المبادئ ما هي إلا سلم نقف على درجاته خلال الحياة
أحيانا نصعد درجة أو بضعة درجات
و أحيانا أخرى ننزل درجة
لكن كن على علمٍ أن الصعود شاق و النزول سهل حد الانزلاق فقد تجد نفسك قد وصلت سقوطاً حتى الدرجة السفلى في لمح البصر مع أول تنازلٍ تتوالى بعده المزيد من التنازلات
المقدمة :
شهم الحي
اشراقة الشمس هي البداية دائما , بداية الحكاية
بداية كل قصةٍ مختبئة خلف تلك النوافذ الخشبية المغلقة و المحيطة بشرفة غرفته الضيقة
أخذ نفسا عميقا من سيجارة بخسة الثمن , رديئة المكونات تحرق القلب أكثر مما هو محترق مطرقا برأسه ينظر الى الطريق الضيق , من شرفةٍ أكثر ضيقاً لا تكاد تتسع سوى لموضع قدميه
و على الرغم من ذلك فتلك الشرفة تعد منفذه على عالمٍ واسع يختطفه ولو لدقائق من العالم الضيق الكاتم للنفس و الملقى خلف ظهره, خلف أبواب تلك الشرفة تحديدا
زفر نفساً آخر و كأنه يتن*د تنهيدةً مثقلة وهو يراقب الباعة يتوافدون , بعضهم بنشاطٍ و الآخر بتكاسل يجر خيبة مماثلة لخيبته
بعضهم يفترش الطريق ببضاعةٍ قد تكون أقل ثمنا من ثمن علبة سجائره الرديئة
و البعض الآخر يجر عربة لا تغلو بضاعتها كثيراً عن السابقة
شردت عيناه في وجوه البشر وهو يسجل حكاية كلاً منهم , بعضهم يعرفه حق المعرفة و يعرف حكايته منذ يوم مولده و البعض الآخر لا يعرف عنه الكثير فيتبرع بتأليف حكاية له في خياله
مستمداً تفاصيلها من معالم الألم والابتسامة أو الغضب البادية على تلك الوجوه
أما النوافذ فقد كانت قصة أخرى . فهي تخفي خلفها حرمات البشر وهو يأنف التلصص الى الحرمات
لكن تباً لتلك الهواية الغ*ية التي تلتهمه في رسم قصصٍ خلف النوافذ
آآآآه ها هي نافذة جاره لؤي تفتح , تحديدا نافذة غرفة نومه !
لؤي جاره شاب في منتصف العشرينات وهو عريس جديد
لا يعد جديداً ! فقد مر على زفافه سبعة أشهر و زوجته سمية تحمل طفلًا في شهرها السادس
و مع ذلك تصر العروس المنتفخة على فتح نافذة غرفة نومهما مرتدية أحد أقمصة نومها والتي يكاد أن يكون قد كون فكرة عن تلك الباقة اللطيفة متعددة الألوان و الأطوال و الشفافية من كثرة ما رآها أول نظرة قبل أن يخفض عينيه بسرعة
و ما لم يره عليها , يراه منشوراً بوضوحٍ على حبال الغسيل دون تغطية !!
ما بالها لا تهتم ! و ما باله زوجها العريس نائم لا يستشعر الهواء البارد الضارب في مؤخرة عنقه ككفٍ عريضة تطالبه بالاستيقاظ و ستر زوجته !
فلو كان الهواء ينطق لهتف به
انهض يا عِترة و غطِ زوجتك
لو كان متزوجاً الآن لكان أخفى زوجته عن الأعين المتلصصة حتى آخر يومٍ في عمرها
لو
زفر نفساً آخر أكثر عمقا أكبر تنهيدة
لو , لو أشياء كثيرة تمناها كانت قد حدثت
خاطر, أبي يريدك أن تساعده وهو غاضب منك بشدة
تعالى صوت شقيقه الأصغر كوجع الرأس , فأغمض عينيه للحظات
ها هي البداية . بداية حربٍ جديدة
اشراقة الشمس قد تكون أحيانا هي بداية خيبة أملٍ تتكرر كل يوم
و خيبة الأمل هي الملخص الراقي لحياته
هو , خاطر علام عبد السميع
ألقى خاطر بسيجارته في الطريق بض*بها بإصبعه قبل أن يستقيم مواجهاً يوماً جديداً لا يختلف تماماً عما قبله
ثم دخل من الشرفة ذات مكانِ فردٍ واحدٍ مغلقاً بابيها خلفه , بقوةٍ
....
يا خاطر , تعال لتساعدني , سيتأخر إخوتك عن مدارسهم
كان خاطر قد وصل الى باب المطبخ شديد الضيق مبصراً والده وهو يوليه ظهره المنحني بفعل العمر و الشقاء , يسمعه يكلم نفسه متذمراً متجهماً كعادته رغم قلبه الطيب
الآباء يكبرون فيريحهم أبنائهم بينما أنا كُتِب عليَ الشقاء ليل نهار , الحكومة نفسها اعترفت بعمري و أحالتني معاشاً كي أرتاح و أنتم تأبون الاعتراف ! يا خاطر !
خلفك يا حاج
أجاب خاطر بصوتٍ هادئ مستندا بكتفه الى الإطار المتهالك للباب المخلوع أساسا
رمش والده بعينيه قبل أن يستدير متجهماً , ناظرا الى ابنه البكر بجفاء الا أن خاطر لمح نفس النظرة ذات الأبوة المتذمرة دائماً غاضبة, لكنها تحمل بعض الحب على الرغم من ضيقه بأبنائه و المعاش و الحياة و من يعيشها !
تكلم والده بصوتٍ أجش عصبي
ما الذي أخرك عن مساعدتي ؟! تتعمد تجاهل مناداتي لك و كأنني أعمل تحت إمرتكم , أنا من يجب أن يُخدم في هذا البيت لا أن يخدمكم و أنتم كألواح الخزائن
استقام خاطر و دخل الى المطبخ قائلا بنفس الهدوء الذي يستفز والده أكثر
لم يتأخر أحد و لن يتأخروا يا حاج ...اجلس أنت و سأتابع أنا تحضير الفطور
هتف والده بغضبٍ لم يعد يجيد السيطرة عليه منذ أن أحيل على المعاش
ما الذي ستتابعه يا سبع البيت يا لوح ؟! لقد انتهيت من كل شيء لتأتي أنت و تغرف من الأكل غرفاً
تناول خاطر إبريق الشاي الساخن من على الموقد ليسكبه في الأكواب لكنه سمع بوضوح صوت ضحك شقيقه ذي الاثني عشر عاماً على ما يقول والدهما
نظر خاطر بطرفِ عينيه الى شقيقه مكرم وهو يحاول كتم ضحكه بعد أن جلس أمام الطاولة المتداعية أو ما تبقى منها مما جعله يتن*د آخذاً نفساً عميقاً
عادي لقد اعتاد أن يحرجه والده أمام شقيقه الأصغر و قد وصل والده الى السن الذي يصعب توجيهه فيه الا لو تقبل حذاءًا متطايراً عبر الغرف ليرشق برأسه بعد التوجيه
جلس والده متأوهاً على الكرسي الآخر متابعا تذمره و كأنه يكلم نفسه متحسراً
تحضير شطائر للمدارس , كي الملابس , غسل الملابس , طبخ الطعام نهارا ثم تتمزق عيناي الضائعتان في تخييط الأحذية الجلدية مساءا .متى سأجد الراحة ؟! في القبر ؟!
استدار خاطر واضعا الصينية ذات أكواب الشاي على الطاولة قائلا بهدوء
آن الأوان كي تتوقف عن حرفة تصليح الأحذية و الحقائب يا حاج فهي لا تجني الكثير , ستهلك عينيك هباءًا
و كأنه قد أعلن شارة الحرب حيث انفجر والده تقريعاً
أتوقف عن ماذا يا سبع البيت يا خيبة أملي ؟! و هل تظن المعاش الذي أتقاضاه سيكفي مصاريف إخوتك ؟!
استند خاطر الى حافة الحوض ناظرا الى والده الذي ارتشف الشاي ساخناً دون أن يشعر بحرارته أو حتى دون أن يهتم بوضع سكر فقال يقنعه ولو دون أمل
و أيضا القروش التي تجنيها من تخييط الجلد المهترئ لا تجدي نفعاً يا حاج
رمقه والده بنظرةٍ جعلته يوفر الباقي من كلامه و أجابه بامتعاض
على الأقل أساعد, لما لا تجد وظيفة بشهادتك و تغرقنا بالآلاف عوضاً عن ملاحظاتك السخيفة , هذا ما آخذه منك , كلاماً فقط
تصلبت ملامح خاطر قائلاً دون تعبير لكن نبرة صوته تغلفت بغلافٍ حجري
لست عاطلاً يا حاج و دخلي الشهري هو ما يوقف البيت بعد فضل الله .
فتح والده فمه يريد أن يصرخ به و يصب عليه جام غضبه لكنه عاد و **ت
ما بال داء السكر يجعله غير قادراً مؤخراً على السيطرة على الغضب !
ارتشف رشفة أخرى متن*داً بتعب و قال مكلماً نفسه بخفوت غير قادراً على دفع موجة التذمر بعيداً و كأنها تريح مفاصله المتآكلة
يا حاج ! تتابع قولها و كأنك تعايرني
نظر خاطر الى سقف المطبخ المتقشر آخذاً نفساً طويلًا قبل أن يقول مبتسماً دون مرح
أعدك أن تذهب لأداء الحج يا حاج
ضحك والده ضحكة مجهدة و قال بجفاء شارد
قالوا للحمار اصبر , فقال و ما حيلتي غيره , من أين لك بمبلغ الحج ولو بعد مئة عام ! إن كنت لا أدري كيف ستتم أختك الثانوية العامة بما تلتهمه منا الدروس الخصوصية ! و مصاريف تعليم شقيقيك التوأم ! ترى ماذا سيحل بهما بعد وفاتي ؟! كانت غلطة أن أتيت بهما الى الدنيا في عمرٍ متأخر دون تفكير في المستقبل
كان خاطر يعد شطائر للمدرسة فقال ممازحا
أنت من تشاقيت في ساعة حظ يا حاج و قصفت عمر الوالدة .
ساد **ت غريب من خلفه .. مما جعله يلتفت قليلا , فلمح والده يطرق برأسه صامتاً و الكوب الساخن في يده
ترك خاطر ما بيده و اقترب من والده حتى جثا على قدميه بجانب كرسيه واضعا يده على كتفه قائلاً بخفوت
ماذا حدث يا أبي ؟! كنت أمزح فقط , لكنها كانت مزحة سمجة على ما يبدو
هز والده رأسه قائلا
ليست مزاحاً , لقد توفيت والدتك لأن الحمل لم يكن مناسباً في عمرها , نصحتنا الطبيبة بعد أن فوجئنا بخبر الحمل أن نتابع شهراً بشهر نظرا لطبيعة عمرها لكن كل شهر كنا نعتبر أن هناك ما هو أهم من المتابعة الشهرية فننفق به هذا القدر الزهيد من المال ... الى أن فوجئت بمن يطلب لها الرحمة بعد الولادة ! حتى الآن أشعر بنفس الصدمة و الذهول لم تكن تشكو من شيء لم ي**عني عمرها , فقد كانت تحمل الأثاث و تنظف تحته حتى في آخر شهور الحمل لم تشكو مرة واحدة , رحلت و تركت لي خمس مصائب
أطرق خاطر برأسه للحظات يحاول أن يواسي والده لكنه لا يستطيع , فليمنح نفسه بضعة لحظات يشتاق فيها الى أمه اشتاق اليها فعلا , كانت الإنسان الأخير و الوحيد في هذا العالم و الذي أشبعه دلالا
لم ير حناناً بعدها و كأن العالم أقسم على ذلك بعد رحيلها
للحظات بالفعل يشعر بأنه يلوم والده على وفاتها , أو على الأقل عدم اهتمامه بصحتها في الشهور الأخيرة و تبدية كل شيء آخر ماديا على صحتها . دائماً كان هناك ما هو أهم منها أما هي فكانت الفرس العفي الذي لا يمرض فلا داعي لتضييع المال على متابعة شهرية و هي في صحة جيدة
ربت خاطر على ظهر والده قائلا بهدوء مواسياً بعد أن تن*د تنهيدته العاشرة خلال هذا النهار و لم يبدأ بعد !
رحمها الله يا حاج لكل أجلٍ كتاب , هذا ليس ذنبك
أومأ والده برأسه شاردا ثم قال ببطء
رحمها الله و قدرني على ما تركته لي من عبء , الأمل الوحيد لدي في أختك مروة سأصرف عليها كل ما أملك حتى ولو بعت ملابسي كي تدخل كلية الطب و تصبح طبيبة , حينها سأطمئن على إخوتك في رعايتها
أبعد خاطر يده عن ظهر والده مباشرة و نهض من مكانه ببطء ليقول بجفاء
أعطاك الله العمر لتحقق أملك الغالي أنا يجب أن أخرج , سأتأخر عن عملي , هيا يا مكرم نادي شيماء و لا تنسى شطائركما
نهض مكرم وهو يقول متذمراً
كنت أريد شاياً بالحليب يا خاطر
جذبه خاطر من مؤخرة عنق قميصه قائلا ببرود
ربة الصون و العفاف أختك حلمنا الغالي في كلية القمة . صاروخ المستقبل في العلم و الحياة الرغدة قضت على المتبقي من حليب هذا الأسبوع الأخير من الشهر في اعداد صينية المعكرونة الفاشلة التي أعدتها بالأمس و علينا انتظار الأسبوع المقبل
تأفف مكرم عاليا فض*به خاطر على رأسه قائلاً
كفى تأففاً و هيا بنا
خرجا من باب المطبخ المخلوع فأوقفه والده مناديا
خاطر
استدار خاطر متسائلاً , فبادره والده بخفوت متردد و بنبرةٍ خشنة
هل تحتاج الى مال ؟!
ابتسم خاطر ابتسامة جامدة بها بعض من المرارة الا أنه قال ببساطة
مستورة يا حاج لا تقلق .
ارتبك والده قليلا و قال بتردد
حسنا يا ولدي لو كان معك بعض المساعدة
اقترب خاطر من والده و أخرج حافظته من جيب بنطاله الجينز فأخرج منها ورقتين ماليتين وضعهما أمام والده على سطح الطاولة ثم ابتسم مربتاً على كتفه , الا أن والده قال حين أبصر علبة السجائر في جيب قميصه
بالله عليك أليس أخوتك أحق بثمن هذه السموم التي تتعاطاها ؟! و تطلب أن يبارك له الله في رزقك ! أقسم بالله لا جدوى من الكلام معك
ربت خاطر على ظهره مجدداً دون رد و خرج من المطبخ ساحباً مكرم معه فاستوقفته أخته مروة في الخارج مهرولة تجاهه
خاطر
توقف خاطر متوقعا القادم ناظراً إليها بتبلد فقالت و هي تضبط حجابها مقتربة منه بسرعة
خاطر أجر حصة الكيمياء لم
كان لا يزال ممسكاً بحافظته فأخرج منها الورقة قبل الأخيرة و ناولها لها قائلًا بجفاء
خذي لعلكِ ترفعين رؤوسنا و تحققي أمل والدك بعد كل هذه المصاريف
ابتسمت مروة قائلة بصدق
والله يا خاطر أنا آكل الكتب أكلاً أنا حتى أحلم بالمناهج في نومي
**تت قليلا مضطربة خجولة ثم تشجعت قائلة بتردد
نفذ رصيد هاتفي يا خاطر و أنتم لا تستغنون عن الاطمئنان عليِ بين الدروس
ابتسم خاطر وهو يتأملها من يراها لا يظن أنها أخته , فهي بيضاء بقدر سماره و عيناها سوداوان بقدر خضار عينيه الفاتحتين هذا يجعلها محبوبة للعين و يجعل منه !
لا يدري . كان يظن نفسه وسيماً حتى عهدٍ قريب لكن ربما كانت هذه أكذوبة من الأكاذيب الكثيرة التي أوهم بها نفسه طويلاً
ربت على وجنتها أخيراً دون رد ثم أخرج الورقة المالية الأخيرة و ناولها لها ب**ت فتقبلتها منه شاكرة بصوتٍ منخفض هامسة
حين أصبح طبيبة يا خاطر لن أحرمك من شيء و خذ هذا وعد مني ادع لي أن يحقق الله حلمي في دخول كلية الطب , هي أملي الوحيد و غاية همي
ابتسم لها مجدداً ثم نادى عالياً مستديرا عنها
هيا يا شيماء تأخرنا
خرجت أخته شيماء جرياً حاملة حقيبتها و هي تهتف مذعورة
لم أفطر . لم أفطر
رد عليها خاطر بصرامة
انتهى وقت الفطور فلتنفعك الضفائر السنبلية التي تقضين فيها نصف حياتك , لو كنتِ تذاكرين نصف وقت اهتمامك بضفائرك لسبقتِ اختك الى كلية الطب الموعودة
مشت أخته الصغيرة أمامه عابسة جائعة فأخرج لها شطيرة إضافية قائلًا ببرود
خذي يا شبر و نصف أعددتها لكِ لعلمي أن الضفائر أثرت على ثلثي خلايا عقلك , فلا داعي أن يؤثر الجوع على الثلث الباقي
ابتسمت شيماء و هي تلتهم الشطيرة بنهم خارجة من البيت يتبعهم خاطر الا أنه التفت سائلا مروة بصوتٍ باهت
ألن تأتي معنا ؟!
ردت عليه مروة بسرعة و هي تجمع كتبها و تدس الورقة المالية بعناية في حافظتها
اذهبوا أنتم سأذهب خلفكم مباشرة , لقد نمت بعد الفجر سرقتني المذاكرة فلم أشعر بالوقت لذلك تأخرت , دقيقتين و أخرج
أومأ خاطر برأسه ببطء ثم قال
لا تتأخري بعد الدرس , لا أطمئن لعودتك بعد المغيب
ابتسمت مروة و هي تنحني لتربط رباط حذائها الرياضي قائلة
سأعود جرياً كي أجد الوقت الكافي للمذاكرة علني أستطيع النوم مبكراً
صفق خاطر الباب خلفه و نزل درجات السلم متابعاً بعينيه جري شقيقيه التؤم أمامه يض*ب كلا منهما الآخر
قد يظن البعض أنني أخ مثالي رائع , أراعي هذا و تلك
لكن الحقيقة خلاف ذلك , أنا أفعل ما أفعله مجبراً , فلا بديل
تبطاءت خطواته حتى وقف ثم انخفض ليجلس على أحد درجات السلم القديم مخرجاً علبة سجائره من جيب قميصه و ما أن فتحها حتى وجد بها سيجارة واحدة متبقية , تأفف بصوتٍ مكبوت فنظر إليه مكرم من الطابق السفلي مناديا
ألن توصلنا يا خاطر ؟!
مد خاطر رأسه له عبر حاجز السلم قائلا بصوتٍ حازم
اسبقاني و أمسك بكف أختك لا تتركها و سيرا على الرصيف ... أنا سألحق بكما و عيني عليكما
ابتسم مكرم قائلا بمكر
ستدخن سيجارة ؟! سيعلقك أبوك
جعد خاطر العلبة الفارغة في قبضته قبل أن يقذفها بمهارة لتض*ب وجه شقيقه فجرى على السلم هاتفا
والله لأخبرن والدك يا خاطر
ابتسم خاطر ابتسامة قصيرة , قبل أن يشعل السيجارة الأخيرة و يتذوقها على مهل فقد تكون الأخيرة هذا الشهر
تحولت الابتسامة على شفتيه إلى سخرية وهو يتذكر عدد المرات التي أشعل فيها سيجارة وهو يعد نفسه أنها ستكون الأخيرة في العمر لأن البيت أولى بثمنها
نفث الدخان وهو يرفع رأسه عالياً متأملا تلك الدوائر الانسيابية في جمال راقصة رشيقة
لا لست ذلك الأخ المثالي السعيد بإخوته . أحبهم نعم , لكنني كنت أفضل أن أبذل هذا المجهود لأجل أطفالي من باب أولى
لا ينكر أنه صدم حين علم بحمل والدته الأخير و كانت الصدمة فاجعة حين أدرك أنهما توأم !
لم يشعر بأي فرحة وهو في الثامنة عشر من عمره !
و الآن هو في الثلاثين ما الذي حققه خلال سنوات عمر شقيقيه ؟!
لا شيء, صفر
الشهادة الجامعية لم تساوي حتى ثمن الإطار لو أراد تعليقها على الحائط !
أخرجته من أفكاره أصوات جلبة عند باب الشقة أسفل الدرجات التي يجلس عليها ب**تٍ شارداً فابتسم بخبث
هذه هي شادية و هي شادية
تشبه المطربة شادية في رقتها و أنوثتها و دلالها
أخذ نفسا عميقا وهو يضيق عينيه يعد في عقله
واحد اثنان ثلا
لم يكمل حتى فتح الباب و أطلت برأسها تنظر يميناً و يساراً حتى أبصرته فابتسمت تلك الابتسامة الواسعة المندهشة و كأنها لا تعلم بجلوسه هنا
سبحان الله , تندهش يومياً تقريباً !
أطلت و هي تحاول وضع وشاحاً شفافاً على رأسها لم يخفي شعرها الناعم عن قصد و هي تقول بمكر
أنت هنا يا خاطر ؟!
لم يرد على الفور بل نفث دخان سيجارته ثم قال بابتسامةٍ عابثة
لا لم آتِ بعد .
ضحكت قليلًا و هي تخفض وجهها خجلاً ثم رفعته قبل أن تمر الثانية الواحدة لتقول برقةٍ أنثوية مهلكة لرجلٍ مسكين في مثل عمره
حسنا يا من لم تأتِ بعد صباحك ورد يا خاطر
ازداد العبث في ابتسامته وهو يرد التحية
صباح الورد للورد . خير ؟
عقدت حاجبيها الرفيعين جدا بفعلِ مشرطٍ أ**ق ثم قالت بدلال غاضب
خير ؟! أهكذا ترد التحية ؟!
رفع خاطر حاجبيه ببراءةٍ زائفة و هو يقول مدافعا
أنا قصدت فقط أسألك إن كنتِ تحتاجين المساعدة في شيء هنا أو شيء هناك أنا تحت الأمر و الطلب
أخرجت من خلف ظهرها وعاء عسلٍ مغلق لم يفتح بعد و ابتسمت ابتسامة ذات مغزى و هي تقول بنعومة
قلبك دليلك يا خاطر لا أستطيع فتح ال . العسل و أبي لا يزال نائماً
اتسعت ابتسامته أكثر و أكثر لكنه أطفئ السيجارة اللعينة الأخيرة
ليست خسارة في شادية و عسل شادية فليمت التدخين و لتحيا الشهامة
نزل درجات السلم الثلاث حتى وصل اليها فناولته الوعاء و هي تنظر إليه مودعة كل حسنها و دلالها في ابتسامة أنثى ممتنة لعضلات الذكر أمامها و شهامة الرجل الكامنة خلف تلك العضلات
أمسك الوعاء بكف و غطائه بكفٍ آخر ليفتحه بقوةٍ حتى سمع صوت الرجولة في طقطقةِ الغطاء المميزة
مما جعلها تبتسم أكثر و تظهر غمازة وجنتها العميقة فمد لها الوعاء قائلا
أي خدمة
أخذته منه بكفيها تحتضنه الى ص*رها بينما لعق هو إصبعه من قطرة عسل ... فقالت برقة متمنية الرضا و القبول
سلمت لي يا خاطر
أجابها مبتسما رافعا أحد حاجبيه
العفو يا شادية , الجار للجار
ساد ال**ت بينهما و ارتبكت قليلا و كأنما تنتظر منه أن يبادر بموضوعٍ يتحدثان به , عوضا عن محاولاتها الحثيثة في فتح مواضيع مختلفة كي تجره للكلام و لا يتطوع هو بالمثل
و كان يعلم ما تفكر فيه و يبقى صامتاً مبتسماً لا يريحها الى أن وجدت العمر يمضي فرفعت عينيها الجميلتين تنظر الى عينيه ثم تن*دت قائلة بخفوت
هل تعلم أن لون عينيك غريب مع سمار بشرتك يا خاطر ؟
ارتفع حاجباه معا و زاد الهزل على شفتيه وهو يسألها بدهشة
حقا !
احمرت وجنتاها و أومأت دون رد و هي تشعر و كأنها قد زادت عيار الجرأة قليلًا اليوم لكن ماذا تفعل وهو تيس لا يبالي !! ....
سألها خاطر دون رحمة مبتسما تلك الابتسامة المميزة التي يدَخرها لظروفٍ مماثلة
و هل هذا شيء جيد أم سيء ؟!
ازداد احمرار وجنتيها بشدة حتى أشفق عليها بصدق هذه المرة لكنها لم تجد بُداً من الرد
جيد بالطبع
لم يرد خاطر بل ظل مبتسماً بمكر مما جعلها تلتفت خلفها و هي تزفر نفساً ساخناً مرتجفاً من شدة توترها ثم سيطرت على نفسها و هي تستدير إليه مجددا قائلة بصوتٍ خافت محبب
والدي يسلم عليك
ابتسامة " اهرب يا ولد " ارتسمت على شفتيه وهو يقول متراجعاً بسرعة و قد دق جرس الإنذار في عقله فجأة
سلمت عليه العافية أقصد سألت عليه العافية . أعني سلمه الله من كل شر
ضحكت شادية و هي تضع قبضتها على فمها بوجهٍ محمر مخطئة تفسير ارتباكه , متخيلة أن جمالها الخلاب هو السبب بينما الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك
قال خاطر أخيرا بدبلوماسية مبتسماً
تأخرت على عملي
منحت صوتها رنة الإخلاص الزوجي الذي يتمناه أي رجل و هي تقول
كتب الله لك في كل خطوةٍ سلامة و زاد من رزقك
أومأ رافعاً حاجبيه بتشنج الا أنه ابتسم و ابتعد مسرعا لكنها نادته قائلة بمحبة
خاطر كفاك تدخيناً , حرام عليك صحتك و هناك من يحبك
ازداد ارتفاع حاجبيه وهو ينزل على السلم ملتفتاً إليها فتعثر بدرجة م**ورة مما جعله يقع نصف جالس
فضحكت شادية عالياً غير قادرة على امساك ضحكتها .
أما هو فنهض شاتماً حركة الشهامة التي ضاعت و ضاع معها مزاج السيجارة الأخيرة هباءًا بهذه الوقعة
تابع خاطر نزوله حتى خرج من باب البيت القديم و مشي بين الوجوه ال**بسة في طريقها و طريقه
طريقهم واحد حتى لو اختلفت الاتجاهات
طريق الخيبة و الندامة !