>
" مرحباً جميعاً.. إسمي هو جود.. اختصارٌ لجوديث.. اتممت السابعة والعشرون منذ شهرين تقريباً.. وانا.... في الحقيقة، انا لا اعلم الى اين انتمي.. لا اعلم اين ولدت.. كما لا اعلم من انجبتني.. قالوا لي بأن والدتي هي من وضعني عند باب الميتم.. لكن احداً لم يعرفها او يراها.. ولذلك نشأت هناك.. حيث لا احد يعرف نسبه.. ماضيه او مستقبله.. لقد... نشأت بلا عائلة "
وزفرت بحسرة كبيرة.. تحدق في الارض امامها شاردة حزينة فيما كل الاعين مسلطة عليها
" واليوم.. يكون قد مر مئتان وخمسون يوماً على تعافي من الادمان.. ادمان الكحول "
سمعت همهمات من هنا وهناك لكنها لم تنظر لاحد.. هي فقط لم تستطيع.. ترف بجفنيها لتطرد الدموع بعيداً قدر الامكان لكن صوتها الذي ص*ر عنها كان محملاً بالدموع..
مليء بالخسارة
" عانيت كثيراً لكي أصل الى هنا.. لكنني فخورة بما افعل.. ومتأكدة بأني لن اعود يوماً للشرب.. لو مهما حصل.. لأننا لا ندرك قيمة اخطاءنا الا حين نوشك على الخسارة.. بل حين نخسر فعلاً.. وانا قد خسرت.. لقد خسرت بسبب الادمان احب الناس الي وعلى ذلك، سأبقى نادمة لنهاية حياتي!. "
***
>
- الفصل الأول -
أربعة أشهر.. خمسة أيام.. سبع ساعات وثلاثون دقيقة بالضبط..
لقد عدتها كما تعد خطواتها اليومية من والى العمل.. كما تعد اللحظات التي تقضيها قابعة في السرير يجافيها النوم والامان...
عدتها كما تعد الدموع التي تفارق مقلتيها يومياً لفقده..
واجترعت الغصة التي خنقت حنجرتها بصعوبة بالغة.. تبقي على نظراتها مسدله كي لا يرى ملامحها.. كي لا يلاحظ مدى الان**ار في عينيها..
لكنه يعلم!.
هو يعلم يا جود..
فما الذي تخفيه بالضبط!.
وتململت في كرسيها عند حدود الطاولة الخشبية العريضة التي تضمها وتضمه.. فهاهو يجلس مقابلاً لها على كرسي يشابه كرسيها منصتاً ساكناً..
تماماً كما كان في اخر لقاء..
وزفرت انفاسها بصعوبة.. تشعر بص*رها مطبق وهو امر لايبشر بالخير..
الهي ساعدني!
دعت بتضرع..
لكن.. ايسمع الدعاء من امرء مثلها؟!.
وعضت شفتها تكبت الاجابة...
" لكننا نحتاج الوصول لتسوية يا توم!. لقد مر أربعة اشهر على اجتماعنا الاخير وانتم لا تقدمون شيء جديد "
" ما لدينا هو الموجود جوزف.. التسوية المطروحة هي الوحيدة التي ستحظى بها "
تجادل الرجلان المجاوران لكليهما فيما فضلا هما ال**ت كما المرة السابقة.. تنظر جود بطرف عينيها نحو الرجل الشاب القابع بجوارها والذي همهم باستياء لزميله
" نريد وصاية مشتركة.. هذا كل ما تطلبه السيدة والكر "
" لن تحصل عليها وانت تعلم السبب.. كل ما يمكن للسيد والكر تقديمه هو يوم العطلة من كل اسبوع.. طبعا هذا بعد الطلاق.. لكن لا تحلم باي زيادة قبل.. والمحكمة في صفنا تأكد من ذلك "
اختنقت انفاس جود اكثر فسحبت بصعوبة ماتبقى من الهواء حولها.. تقبض اصابعها اسفل الطاولة في محاولة اخيرة منها للثبات..
تعلم بانها ضعيفة مسلوبة الارادة لكنها تحاول..
الله يعلم كم تحاول!.
" السيدة والكر تعمل على تحسين وضعها.. هي تقبع تحت اشراف لجنة المحكمة وتتقيد بالقوانين.. باتت نظيفة منذ سبعة اشهر ونصف ويمكننا اثبات ذلك بالفحص الطبي.. لديها عمل مقبول وقريباً ستستأجر شقة.. لا اعتراض لك اذاً "
" سامحني جوزف.. لكنني غير مقتنع بكلامك.. ولا بكفاءة موكلتك لقضاء يوم واحد كامل مع الطفل.. انها خطر عليه وكلنا يدرك ذلك "
ارتفعت عيني جود في تلك اللحظة لتنظر في وجه من دعته يوماً حبيبها..
اهذا حقاً ما يظنه؟!.
حدقت في ملامحه الجانبية الساكنة بحدقتين ضيقتين وفم مضموم.. لا تدري ماذا تنتظر فمؤكد هذا رايه هو!. وقد نقله لمحاميه بشكل مباشر..
ماذا يريد اكثر بعد؟!.
لقد سلبها كل شيء فماذا يريد اكثر بعد؟!.
ارتعشت شفتيها فضمت فمها اكثر.. الدموع تشكلت كما الستارة في عينيها لتحجب ملامحه بعيداً.. بعيداً جداً..
وفي تلك اللحظة ارتد هو ايضاً بوجهه لينظر اليها...
الكلام حولهما بات سراباً وكل ما جمعهما يوماً يطفو في الذاكرة... سنوات من الذكريات المشتركة.. كيف تقابلا.. واغرما ببعض.. كيف سارت بهما الحياة الى هذه اللحظة..
عينا كولين والكر باتتا زجاجاً اسوداً وهو يحدق اخيراً في ملامحها.. في ذلك الشحوب الذي طغى عليها والدموع التي هددت بالانسياب في اية لحظة من عينيها..
لكنه اعتاد دموعها وبكاءها.. الم يفعل؟
الم يقل لها يوماً ذلك؟ حين طردها من حياته ومنزله... حين رماها جانباً وهو يدرك بانها لا تملك احداً سواه..
حتى طفلها.. ابنها الرضيع ذاك..
حرمها اياه!.
فأي حب هو هذا؟!.
انقبض فك كولين مقابلاً لها فرفت جود بجفنيها لتنحي الدموع..
لقد ارادت رؤيته.. ارادت ان تتشبع من ملامحه ووجوده.. لقد حرمها نفسه ايضاً.. وهو الذي يدرك بألا حياة لها دونه..
لقد احبته اكثر مما احبت نفسها..
وكم اخطات بذلك!
" سيدة والكر! " ناداها محاميها فتململت تبعد نظراتها جانباً.. تحاول سحب انفاس جديدة عميقة لرئتيها ففشلت..
تباً!.. لا!!!.
اختنقت انفاسها داخلاً.. شعرت بها تأبى الخروج الا بصرير عال مسموع.. باعثة الالم في خلايا جسدها اجمع..
ليس الان.. وضغطت اصابعها المرتجفة.. ثم سريعاً سحبت حقيبة يدها متمتمة باستئذان لحظي لتغادر المكتب.. تسير على غير هدى نحو الممر الخارجي.. الى اخره حيث الحمام العام تفتح بابه وتدلف اليه مخرجة بيدين مرتجفتين علبة الاستنشاق من حقيبتها.. تضعها فوراً في فمها ساحباً انفاساً ثلاث الى ص*رها علها تهدأ وتسترخي..
عند النفس الاخير انسابت احدى دمعاتها فاسدلت يدها بخلاص ووقفت هناك باطراف مرتعشة واهنة... تحدق في السكون حولها داخل المكان الصغير المقفل..
كوني قوية جود!.
اما تعبتي من الاستسلام والضعف.
من ان تظهري له مدى ال**ر الذي اصابك في مقتل؟. كيف استطاع بكل بساطة سلبك كل شيء.. اما تعبتي من حبه وفقده.. من التفكير به في الحظة الف مرة.. ومرة؟!.
وفركت وجهها باصابع مرتجفة ماسحة دمعة ضعفها معيدة انفاسها لانتظامها..
هي فقط تشتاق لحياتها القديمة..
لزوجها.. وطفلها..
ذاك الطفل الذي حرمت رؤيته الا لساعة واحد كل اسبوع وبوجود مشرف موفد من المحكمة..
بات كأنه غريب عنها..
كلهم باتوا غرباء عنها..
وكانها ماعرفت اي منهم يوماً!.
الهي... ساعدني!.
واطبقت جفنيها تدعو بتضرع فما لها الا الدعاء.. ثم استقامت ببنطالها الجينز البسيط وسترتها الصوفية الخضراء تتقدم نحو المرآة لتنظر الى نفسها..
تمسح ملامحها الجريحة مبعدة خصلات شعرها البنية الفاتحة بعيداً عن جبينها وخديها.. تتأمل عيناها الخضراوتان المليئتان بالشوق شاتمة اياهما...
تشتاقه!..
وهو يفضل الغياب..
انه لا يفكر بها حتى..
وهو الذي وعدها يوماً بحب ابدي..
باستسلام غادرت الحمام.. تعود نحو المكتب لتجد المحاميان غارقان في حديث شخصي عند الزاوية يشربان القهوة في حين بقي كولين في مكانه.. يده عند جبينه وجفناه مغلقان..
سارع للنظر حين دلفت للمكان فاقتربت تعود للجلوس هامسة
" اعتذر لتاخري "
" هل انت بخير جود؟ "
همهم جوزف وهو يجلس بقربها واهباً اياها فنجان قهوة ساخن فتبسمت بتأدب وهزت براسها
" اجل بخير " ورفضت الكوب بابعاده عنها.. فمعدتها ليست بخير وقد تتقيء في اية لحظة لو شربت او اكلت اي شيء
" حسناً.. لنعد الى نقاشنا اذاً "
" مايهمنا هو الطفل توم "
" ونحن ايضاً "
وعادا لجدالهما فعادت جود الى كولين.. ترفع نظرها فتتقابل بعينيه.. كان في انتظارها.. يتأمل ملامحها بعيون ضيقة خبيرة فتوردت وجنتيها وانقبض قلبها...
لقد ارادت توسله ان يتوقف.. ان يسامح فيعودا كما كانا قبل سبعة اشهر..
تمنت فعلاً لو تستطيع.. لكنه لم يعد كولين نفسه.. بات شخص اخر لم تعرفه يوماً.. وبقدر ما صدمها ذلك بقدر ما آلمها...
فكرة ان تخسر حبه ووجوده كانت الماً قاتل لا شفاء منه.. تعلم بانه لن يعود يوماً كما كان..
كما حالها طبعاً..
كولين وجوديث.. العاشقان المتيمان...
باتا مجرد اسطورة قديمة زائلة..
للاسف!!.