها على الكرسي خلفها، أغمضت عينها تتأمل في جمال الطبيعة في ذلك المكان، كأنها أول مرة تراه و ترسمه بعفوية
ظلت هكذا تتأمل كل شيء من حولها حتى سمعت الصوت الذي ما تسمعه كثير، يُقطع من نياط قلبها أكثر، علة توضع فوق علةً حتى تزهقها
...............................................................
في الأعلى في حجرة يغلب عليه الفخامة، جدران مطلية باللون الأ**د، أثاثها رمادي، رغم رقي أثاثها و كل شيء فيها، رغم البزخ الذي يظهر بصورة جلية علي كل شيء مرصوص فيها، إلا انها انطفئت من أي بهجة قد تظهر عليها، تتسطح سيدة في ال*قد الرابع من عمرها على الفراش، تعانق رأسها بين يديها، تغمض عيناها، تحملق في سقف غرفتها، كأنها تبحث فيها عن شيء ما لا تجده، أطالت تأمله، ملامحها خالية جامدة، كأنها لوحي ثلاجي غير محدد ماهيته عدا كونه كرة بيضاء بل شديدة البياض، مخفية ملامحها، و بالفعل قد طُمرت ملامحها خلف قناع أجادت رسمه على قسماته، شرعت في تحريك رأسها يمينا و يساراً، كأنها تواكب نغمة ما، بدت لمن يراها كأنها تتراقص على أنغام سعيدة خاصة مع تلك البسمة التي رسمتها أخيرا على وجهها، فتحت عيناها بغتة، تتطلع في الأفق البعيد عن شيء ما تجهله، انتفضت فجأة من مكانها حينما رأت زوجها يدخل عليها الغرفة، لم يكن آبه بأي شيء، لم يهتم سوى بابنته التي على وشك فقدها قريبا جدا من أفعالها، أخذ يتأمل في ملامحها الباردة التي اكتسبتها مؤخرا، ليست هذه زوجته، ليست حبيبته الذي أفني عمره الماضي في حبها، بل سيفني باقي عمره القادم في إجادة حبها، لكنه هل يستطيع فعل هذا في ظل ما تفعله، تلك العبثية التي تثيرها في حياتهم، فوضى أن استمرت سيفقد زمام أمورهم في الحياة، مر بعينه على قسماتها، أكد لنفسه بأنها هي التي أحبها بل و ما زال متيما بها، اقترب منها، حاوط وجهها بين يديه، رفعه حتى وقعت لؤلؤها أسير بين مقلتيه، حاول ثبر ذلك الحاجز الذي صنعته، لم يستطع شعر و كأنه يحتاج إلى عمر آخر فوق عمره الذي عاشه كي يستطيع فهمها، تحدث محاولة في إذابة ذلك الجليد الذي أقامته بينهم حاجز:
انجي أيه اللي اتغير فيكي، من أمتى و أنتِ كده، من أمتى و أنتِ قاسية على نفسك و على ولادك، أنا حاسس إنك بتخسرينا يوم بعد يوم، أنا اللي بعدتي عنه بعد كا كنت لك أقرب من نفسك، بنتك اللي هتموت من بعدك عنها، غياث اللي أهملتيه و مش بيتكلم، ليه كل ده يا انجي، ليه م**مة إنك تخسرينا أكتر من اللي خسرناه
تطلعت له ببرود هامسة:
أنا زي مانا يا أحمد، أنت اللي حبك كان عمياك و مكنتش شايف عيوبي، دلوقتي بوضح كل حاجة قدام عينك أهي
نظرت لامحه المصدومة، استمرت في الضغط على الجرح الذي أحدثته توا مكملة :
أنا ما أهملتش ولادي ولا حاجة، بنتك بتأكل أفضل أكل، عايشة عيشة كتير بيحلم إنه يعيشها، أشيك لبس، فسح، خروجات، نوادي، عايزة إيه تاني يا أحمد
اتسعت حدقته بذهول، لا يصدق ما يسمعه، سؤال واحد يتبادر إلى ذهنه، أين حبيبته و زوجته، من التي تقف أمامه الآن، بالتأكيد ليست هي التي يعرفها منذ زمن طويل، ليست التي عاشرها أعوام حتى تربعت بحنانها ملكة على عرشه، أخذ يتذكر الأعوام التي قضاها معها، هز رأسه ينفي ما يسمعه، تحدث بعد أن امتص غضبه من حديثها قائلا:
بنتك مش محتاجة ده كله، بنتك محتاجك حبك و حنانك عليها، هتبخلي عليها بحقها فيكي
.....................................................
في الأسفل جلست هي تستمع لكل ما يُقال على مسمع جيدا منها، اعتادت في أخر ثلاث سنوات من ذلك الحديث، لكن قلبها الصغير لم يعتاد على كل ذلك الكره الذي تبديه لها، قلبه يقطر ألما، تريد أن تعلم ما السبب في كل هذا، هل فعلت شيء خاطئ لتكرهها إلى ذلك الحد، ماذا فعلت، أخذت تبحث في ذاكرتها، لم تجد أي جواب قد يطفئ من نيران تساؤلها
....................
على مقربة من قصر الدالي في طريق طويل يشبه تراك الجري داخل أحد النوادي الكبيرة، يجري شبان في مقتبل عمرهما، فواحد منهم فالسادسة عشر من عمره، و الآخر في الثامنة عشر، يركضان في ذلك الطريق الطويل، يتصببان عرقا لكنهما يبتسمان بمحبة وود، يضعان سماعة أذن في أذنهم، أحدهما يُحدث أبيه، الآخر يحدث أمه بالتناوب، ظلوا مستمرين في الجري إلى فترة طويلة جدا دون تعب فقد اعتاد ذلك، بعد انتهاء وقتهما المفضل في الجري، توقفا، يلهثان بقوة من فرط جريهم، تطلع ريان إلى الهاتف و قال لأخيها، الساعة تسعة و نص، زمان لينار صحيت، يلا نلحقها قبل ما تحبس نفسها في الأوضة
ابتسم اريان على حديث أخيه قائلا:
يلا يا عم نلحق البرنسيسة قبل ما تبخل علينا نشوفها
ضحك ريان على حديث أخيه قائلا:
يل بس قبلها نجيب شكولا لها
أومأ له اريان، و اتجه صوب مكان قريب يجلبان ما تحبه لينار
.......................
بالفعل انقضى وقت قصير حتى وصلا إلى القصر، تقدما داخل ممراته يمرحان معاً، وجدوا الطريق خالي دون أدنى عائق، أدركا ريان أنها تجلس في مكانها المكان، تسللا من خلفها في محاولةٍ منهما لتفزع، لكنهما ثبت مكانهما حينما سمعا حديث يكبرها بأعوام لكنه حقيقة تسكن داخل
قسى عليا الزمان و قصاني، هجوته و هجاني، لم يراعي آلامي، تركني وحيدة في أحزاني، لم يوفر لي الدواء و آذاني، أصاب قلبي بالجفاء و أودعني الكلام و فيه ألحاني، ألحان عنوانها أين أيامي، فحياتي كجيتار مقطوعة أوتاره، لا يسمع ألمه إلا عازفه، و كمان يعزف ألحان الفراق، و أنا في الفراق جريحة، كشجرة من دون أوراقٍ و ثماري
سمعت صوت ماكر من خلفها يقول:
هي حلوة و كل حاجة، بس بائسة و كئيبة زي صاحبتها
رفعت لينار نظرها تجاه ريان، لم تتحدث بل أخفضت رأسها مرة أخرى، قال اريان هذه المرة:
بس يا ريان ترخم عليها، أومال من اللي خلانا سيبنا الجري عشان نجيب الشكولا للست لينار هانم
لمعت عيناها بفرحة طفولية تجاه الكيس الذي يحمله ريان، نهضت من موضعها، تدنو أكثر من ريان، اقتربت منه حتى خ*فت الكيس بكل هدوء، لكن ريان أبي أن يعطياها إياه، رأت نظراته اللعوبة، قالت بصوت وديع:
بليز يا ريان
لم يكن له إلا أن يخضع لودعتها، منحها إياه بكل هدوء، بعدما عبثت به، اقتربت تحتضنه شاكرة:
شكرا ليك يا ريان
ابتسم لها بمودة، ذم اريان شفتيه بحزن مصطنع قائلا:
كل الحب و الشكر لريان و مفيش حاجة لاريان
ابتسمت له بخفوت و مازالت عيناها حزينة قائلة:
شكرا ليك يا اريان، شكرا ليكم بجد
ربت اريان على رأسها بهدوء، و كأنه يقول لها لا داعي، رفع نظره تجاه أخيه، كانه يقول له لقد نجحنا بالفعل من إخراجها من حزنها حتى لو مؤقتا، ظلت الابتسامة الخفيفة سادة لفترة ليست طويلة، لكن سكن العالم من حولهم فجأة، حينما استمعوا لصوت صراخ قد أ** أذنها، و أدمى قلبها يعلن إنه ربما قد يكون مفارق للحياة توا