الفصل الاول
لوعة العشق يصاحبها آنين خافت، يطالب القلب بمزيدٍ من الآلآم، يعاتبه حينما يحتضنه خفقة من السعادةٍ في حين أن المعشوق غائب عن العاشق، يتملكه بحصارٍ من التعاسةٍ والعذاب عله يناجيه فيستمع للفؤاد المنادي بحسرةٍ الفراق والتمني باللقاءٍ مجدداً، حينها تحاصره هالة الذكريات شفقة منها فتمنحه بعض اللقطات التي حملت أسمى المعاني لعله يحظى بأيامٍ إضافية للبقاء على قيد الحياة، كالزهرة هي إقتلعت جذورها بفراقه عنها، تساقطت بتلات أوراقها أولاً ثم ذبلت وأصبحت عودتها لما سبق بعهدها أمراً محال، مازالت بمخضعها ترفض تصديق ما رأته منذ قليل، ترفض تصديق سماع صوته الذي يناديها مراراً وتكراراً، ترفض تصديق يديه التي تحرك وجهها بخوفٍ ولهفة، تشعر برأسها تتكئ على ص*ره القاسي بعدما نزع قلبه من جسده ليبقى بعيداً عنها كل تلك الفترة، حملها "مراد" للأريكة القريبة منه، فوزع نظراته بالمكانٍ ليجد زجاجة من المياه موضوعة على الكوماد، أسرع بخطاه ليلتقطها فوقعت عينيه على ملاكه الصغير التي تحتل فراش جناحه، بسمة صغيرة زينت وجهه المعتم ود لو تمكن من حملها بين ذراعيه ليضمها اليه ولكن كان عليه التحرك، عاد سريعاً إليها، ففتح الزجاجة لينثر بعض من قطرات المياه على وجهها، رمشت بعينيها عدة مرات حتى تمكنت من فتحهما وإن كان على مهلٍ، التقت عيناها اللامعة بالدمع بعينيه المتلهفة للإطمئنان عليها، وجدها تطالعه بنظراتٍ صلبة لا ترمش لها جفن، يعلم ما الذي ارتكبه ولكنه غلب على أمره، قرب يديه من وجهها فوجدها مازالت تنظر للفراغ، حثها بندائه علها تنتبه اليه:
_"حنين"، أنا جانبك يا حبيبتي...
بسمة ساخرة رسمت على شفتيها، فقالت بصوتها الخافت:
_لحد أمته؟..
ضيق عينيه بعدم فهم، فأسترسلت حديثها بدموعٍ:
_هتفضل جانبي لحد أمته وهتسبني برضه أمته ويا ترى فترة الغياب المرادي هتكون أد أيه؟، شهر ولا سنة ولا العمر كله؟..
إخترقت قلبه بسهامها النافذة، فتلامست أصابعه وجهها برقةٍ لتزيح دمعاتها المنسدلة، قائلاً بتحدٍ لكلماتها المؤلمة:
_لحد ما الموت يرحب بيا، وقتها مش هقدر أكون جانبك..
رمشت بعينها عدة مرات، ثم استقامت بجلستها، فقالت بهدوءٍ مخيف:
_وأنا المفروض أخمن بغيابك إذا كنت عايش ولا لأ؟!..
وبنظرة عاتبته أشارت له بيدها قائلة:
_أنت عارف أنا اتوجعت أد أيه أنت اتخليت عني في أكتر وقت أنا أحتاجتلك تكون فيه جانبي...
يعلم جيداً المعركة المصيرية التي عليه أن يخوضها، ترك مقعده الذي يقا**ها ثم جلس لجوارها، ال**ت أطبق عليه لدقائق لا يعلم بها كيف سيقص عليها ما تعرض له، **ر حاجزه حينما أمسك بيدها ليقربها اليه ثم قال بعد تردد ملحوظ ونظراته على الفراش البعيد عنه بمسافة:
_ أنا لو عملت كده فعشان كنت خايف إني أتعلق بيها واختار اكون جانبها في الوقت اللي حد تاني محتاجالي ولانه واجبي مكنتش هتقدر أتخلى عنه...
ثم عاد ليتطلع لها من جديد ليمنحها بسمة تعيسة:
_يمكن أكون اختارت أني أبعد بس صدقيني الرجوع مكنش من اختياري..
وازاح دمعاتها بيديه وهو يهمس بسخريةٍ:
_أنتِ أخدتي تشوفيني وأنا واقف على رجلي وعندي عزيمة أحارب الدنيا كلها فمكنش ينفع تشوفيني بالحالة اللي كنت فيها...
صدمت حينما استمعت لكلماته الأخيرة، كلمات كانت كافيلة بنقل صورة صغيرة غما تلقاه من ألمٍ، تتبعت الدمعات دمعات أخرى ثم شهقات خافتة، احتواها بين أحضانه بقوةٍ شفت جوارحه، ملأت فراغات قلبه بالاشتياق لها، لم يعد يريد أي شيء أخر سواها، الشوق القاتل جعل كل شيئاً حوله مجهول، فأصبح عالمهما الخاص ملجأهم الوحيد لكلاً منهما...
***************
بخطاه الثابت شق الدرج صعوداً لجناحه الخاص، رغم جمود ملامحه ولكن قلبه الملتاع يتمرد اشتياقاً لرؤية شجن قلبه، ولج لجناحه وزيتونية عينيه تبحث عنها، وجد غايته بمقعد قريب من الشرفة، إقترب منها بهدوءٍ حتى لا يوقظها، وجدها غافلة على المقعدٍ بإسدالها وبين يدها تحتضن مصحفها الشريف، انحنى بقامته ليصبح مقا**ها، ونظراته تنساب من على معالم وجهها لتتفحص حجم بطنها الذي لم ينمو بعد، أزاح "رحيم" إبرة الحجاب برفقٍ ليتحرر عنها ف*نساب خصلات شعرها بخفةٍ، حملها بين ذراعيه ثم وضعها على الفراش ليداثرها بالغطاء جيداً، رائحته إخترقت حواسها لتوقظها عمداً، شعرت به لجوارها فتمسكت بيديه التي ترفع الغطاء على جسدها بحنانٍ، اشرأبت بعنقها لتجده لجوارها فهمست بفرحةٍ:
_"فريد"!..
وجهها البريء يجعل قلبها يقرع دفوف الطبول وكأنه يعلن عن معركة مصيرية، نطقها لحروف اسمه جعل جسده يهتز بأحاسيس مربكة، أحمر وجهها خجلاً حينما وجدت يدها تتمسك بيديه فكادت بسحبها وهي تتساءل بارتباكٍ:
_أنت رجعت؟!..
أمسك بيدها بقوةٍ وجلس لجوارها قائلاً بصوته الرجولي الذي زادها حياءٍ:
_قولتلك لما هتحتاجيني هتلاقيني جانبك..
أخفضت نظراتها عنه على استحياءٍ، إزداد حينما مرر يديه على جنينها الصغير، متسائلاً بأهتمامٍ:
_تابعتي مع دكتور؟..
هزت رأسها نافية فمنحها نظرة صارمة جعلتها تبرر ببعض الخوف فربما ستلبسه الآن شخصية "رحيم زيدان":
_إنشغلت بحنين ونسيت نفسي...
أعاد تلك الخصلة المتمردة خلف أذنيها وهو يردد بخبثٍ:
_هنشوف الموضوع ده بعدين..
ثم همس بمكرٍ وعينيه تتطلع اليها بمشا**ةٍ:
_عندي كلام كتير حابب أقولهولك ولازم تسمعيه كويس..
ضيقت عينيها بعدم فهم:
_كلام ايه ده؟..
أغلق الضوء وقربها اليه مردداً بخبث:
_هتعرفي...
*************
جابت الغرفة ذهاباً وإياباً، فتارة تكور يدها وتلكم أي شيء يقا**ها وتارة أخرى تجز على أسنانها بغيظٍ، تابعت"منة" حالتها بفرحةٍ وشماتة، فبعدما اعدت لها الحفر وتعمقت في فحرها أصبحت هي مثواها، استرقت السمع اليها فسمعتها تردد بغيظٍ:
_أنا ببلغه اللي بيحصل من ورا دهره يقوم يدبسني أنا في الجوازة دي!..
ردت عليها "منة" بسخرية:
_هو جوزك واحد من الشارع ده جوزك يا ماما وكاتبين كتب الكتاب يعني كده كده كنتوا هتتجوزوا!..
استدارت اليها "سما" وهي تحدجها بنظراتٍ قاتلة، لتجيبها بغضبٍ:
_أنتي بالذات تخرسي خالص، خليكي مدورها مع سي فارس بتاعك وأنا اللي أشيل الليلة..
ابتسمت وهي تهز كتفيها بدلالٍ:
_وماله "فارس" طب ده بيحبني وبيخاف عليا..
توسطت يدها خصرها لترد عليها ساخرة:
_شوف ازاي، مش ده اللي لسه قفشاه في اوضتك بيقدملك حضن تشجيعي للمذكرة؟..
أغلقت الحاسوب من امامها بضيقٍ ثم نهضت لتقف من امامها عل ردها يخرسها:
_جوزي يا ماما يحضني براحته!..
عضت شفتيها بغيظٍ، لتسألها بحدةٍ:
_أنتِ مالكيش اهل يسألوا عليكي يا بت انتي...
ربتت بيدها على كتفيها بشفقةٍ:
_ركزي انتي مع نفسك يا سوما لحسن أنا حاسة أن سيد أميركا هيفلسع منك الواد أخد على التحرر طول عمره ولما جيه مصر قالوله كله بالحلال ولما كتب عليكي لقى حيطة سد..
رفعت شفتيها بسخطٍ:
_أيه كتب عليكي دي، اشتراني يعني!..
جلست على مقعدها مجدداً باستسلامٍ من محاولة اقناعها بأن الزوج يختلف كثيراً عن الارتباط الغير رسمي أو ارتباط التعارف، فهمست بحزن:
_الله يكون في عونه منك...
**************
التقط قميصه ثم ارتدائه مستغلاً غفلتها، فأتجه لفراشه ليتأمل ملاكه الصغير عن قربٍ، لمعة السعادة افترشت عينيه، فحملها بارتباكٍ بين يديه، فكان يحاول جاهداً أن يتعامل بحرصٍ شديد معها، يشعر وكأنه يحمل ورقة رقيقة، او قطعة نفيسة من البلور الزجاجي إن لم يكن حريصاً سين**ر بين يديه، طبع قبلة صغيرة على وجهها وهو يردد بابتسامةٍ واسعة:
_"مرين مراد زيدان"! ..
حركت الصغيرة يدها بحركاتٍ عفوية فاستكمل كلماته بابتسامةٍ عذباء:
_تعرفي إني اختارت إسمك من لما عرفت خبر حمل "حنين" ؟..
وداعب أنفها الصغير بمرحٍ:
_دي تحسبلي على فكرة..
ودث بيديه بجيب بنطاله باحثاً عن القلادة ولكنه تذكر بأنه وضعها بجاكيته فحملها وتسلل بخفةٍ ليسحبه ببطءٍ من جوار "حنين" التي غطت بنومٍ لم تزقه منذ عدة اساببع، ثم أخرج السلسال ليضعه حول رقبة الصغيرة بفرحةٍ..
****************
سطعت شمس يوماً جديد، بعدما تمكنت من تضميد بعض جروح الأحبة، تلقى "مراد" رسالة على هاتفه المحمول، فهبط للأسفل على الفور قاصداً مكتب "رحيم زيدان"، فتح الباب ثم وقف من أمامه ليصيح بعصبيةٍ:
_مش مكفيك أيام الممرطة دي كلها كمان طالبني من ٧الصبح، خير..
بسمة ماكرة ارتمست على وجه الاسطورة الذي حرر درج مكتبه ليتمسك بيديه بهديته الغامضة ثم رفعها بوجهه قائلاً بمكر:
_أمور العيلة بقت تمام، أنا بقول نفكر في نفسنا شوية..
تأمل ما يحمله بين يديه بعنايةٍ، فوجد أربعة تذاكر طيران، فأبتسم هو الأخر بخبثٍ ليلتقطها منه متسائلاً بحيرةٍ:
_كام يوم؟..
غمز بزيتونية عينيه المشا**ة:
_شهر، شهر العسل اللي مش عارفين نعيشه في وسط الصراعات دي..
ارتسم على وجه كلاً منهما ابتسامة مخيفة، وكأن كل منهما منح الآذن للأخر بفترةٍ استرخاء بعيداً عن أجواء مملكة "زيدان"...
على المائدة المطولة التي تحتل منتصف قاعة قصر "طلعت زيدان"، كان يجلس "سليم" على المقعد الأساسي ولجواره "فارس" الذي يدس هاتفه أسفل الطاولة ليراسل حبيبته بحذرٍ من أن يمسك به "سليم"، اما بمقا**ه فكان يجلس" مروان" الذي يتناول طعام الفطور وعينيه متعلقة بمذكراته فاليوم هو الاخير له بالإختبارات الجامعية..
بسمة واسعة ارتسمت على وجهه وهو يرسل لها بشوقٍ
«أنتِ فين؟...»..
اتاه صوتها من خلفه وهي تجيبه باستغرابٍ:
_وراك!..
استدار "فارس" للخلف ليجدها تقف خلفه وهي تشير له بالهاتف بدهشةٍ، زاغت عينيه بارتباكٍ تجاه القابع لجواره فوجده يتمسك بيديه ليلتقط منه الهاتف الذي يخفيه قائلاً بغضب:
_مش قولنا نتكن شوية لحد ما الامتحانات تخلص والامور تعدي على خير علشان أخلص منك ومنها واتنيل اجوزكم!..
سحب يديه الخاضعة لقبضةٍ يديه القوية وهو يوضح له بابتسامةٍ تكبت غيظٍ عظيم:
_وإحنا قولنا حاجة يابو نسب بصبح عليها..
وضع "سليم" الهاتف لجواره وهو يجيبه ببرودٍ:
_لا متصبحش..
أشار بأصبعيه وكأنه طالب يستأذن من مدرسه الغليظ:
_طيب أوصلها الجامعة طيب..
أتاه الرد الجاف مباشرة:
_لأ...
جز على أسنانه بقوةٍ وهو يردد بصوتٍ خافت:
_آه لو مكنش "رحيم" عمل الاتفاقيات والهدنة دي كنت قتلتك وخلصت..
ترك السكين من يديه وهو يطالعه بنظراتٍ مخيفة:
_بتقول حاجة يا "فارس"..
نهض عن مقعده وهو يجذب طبق الجبن البعيد عن متناول يد" سليم" ليسكب منه على طبقه قائلاً ببسمة لطيفة لا تناسبه:
_بقولك مش بتأكل جبنة ليه؟!..
ابتسم بخبث وهو يشير برأسه بعدم اقتناع:
_أه بحسب..
ثم قال:
_أنت مش عندك شغل؟..
كظم غيظه وهو ينهض ليجذب مفاتيح سيارته وهاتفه:
_ايوه عندي، هستأذن أنا بقى..
أشار له بيديه فمنحها نظرة مطولة وهي تتابع حوارهما بضحكاتٍ مكبوتة، غادر على الفور وهو يتوعد اليها بعقابٍ يناسبها، استدار "سليم" برأسه ليتأمل "مروان" الذي لا يشعر بأحداً جواره، يعيد القراءة أكثر من مرةٍ وكأنه سيدلف لإختبارات لأول مرة، ابتسم سليم وهو يراقبه خلسة، فالعشق يفعل أكثر من ذلك، بل ما يفعله أمراً هين، رغبته بأن يجتاز تلك ال*قبة لأجلها ما هو الا دليل لها كونه الشخص المناسب الذي يستحقها...
**************
ساعات طويلة إستغرقتها نوماً وكأنها لم تحظو به منذ أعوامٍ، فتحت عينيها بتكاسلٍ حينما استمعت لصوتٍ بكاء الصغيرة، استقامت بجلستها ومازالت تفرك عينيها بأصابعها في محاولةٍ لاستعادة وعيها، فُتح الباب من أمامها فتفجأت "حنين" بالمربيةٍ تدلف للداخل سريعاً وبيدها جهاز الإرسال الصغير الذي أعطى لها إشارة بإستيقاظ الصغيرة، عبثت بعينيها وهي تتطلع للأريكةٍ التي قضت الليل عليها، فتشتت عقلها ما بين تذكر ما حدث بالليلة الماضية وبين الواقع الص**ح بعدم وجوده بالجناحٍ مما يجعلها بحالةٍ من الإرتباك بأن ما قضته بالأمس هو مجرد حلم عابر طاف بها شفقة على حالها المذري، شددت بيدها على شعرها المفرود من خلفها فتقدمت من المربية وهي تسألها بصوتٍ يجاهد لل**ود بعدم البكاء:
_"مراد" فين؟!..
منحتها نظرة متعجبة وهي تجيبها بإحترامٍ:
_معرفش يا هانم بس اللي اعرفه انه مسافر من فترة.
تطلعت لها بصدمةٍ وهي تشير لها بإنفعالٍ:
_لا رجع، "مراد" رجع ده مش حلم..
وتركتها تم**ص شفتيها شفقة عليها ثم التقطت اسدالها الموضوع على المقعد لترتديه على عجلة من أمرها ثم هبطت للأسفل بخطواتٍ شبه متعسرة فكادت بالسقوط على درج القصر العملاق أكثر من مرةٍ، تسرع بخطاها وكأنه سيغادر مثل المعتاد وتحاول بكل قوتها أن توقفه، ارتاب "سليم" لأمرها حينما وجدها تركض متسرعة دون أن ترى أمامها، دموعها جعلته يشك بما يحدث معها، وقف من أمامها وهو يسألها باسترابةٍ:
_في أيه يا "حنين"!..
كلماتها حائرة، تائهة كحالها:
_"مراد" كان فوق ومعرفش راح فين، أنت شوفته؟!..
زوى حاجبيه وهو يتساءل بدهشةٍ:
_هو "مراد" رجع!...
آمالها تتبخر رويداً رويداً حتى صارت كالريشةٍ التي أطاح الهواء بها وهي بلى حول ولا قوة، هل باتت هزيلة بدونه لدرجةٍ أنها صارت تتخيل وجوده لجوارها، دموعها شقت الطريق على وجهها بنيرانٍ الهبته فجعلته د**ياً للغاية، إقتربت منها "ريم" بعدما هبطت لتو لتنضم لمائدة الافطار، فسألتها بقلقٍ:
_"حنين" أنتِ كويسة؟.
ابعدت يدها عن كتفيها وهي تحاول التماسك فرددت بصوتٍ منخفض يصاحبه بسمة ساخرة:
_لا "مراد" كان هنا، أنا مش بتخيل..
ترك "مروان" مذكراته واستدار مقا**ها قائلاً بحزنٍ على حالها:
_إن شاء الله يرجع بالسلامة..
صرخت بان**ارٍ وقد رج صوتها أركان القصر بأكمله:
_لأ، مراد رجع أنا مش مجنونة..
أراد "سليم" تهدئتها فقال بثباتٍ:
_اهدي يا "حنين"،"مراد" لو رجع كنا هنعرف..
لم تعد قدميها بمتينة لتحملها، فأحتضنتها الأرض بين جسدها، بكت وهي تردد بعدم تصديق:
_لا، مستحيل..
كادت بأن تفقد آمالها بعودته فأتاها صوته المنادي بقلقٍ:
_"حنين"!...
استدروا جميعاً تجاه باب مكتب "رحيم زيدان" بعدما فتح من الداخل على مصراعيه، ليطل هو من خلفه ولجواره مراد الذي خرج بفزعٍ حينما استمع لصراخها، أسرع تجاهها، فجذب يدها ليجبرها على النهوض فابتسمت رغم الدموع التي تعا** ما تشعر به ثم ارتمت بأحضانه تهمس بضعفٍ:
_كنت واثقة اني مكنتش بحلم..
جسده يحاوطه طاقة ألم لا يطيقها حينما يرأها هكذا، تجاهل من حوله فأصبح لا يرى سوى دمعاتها التي تخترق ص*ره القاسي فتصيب بسهامها القلب، تعجب كلاً منهما حينما خرجوا من غرفة المكتب فسألهم "سليم" باستغرابٍ:
_انتوا رجعتوا امته؟..
أجابه "رحيم" بصوته الرخيم:
_رجعنا وانتوا بتعدوا النجوم ومحستوش بمين دخل وخرج من القصر..
اقتربت "ريم" منهما قائلة بابتسامةٍ رقيقة:
_حمدلله على السلامة...
قبل "رحيم" وجنتها، ليربت على كتفيها:
_الله يسلمك يا حبيبتي..
حمل "مراد"،"حنين" لغرفة المكتب ليتفحص أمرها باهتمامٍ، أما بالخارج استأذن سليم بصجبة ريم للخروج فاليوم ستذهب في زيارة ش*يقتها. وضع يديه بجيب جاكيته قائلاً بغموضٍ:
_محدش هيتحرك بره البيت النهاردة، هنكون باستقبال "طلعت زيدان"...
وتركهم وتوجه خلف أخبه بخطواتٍ ثقيلة، ليجده يجلس على أحد المقاعد وهي بداخل أحضانه تتشبث به كالطفل الصغير، أبعدها"مراد" عنه حينما قالت بدموعٍ:
_كنت خايفة أكون بحلم ومتكنش رجعت لسه..
ربت على جسدها الصغير بداخله، هامساً بعشقٍ:
_أنا جانبك ومش هسيبك..
رفعت عينيها الباكية اليه لتخبره بحسرةٍ:
_كنت على طول بتقولي كده وسبتني يا "مراد"..
ثم أزاحت الدموع العالقة بعينيها لتخبره بصوتٍ متقطع للغاية:
_أنت مش فاهم انك بقيت كل دنيتي، أنا ماليش أم وحتى بابا اللي المفروض يحتويني طلع بيستغلني..
وانسدلت دمعة خائنة من عينيها وهي تتمسك بيديه قائلة بان**ارٍ:
_أنا ماليش غيرك أنت..
إجتاز الألم قلبه، فابتسم بوجعٍ وهو يعدل كلماتها:
_لا وفي مرين..
هزت رأسها بعنفٍ لتخبره بقهرٍ:
_كنت فاكرة إنها هتغنيني عنك، بس وجودها مكنش فارقلي بشيء بالع** كنت بحس بالذنب اني مش قادرة أكون أم ليها...
أزاح دمعاتها بأصابعه وهو يقربها لص*ره، أرتخت برأسها قرب نبضات قلبه المتطرفة فتمرمغت بحنانه المشتاق، فهمس بحبٍ تجهل كناياته:
_أنا جانبك ومقدرش أكون غير جانبك لأن ده مكاني الطبيعي..
ثم أجبرها على الابتعاد قائلاً وهو يتطلع لعينيها مباشرة:
_"حنين"، في حاجات كتير لازم تعرفيها ووضعك ده صدقيني مش مشجعني، أنا عايزك ترجعي زي ما أنتي علشان أقدر أكلمك في السبب اللي خلاني بعيد عنك وآآ.
_"مراد"...
تعمد أن يناديه بحدةٍ ليستجمع على اهتمامه، وما أن تطلع تجاهه حتى قال"رحيم" بعنايةٍ:
_حنين لسه تعبانة ومحتاجة ترتاح، الفترة اللي هنسافرها طويلة تقدر تتكلم فيها عن كل حاجة أنت حابب تتكلم فيها..
كانت كلمات مشددة للغاية، بأن حالتها الصحية لا تستدعي ما يود "مراد" البوح بها ليخلص ذاته من ألم تأنيب الضمير الذي يختبره، طرقات خافتة على باب مكتبه أسترعت نظراته المهتمة حينما رأى شجن خاصتة تقف من أمامه، تمنحه نظرات عشقٍ ولهفة وهي تخبره على استحياءٍ:
_بابا "طلعت" وصل..
ابتسم "رحيم" وهو يمنحها نظرة مهتمة جابت فستانها الأزرق بإعجابٍ شديد، فأشار بيديه تجاه اخيه قائلاً:
_يلا أبوك وصل..
ضيق "مراد" عينيه بذهولٍ:
_أبوك!!..
أكد عليه بكلماته الشبه ساخرة:
_أيوه أبوك أمال أبو مين الجيران...
حمل جنين بين يديه وهو يتبعه هامساً بصدمةٍ:
_واضح أن في حاجات كتير تمت من ورا دهري ولازم أعرفها...
**************
بالخارج..
سيارة تليها الأخرى حتى أستقرت أحداهما أمام مدخل القصر الداخلي ، هبط "طلعت زيدان" وهو يستند على ذراع "جان" واليد الأخرى الممدودة بالمساعدةٍ من "ريان"، كاد بأن يختل توازنه حينما على بنظراته ليتطلع للقصر الشامخ من أمامه فتفاجئ بيد قوية تسانده من الجهة اليمنى وما لبث أن يختل توازنه من الجهة الأخرى ليجد سند ليس بأقل قوة من الأخر، أخفض نظراته ليتطلع لجواره بأهتمامٍ تحول لصدمةٍ ودهشةٍ حينما وجد مراد لجواره يسانده بقوةٍ، والجهة الاخرى رأى أخر من توقع وجوده"رحيم زيدان" خطى معهم للداخل وعلامات الدهشة تستكين بين ملامح وجهه المشدوه، كأنه لا يشعر بقدميه التي تتبعهم، صعد معهم بالمصعد حتى وصل لغرفته، فأسنده "رحيم" لفراشه لخاص بينما داثره "مراد" بهدوءٍ، تابعهما "طلعت" بنظراتٍ مطولة انتهت بدموعٍ لا حصى لها، فقال بصوتٍ مهتز:
_في فترة من الفترات، علمني أبويا أن الاحترام اللي لازم تستنيه من ابنك مرتبط بمدى درجة خوفه منك، بمعنى انك لو وطيت ليه هيركبك وده بيبدأ من هزاره معاك ونهايته عدم خوفه منك وده مش في صالحك، ممكن أكون كنت بفكر في كلامه كتير وكنت بقارن خوفي منه في أني مستعد أشوفه في عيون ولادي..
وتن*د بألم وهو يستكمل بإرهاقٍ شديد وكلاً منهم يتابعه بعينيه ب**تٍ:
_غصب عني لقيت نفسي نسخة اتطبعت منه، لقيت نفسي بسلك نفس طريقه، لحد ما عرفت الحقيقة اللي خابتها عني نجلاء، يمكن اكون اتصدمت في تربيتها لفريد وكنت حابب اخليه أقوى من شخصيته الضعيفة المهزوزة بس من جوايا كنت عايزه يفضل كده وميتغيرش، كنت عايزه يحتفظ بالطيبة اللي جواه بس للأسف الزمن اللي احنا فيه بيعصر اللي زيه، كان لازم أقسى عليه علشان يتغير للأحسن..
ربت "رحيم" بيديه على ص*ره وهو يخبره بابتسامةٍ هادئة:
_ارتاح وبكره هنتكلم..
ابتسم وهو يربت بيديه على ذراعيه ليغلق عينيه براحةٍ نعم بها بوجود أبنائه لجواره، خرجوا سوياً وعلى وجه "مراد" ابتسامة أتمها بقوله:
_أممم أيه اللي حصل في غيابي غيرك كده..
خطى لجواره بخطاه الثابت قائلاً بابتسامةٍ هادئة:
_ابتديت اتقبل حياتي زي ما هي مفروضة عليا مش أكتر...
قا**ه بابتسامةٍ عذباء ليخرج ما يحتفظ به بجيب جاكيته قائلاً بمكر:
_هنبدأ الرحلة دي أمته؟!..
وضع يديه بجيوب جاكيته الاسود قائلاً بابتسامة هادئة:
_بعد كذه مشوار هنعمله الأول..
ضيق عينيه بعدم فهم فقال الاخير:
_مش حابب تشوف "فطيمة"..
منحه بسمة هادئة فجذب التذاكر منه قائلاً بحماسٍ:
_هخدك زيارة ليها وبعد كده نظبط امورنا هنا وكالعادة ندبس"سليم" ونخلع..
تعالت ضحكاته بعدم تصديق على ما أصبح عليه ش*يقه، فشاركه الاخير ابتسامة مشرقة ليقف كلاً منهم بمنتصف السور الذي يتوسط مملكة "زيدان"، وكأن باتحادهم قوة لا يستهان بها، وربما تحدي للقادم الذي سيشق الغبار له باتحاد كلاً منهما...
*************_______************