الفصل الثاني

1865 Words
السَلآْم عَلْيُكّمٌ وٍرٍحَمُةّ الله ? ‏هناك امـرأة تُنسى بامـرأة أخرى، وهناك امـرأة لم تُخلق للنسيان. ـــــ ـ ـــــ ـ ـــــ ـ ـــــ ـ ـــــ توقف المطر عن الهطول وقد أينع الزهرُ من بعده خُطوات ناعمة رسمت أثرها على الأرض المليئة بالوحل، كانت تلك أثار الصغيرة رهف التي بدأت بالقفز فوق بِرك المياه المُتجمعة أمام باب منزلهم بسعادة.. ـ لماذا تأخرتِ يا فاطمة؟ سمعت تِلك الحزينة صوتا لطالما سبب لها الإزعاج، ولم تكن تلك سوى زوجة خالِها سوسن. ملأت رئتيها ببعض الهواء كأنها تبخل عليهما وأعطت السائق أُجرته ثم تحركت نحو رهف التي توقفت عن اللعب وهمت بالدخول من قبلها. ـ هل أنتِ خرساء أنا أتحدث معكِ لماذا تتجاهلينني؟. صاحت زوجة خالها بغيظ وقد أوقفتها عن السير مُمسكة بذراعها، نظرت لها فاطمة ببرود كانت سوسن امرأة حادة الصوت، تُميزها تلك البشرة السمراء الصافية تميل إلى البدانة بسبب قِصر قامتها وقوامها المُمتلئ. ـ أتسألين لأنكِ قلقة علي؟. ـ الفتيات المُحترمات لا يعُدن إلى منازلهن بعد غروب الشمس. أجابتها بشيء من الاستهجان لكن فاطمة لم تكترث لحديثها بل وهمست لها بكل جُرأة:" إذن أنا لستُ مُحترمة! " ثم تابعت طريقها لتدلف إلى الصالة التي عادة ما يتم فيها استقبال الضيوف، توجهت من بعدها إلى الجزء الآخر من المنزل حيث تقطُن فيه مع أخيها الأصغر " مؤيد" لكن قبل دخولها إليه سمعت صوت رهف النابع من غُرفة جدها. ـ لقد وضعوا لي الكثير من الأجهزة في ص*ري لكنني لم أخف منها هذه المرة. ـ لأنكِ حفيدتي الشُجاعة التي لا تخاف. حمحمت فاطمة ليلتفت جدها إليها، كان جالسا على كُرسي خشبي بالقرب منه عصاه التي يستند عليها. اشتعل الشيب في رأسه ورسم الزمن أثره على ملامح وجهه لكنه لم يقدر على محو هيبته التي تطأ الجميع!. ـ لي حديثُ معكِ بعد العشاء... أخبرها بجفاء دون أن يُكلف نفسه عناء سؤالها عن حالها أو حتى دون أن يُلقي عليها السلام!. ـ هل يُمكن... حاولت أن تتحدث لكنه صدها بقوله:" لا مجال للاعتراض، أوامري تُنفذ دون تفكير" **تت فاطمة من فورها ثم حملت رهف من حضنه حتى تضعها على فراشها.. بدلت ملابسها ثم جلست تُطالع الأرض كأنها تبحث عن شيء فقدته! دخل عليها مؤيد وهي على هذا الحال لينتشلها من عالمها المُظلم بسؤاله: ـ ما الذي قاله لكِ دكتور ياسين حتى عُدتي بهذا الشكل؟! ـ أنا أخشى عليها وأخافُ من فكرة فُقدانها، قلبي لا يقوى على تحمل ألما آخر!. أناخ مؤيد رُكبتيه بالقرب منها ثم كور وجهها بين يديه قائلا لها:" ستكون بخير إن شاء الله، الله وحده يعلم بحالتها وهو قادر على كُل شيء دعينا نتوكل عليه.. " ـ سبحان الله متى كبرت؟ غيرت فاطمة دفة الحديث باستفزازه حتى لا يستشعر حُزنها. ـ أنا الأن شاب ناضج في السابعة عشر من عُمري. ضحكت على بحة صوته فقد تغيرت في الآونة الاخيرة، هي لم تتوقع يوما أن يكبر بهذه السرعة! لم تتوقع أن تعيش بدون وجود من تُحب! لم تتوقع أن حياتها البائسة ستغدو أكثر بؤسا!. ـ فاطمة، مؤيد جدي يُناد*كما إلى العشاء. سمعا نداء ابنة خالهما لمياء ليُسرعا الخُطى قبل أن يغضب جدهما فهو سريع التعصب!. جلس الجميع حول مأدبة الطعام وكانت أصوات الملاعق وهي تصطدم بحافة الأطباق هو الصوت الوحيد الصادر في المكان حتى قطعه الجد بسؤاله: ـ أين وليد و مُزن؟ نظفت سوسن حلقها وابتعلت ما في فمها لتُجيبه بتوتر:" أنت تعلم وليد أصبح يحمل كل أعباء المنزل بعد وفاة زوجي رحمة الله عليه لذا هو يعود مُتأخرًا من عمله". ـ لو سمع كلامي وتخلى عن طيشه قبل أن يموت ابني كامل لكان حاله أفضل الأن، أنتِ السبب فقد أفرطتِ في تدليله وأفسدت طبعه. **تت سوسن وتناولت طعامها على مضض وفي حلقها ألاف الشتائم التي تمنُعها عن الخروج بشق الأنفس فهي تعي تماما أن والد زوجها يستقل نقطة ضعفهم بشدة؛ فهم يعيشون في منزله ولا يقدر أحدُ منهم على مُعارضة حديثه حتى لا يجد نفسه مُتشردا في الشوارع. ـ أين مُزن؟.. سأل الجد مرة أُخرى ليزداد توترها أكثر لكنها تماسكت لتقول له:" أخبرتني بأنها لا تقوى على تناول شيء آخر فقد أسرفت في الأكل عند الإفطار هي الأن نائمة في غُرفتها.. " **ت الجد ولم يُعقب على حديثها وبعد أن أنهى طعامه وقف من مكانه وقبل أن يذهب التفت نحو فاطمة ليقول لها:" تعالي إلى غُرفتي بعد إنهاء طعامك". أومأت له برأسها دون أن تنبس بحرف. بعد أن تأكدت سوسن من ذهابه التفتت نحوها قائلة:" ما الذي فعلته الأن حتى يطلب عمي حضوركِ؟" . ـ ليس من شأنك.. أجابتها ببرود لتشتعل الأُخرى غضبا، كانت سترد عليها لكن لمياء قالت لها:" لماذا كذبتي على جدي يا أمي فمُزن خرجت من المنزل ولم تعد حتى الأن" . ـ أ**تي يا سليطة ا****ن، أُقسم لكِ لو علم جدك بأمرها لأقطعن ل**نكِ هذا.. وقفت فاطمة من مكانها وفي وجهها تلك الابتسامة المُستفزة لتُذكرها بما قالته لها سابقا:" الفتيات المُحترمات لا يعُدن إلى منازلهن بعد غروب الشمس" ـ هي تخرج مع خطبيها وزوجها المُستقبلي، ليست مثلك تملك أبنة بلا أب!. في تلك اللحظة غضب مؤيد بشدة ليصيح في وجهها:" توقفي عن إهانة أختي، أنتِ تعلمين جيدا أن رهف ليست أبنتُها وعلى الرغم من ذلك قامت بتربيتها وهي في هذا العمر الصغير.. إن أختي أفضل من بناتك بعشرات المرات هل تفهمين ذلك". ـ أصبح للقط لسان.. أيها الأ**ق حتى إن كنتُ أعلم ذلك لكن غيري لا يعلم، الجميع يتحدثون بسوء عن أختك المصون وهي لا تُلقي لهم بالا حتى ينتهي بها الأمر عانسا!. نظرت فاطمة لها شِذرا لكنها سُرعان ما عادت لطبيعتها الباردة وتركت لها المكان دون أن ترُد على حديثها الذي تكرر على مسامعها عشرات المرات. ــــــ ـ ـــــ ـ ـــــ توقف يوسف أمام باب منزله وترجل من سيارته بعد أن ركنها جانبا. نظر إلى حديقتهم الخارجية وقد كانت هادئة جدا وإضاءتُها خافتة بعض الشيء، لكنه شعر بظل شخص يجلس داخلها!، توجه إليه بحذر ودلف إليها دون أن يشعر به وعند اقترابه منه قال بهدوء: ـ من أنت؟ أوقع ذلك الشخص الصحن الذي يمسكه بين يديه وشهق بذعر ليقف من مكانه قائلا:" هذا أنا.. " ـ أبي!! ما الذي تفعله في الحديقة وحيدا؟ لم يكن يوسف يحتاج إلى اجابة منه فقد لاحظ الكعك والباسطة المُتناثرة على الأرض ليرفع أحد حاجبيه ثم قال له بنبرة مُحذرة:" لقد أخلفت بوعدك لأمي وعُدت لتناولها من جديد! " . ـ دعنا نعقد اتفاقا، أنت لا تُخبرها بما رأيت وأنا سأُساعدك في ايجاد عُذر مُناسب يُبرر غيابك عن إفطارنا ا****عي فهي غاضبة منك بشدة. دلك يوسف جسر أنفه كعادة يفعلها كُلما حاول السيطرة على انفعالاته ثم أجاب والده بهدوء: ـ أرجوك يا أبي مُشكلتي مع أمي سأحلُها بنفسي ولكن أنت من عليه الاهتمام بنفسه.. أنت مُصاب بداء السُكري ويجب أن تُقلل من تناول هذه الأشياء.. والدتي تمنعك منها لأنها تخشى عليك من المرض. ـ حسنا، أنا أعدك لن أتناولها مجددا.. ـ هل أنت صادق؟.. ـ بالطبع صادق، هل كذبت عليك يوما؟! رفع يوسف أصابعه الواحد تلو الآخر دلالة على عدد المرات التي كذب فيها، ليتن*د " جمال" بضيق ثم دعاه إلى الدخول حتى يٌنهي هذا النقاش. كان منزلهم كبيرا جدا وبه الكثير من الغُرف في وسطها صالة بشكل دائري، جُدرانها مطلية بالون الأبيض ومعظم أساسها بالونين الأزرق والذهبي، نظر يوسف إلى عائلته المُجتمعة وحولهم هالة من المحبة والأُنْس.. والدته السيدة رُقية أساس هذه العائلة وقلبها النابض.. والده السيد جمال قدوته وسنده في هذه الحياة. أُمنية كبيرة العائلة التي أنجبت لهم الشمس والقمر عمر وعبير، وزوجها السيد فارس. ملاذ أخته الصُغرى وحبيبة قلبه. مازن أخاه الأصغر وآخر العنقود. حمحم يوسف ليلتفت الجميع إليه إلا تلك التي ملكت قلبه! وقد اكتفت بحمل الأطباق وإدخالها إلى المطبخ. ـ كان الله في عونك.. همس له والده ثم توجه حيث يجلس الجميع، اقترب يوسف و حياهم جميعا ودعا لهم بحسن الصيام والقيام ثم توجه إلى أبناء أُخته وبدأ يُلاعبهم فهو يعشق الأطفال بشدة!.. كانت عبير ذات الثلاث سنوات تجلس في حِجره وعمر ذا الست سنوات يتشبث بظهره حتى أتت تلك الحزينة ووضعت طبقا يحتوي على حلوى " الكُنافة" ليهبَّ الجميع نحوها دون انتظار إلا جمال الذي أخذ يُطالعها بأعين القطط لكن زوجته قالت له ببرود:" لن تتناول شيئا منها ولو كنت ستموت أمامي، هل تظنني لم أعلم بفعلتك؟!". ضحك الجميع بصوت خافض لينظر لهم جمال بغيظ ثم توجه نحو التلفاز علّه يُبعد انظاره عن الحلوى ويخمد رغبته في تناولها. ـ لماذا لا تأكل من الكٌنافة يا يوسف؟ سأله مازن وهو يحشو المزيد منها في فمه حتى كاد أن يختنق!. ـ ستموت شهيد الحلوى أيُها الشرِه! قال يوسف ثم أجابه على سؤاله:" معدتي خاوية من الطعام فكيف أتناول الحلوى؟!". ـ ألم تُحلل صيامك بعد؟ سأله الجميع بقلق. ـ حللت صيامي ببعض الماء وشيء من التمر لكنني لم أقدر على تناول طعام لم تصنعه لي يدا أمي.. نظر يوسف إليها في آخر حديثه حتى يستعطفها لكنها كابرت أكثر ليتن*د بضيق ثم وقف من مكانه قائلا:" أستمحيكم عُذرا، سأذهب إلى غُرفتي حتى أُجهز نفسي لصلاة العِشاء ". كاد يُوسف أن يذهب لكن والدته أوقفته لتقول له بغضب يُعبر عن مقدار حُبها وخُوفها عليه:" تعصي أوامري ثم تأتي إلي لتُسمعني كلامك المعسول وأنا مثل الغ*ية أحن عليك.. هيا أجلس حتى أُحضر لك الطعام أنظر كيف أصبحت نحيلا! ". ـ حاشاكِ يا أمي الغالية من الغباء، وأنا أعتذر منكِ لأنني تأخرت لن أُكررها بعد اليوم.. قال لها يوسف ثم قبّلها على جبينها لتبتسم له رُقية وتمسح على وجهه بحنو. سمعا تصفير مازن الذي قال مُداعبا:" يا حبيب أُمك تُسمعها كلمتان معسولتان فتُسامحك وأنا لو دفنت نفسي تحت التُراب فلن ترحمني". ضحك الجميع على حديثه ليهتف جمال أيضا: ـ حديثك صحيح يا ولدي، هي لا تكترث لأحد غيره ونحن نموت من شدة الجفاف العاطفي كان الله في عوننا. ـ جمـــال.. صاحت رُقية بعِتاب ليغمغم الآخر ببعض الكلمات بينما أنخرط الجميع في الضحك مرة أخرى. كانت علاقة هذه العائلة قوية جدا، لا تخلو أيامهم من هذه المُداعبات.. وعلى الرغم من الصرامة التي تُبديها رُقية لكنها ذات قلب رحيم لا يقوى على رؤية أحد وهو حزين!. تناول يُوسف طعامه ثم توجه إلى غُرفته، استلقى على سريره بعد أن أنهكه التعب وأخذت أحداث هذا اليوم تُمر عليه حتى توقف عقله عند تلك اللحظة.. صورتها وهي تقف تحت المطر.. الحُزن البادي على ملامحها.. دموعها المُتجمعة في مُقلتيها.. وجنتيها النديتين.. تلك النبرة الهادئة التي حادثته بها.. كل تلك الأشياء جعلت قلبه ينبض بقوة حتى جلس مذعورا كمن ارتكب خطأ. ـ أستغفر الله، أستغفر الله، أخذ يُردد وهو يُحاول إخراج ملامحها من عقله ثم توجه إلى الحمام المُلاصق لغرفته حتى يتوضأ للصلاة. يوسف يعي تماما بأن الصلاة نور وأنها الصلة التي تُقربه إلى الله هو فقط يرتكب المعاصي ثم يأتي هارعا إلى ربه وقائلا:" بسم الله الرحمن الرحيم" وهو يعي بأن الله أرحم الراحمين، " الحمدلله رب العالمين" هو خالق كل شيء فكيف لا يكون رب العالمين؟! أكمل وضوؤه ثم نزل إلى الأسفل فغرفته تقع في الطابق الثاني. يُوسف يُدرك أيضا أن الله قد أنعم عليهم بنعمة المال، هم يعيشون في رخاء وغيرهم يُعاني من الفقر وهذا يستوجب عليه الشُكر في كل حين فالغنى اختبار وبلاء قبل أن يكون نعمة!. ـ أين والدي يا مازن فالصلاة ستبدأ بعد دقائق؟.. سأل أخاه بعجل ليرد عليه الآخر بتوتر:" إنه هُناك يتحدث مع جدي" . " جدي".. تلك الكلمة جعلت جميع خلايا جسده في حالة استعداد فعلاقتهم به كانت مليئة بالمشاكل.. اقترب يوسف من والده وقد كانت رُقية تقف بقربه أيضا تترقب ما سيقوله ليصيح جمال فجأة:" متى حدث ذلك؟.. لماذا لم تتصلوا بنا؟.. حسنا نحن قادمون إلى المشفى.. " ـ ما الأمر؟ سألت رُقية وقد ذاب قلبها من شدة الخوف. ـ لقد أُصيب أبن أخي مُهند بحادث وهو في المشفى الأن. ـ كيف أُصيب؟ سأله يُوسف بقلق. ـ لقد طعنه شاب في بطنه أثناء تشاجره معه في السوق ثم ولى هاربا. ـ يا الله أللهم أكتب له الشفاء. التقط يوسف مفاتيح سيارته ليذهب هو ووالديه ومعهم زوج أخته فارس لكنه طلب من مازن البقاء في المنزل حتى يعتني بأُختيه. يتبع... ما رأيكم بالفصل الثاني؟ شخصية فاطمة ويوسف؟
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD