دثت السماء الأرض بأمطارٍ خفيفة ولفح سِحر رطب الهواء بشرتها الرقيقة وهي تدنو ببطء للاسفل بقدمها العرجاء ، ومن يراها يقول أنها طفلة وليست فتاة قد عادت ذكرى مولدها في تاريخ هذا اليوم ....
التفتت حولها في الممر الطويل بعد أن تركت آخر خطوات الدرج الرخامي هبوطا للاسفل ..رمقت امها تجلس وبيدها مجلة تعرض أزياء نسائية ..اقتربت مريم منها بتذمر حتى وقفت أمامها وأردفت بأعتراض :-
_ بردو مش هتعملولي عيد ميلاد !
رفعت ليالي نظرها إلى ابنتها بحدة وقالت بضيق:-
_ اظن أنتي عارفة السبب يا مريم ، جدتك ماتت في اليوم ده ، وكمان آدم ....
**تت ولم تتابع وامتلئت عيناها بصري الدمع الحزين الذي صاح في القلب وسكن ...قالت مريم وأردات أن تدب قدمها بالارض اعتراضاً ولكن عرج قدمها صفع إرادتها بالتمرد :-
_ مش ذنبي أن آدم مش أخويا ، ومش ذنبي أنه عرف الحقيقة يوم ما اتولدت ،ومش ذنبي أن تيته كمان ماتت في نفس اليوم !هي كانت تعبانة من زمان وبابا قالي كدا !
نهضت ليالي وانتفضت من مقعدها بنظرة حادة ثم مالبثت أن لانت قليلا لأن ابنتها لا ذنب لها فيما حدث هذا اليوم الذي ولسوء حظها وافق يوم شاق القلب فيه من الالم ..
قالت وهي تربت على كتفاها بلين وحنو :-
_ طب خليه يوم تاني ، وهعملك احلى حفلة
نفضت مريم رأسها برفض وعيناها الزرقاوان تتلألأ بدموع كضي النجوم في سماء وجهها الباهر الجمال ...قالت بصوت تاه بنبرتها الباكية:-
_ مش بيبقى ليه طعم ومابحسش بيه ، انا كل سنة على كدا ، ياريتني مُت وريحتكوا...
ذهبت من أمام امها وهي تجهش في البكاء وهاجم قلب الام (ليالي) الحزن لرؤية ابنتها بهذا الحزن والعرج التي لازمها منذ ولادتها ....سرى الدمع على وجنتيها وهي تجلس مجددا وتذكرت يوما لن تنساه ابداً ...
:فلاش باك لسنوات خلت ومضت :
___________________________
يومًا اتى بنهارٍ مشرق بابتسامة على فمها تُسعد الرائي بدون سبب ،انتظرت ليالي زوجها "عمر" حتى يأتي من سفره بمهمة عمل طارئة للخارج عبر مكاتب مراد غالي بعد أن تم دمج شركاتهم بموافقة الطرفين ....
دلف إلى الغرفة وهو باسط ذراعيه لها كي تنتمي إلي ضلوع ص*ره الذي خلفه حياة القلب تعشقها ....همست له برقة وهي تنظر بعيناه بنظرات مشا**ة ..قالت :-
_ هقولك خبر بس مش عايزاك تتعصب ، لو كنت غالية عليك ..
قربها له مرة أخرى بلهفة وقال :-
_ قولي كل حاجة انتي عايزاها ، وحشني صوتك
اتمت العزم واجمعت شجاعتها ثم قالت وكأنها تُلقي بالحديث ولا تتفوه به :-
_ انا حامل ومش هنزله وحياتي عندك
تبلد وجهه فجأة وابعدها عنه قليلا ثم قال بعتاب :-
_ الدكتور قال ماينفعش يا ليالي ، انتي عندك مشاكل وأي طفل هتجبيه هيكون عنده مشاكل ، انتي مش شايفة فهد ، حالة التشنج اللي بتجيله بتزيد سنة بعد سنة ومالهاش علاج ....
ضغطت على فمها التي سالت عليه دموعها ثم قالت معترضة :-
_ انا استنيت كتير أوي ، ده فهد بقى عنده ١١ سنة ، مش يمكن ...
قاطعها بحدة وعصبية:-
_ انا قلت لأ يعني لأ ، لأن كمان في خطورة على صحتك وانا ما صدقت بقيتي كويسة ، انتي ما بتجبيش اطفال سليمة ...
بعدت عنه وكأن لامسها صاعقة كهربائية واتسعت عيناها بذهول من قسوة جملته حتى الجمت فمها من الحديث ..
أدرك خطأه سريعا وأراد أن يصفع نفسه على هذه الجملة الشنيعة التي جرحتها إلى هذا الحد حتى جذبها إليه رغم اعتراضها وتأسف كثيرا ......
وما ذاب الألم بقلبها إلا بموافقته استمرار الحمل رغما عنه ...حتى مرت الايام ببطء ومنع السفر في هذه الآونة لتصيح ليالي في صباح أحد الايام بصرخة مدوية قد اعلنت عن قرب مجيء الصغيرة ......
جلس آدم في حديقة المدرسة على أحد الاشجار المقطوعة وهو مقتطب الوجه بحيرة ....لماذا لا يريد آباه تغيير الخطأ في الاوراق مثلما برر له عمر ذلك كثيراً ....
أتى فهد راكضا وهو يلهث حتى جلس بجانب آدم بنظرة متحمسة وهتف :-
_ ض*بت يوسف اللي شتمك يا آدم ، **رته.. وخليت كل العيال تضحك عليه
لم يتفوه آدم واستمر في تيهانه حتى كشر فهد بغيظ وصاح به وهو يوكزه في كتفه بخفة:-
_ محدش هيكلمك تاني واللي يضايقك قولي وانا هض*به !
نهض آدم وجذب فهد من يده ثم قال بتيهة :-
_ طب يلا عشان السواق زمانه مستنينا برا ، يلا نروح..
في خلال دقائق كان آدم وفهد في السيارة وأخبرهم السائق أن ليالي بالمشفى للولادة وذلك عقب ذهابهم صباحا ، فأصرّ الفتيان أن لا يذهبوا للمنزل وطاع السائق أمرهم مرغما....
تركوا حقائبهم بالسيارة التي توقفت أمام مبنى المشفى الخاص حتى ترجلوا منها سريعا ليدلفوا بداخلها راكضين من القلق ،وقا**هم عمر وهو يُنهي بعض الأوراق في الاستعلامات .....
ركضوا إليه حتى عانقه فهد بقوة وقال بقلق :-
_ ماما عاملة إيه ؟
ابتسم عمر لابنائه رغم دهشته بوجودهم ، وطمئنهم ولكن أصر فهد على اجابة السؤال ولم يلاحظ أحد الورقة التي سقطت من عمر إلا آدم ،أقترب ليأخذها ولكن بالصدفة كانت الورقة مطوية على الجهة المكتوبة وأظهرت تاريخ زواج عمر وليالي "قسيمة الزواج" وكأن القدر شاء كشف الحقائق ....
انزوى ما بين حاجبي آدم بضيق بعد أن لمح التاريخ المدون بحرفية على الورقة وردد :-
_ هو انت يابابا متجوز بعد انا ما اتولدت !
ص*ر صدى لجملة آدم بصعق كهربائي لاح بعقل عمر حتى التفت إليه بصدمة وهو يبلع ريقه بصعوبة ولم يجد مبرر يتحجج به الآن .....
اعطى للموظف الورق المطلوب وأمر السائق بالمتابعة ثم أخذ الفتيان وخرج من المشفى ....
تجهم وجه الفتيان وهم بالسيارة بالنقيض فآدم لمعت بعيناه دموع غائرة وتائهة ،وفهد نظرات تحدي وتملكية صلة الدم فهذا أخاه ولو العالم اجمعه اجتمع على النقيض فلم يعرف قلبه شقيق غير آدم ....
وقف عمر بالسيارة أمام الفيلا واستعد لتوضيح كل شيء لآدم فما سبيل للانكار الآن بعد أن باتت المبررات سخيفة وغير منطقية ....ولكن قابلته كريمة بالصراخ واعلنت وفاة فريدة بعد صراع دام طويلا مع المرض خلال السنوات الماضية .....ركض الفتيان لغرفة جدتهم باكيين في حين أن قلب عمر كان يتمزق من الحزن لفراق والدته الحبيبة رغم أن الطبيب في آخر زيارةٍ له أشار من بعيد أن استمرار حياتها أكثر من ذلك سيعد عذاب لن تتحمله بسبب المرض الذي عجز الدواء في شفائه ....
_________________________________
عادت ليالي إلى الواقع بتنهيدة حزينة لذكرى هذا اليوم وتمنت أن يريح الله قلبها .......
دلفت مريم ببكاء إلى غرفتها ودفعت جسدها على وثار الفراش بعبرات متألمة ثم أخذت هاتفها واتصلت بشقيقها
فهد :-
كان يستعد للذهاب لأحد مهامه الرسمية في القبض على مجرمٍ شديد الخطورة والذكاء في الأفلات من الشرطة ، أعد سلاحه في جانبه كغ*د السيف ثم ارتدى نظارته السوداء وكاد أن يذهب حتى انتبه لهاتفه وأجاب بحنق:-
_ ايوة يا مريم ؟
هتفت مترجية ببكاء فاض بصوتها كالاعصار :-
_ كلم ماما عشان تعملي عيد ميلاد زي صحا....
لم تكمل حديثها حتى انتبهت لانهاء المكالمة .....دفعت الهاتف والقت رأسها على وسادتها حتى تكتم صرختها اليائسة....
أراد أن يُلقي بالهاتف في صندوق القمامة من شدة غضبه من شقيقته ، ولكن سأل القلب على رفيق الدرب الشقيق ...هاتفه بقلق وأجاب الآخر بعد دقيقة...قال فهد :-
_ آدم ، انا عارف انت فين دلوقتي
عيناه على الطريق ويده على المقود ،مالت أشعة الشمس على زجاج نافذة السيارة مما جعلت جانب وجهه مضاء ، وهذا ما جسد كيانه المشقوق إلى حنان وحنين جااارف لم يسطع إلى سطح القلب وبين وجه معتم مظلم گ ليلةٍ قاحلة الظلام في قسوة شتاءٍ يرجف القلوب....
أجاب على النصف الآخر لقلبه الذي مهما اظلمت الظروف روحه يظل هذا الفهد في طيات القلب ساكن ...
_ فهد ، مش هقدر اتكلم معاك دلوقتي ، خلي الكلام في وقت تاني
تن*د فهد بحدة واحتدت ملامحه بغضب ولكن لأجل شقيقه ليس ضده :-
_ أخويا ،وهتفضل أخويا ،ومش هرضى بأقل من كدا
أجابه آدم سريعا قبل أن يغلق الخط :-
_ ده غصب عنك
أغلق آدم الهاتف تمامًا بعد أن لمح قُربه من المقابر ، استقرت سيارته في أحد الزوايا ، وتقدم بخطوات تقع مابين سرعة الحنين وبطء الألم ....
بقلم رحاب إبراهيم
____________________________________سبحان الله
بين موجات الغضب الساكنة ونيران الحنين لوجهٍ لم يره أبداً إلا في صورها ..تاه في غيابات الحزن والألم ، حاق تمزق الحزن بقلبه التي منذ أن أدرك الحقيقة وقد تبلد مثل الجليد ، انزوت مشاعره في غرفة مظلمة بداخله ولم يعثر عليها إلى الآن ....هدد الضعف صوته وهو يقول :-
_ الله يرحمك يا أمي
لم يستطع قول الكثيرا فهنا يترك القلب تحدي القوة ويحتفل الضعف بالدموع المشتعلة....
منذ أن علم بالأمر ،يأتي إلى هنا في نفس اليوم ، بات هذا اليوم مولد عذابه ويتمه ، وكان صوت الماضي يردد كشف الحقيقة بعقله ،عندما أعترف عمر بالحقيقة في مساء يوم وفاة فريدة بعد أن أصر آدم على الفهم ....
وياليته ما أصرّ ..
______________________________________أذكر الله
في فيلا اللواء كمال ...
بعد أن أشرفت حنين ابنة اللواء كمال على حفل تخرجها ،انتظرت من أعدت كل شيء خصيصًا له ،من يلتف*نّ له الفتيات حينما يمر أمامهنّ وتسبل نظراتهنّ بهيام حتى عشقت فكرت تملكه وتحقق انجاز الموسم لأرتباطها بالفهد .....
أطاح بكل هيبة الرجال الموجودين منذ أن شع طيفه في الحفل وتزاحمت عليه نظرات المعجبات حتى اقتربت حنين راكضة بسعادة وقالت :-
_ كنت متأكدة انك هتيجي
تصنع الود كي يتم مهمته حتى ظهرت لافته راضية على وجهه لم تصل لعينه ثم جذبته حنين لتريه كيف أعدت الفيلا من الداخل للحفل ولكن هي أرادت الانفراد به قليلا وجارها على ذلك .....
وقفت في الردهة ثم نظر للغرف المحيطة وتساءل :-
_ في اوضة من دول بطل على الجنينة اللي ورا الفيلا ؟
عقدت حاجبيها بتعجب وخدعها فكرها المحدود ثم نظرت له بخبث وقالت :-
_ تعالى معايا
قالت لنفسها (اكيد عايز يديني هديتي في جو رومانسي من غير ما حد يشوفنا )
دلفوا إلى الغرفة حتى اغلقها فهد بقوة ثم أخرج من جيبه هدية رائعة ، ابتسمت حنين بسعادة وقد تأكد شكها ثم ما لبثت أن نظرت بصدمة وهي تراها يقترب من الشرفة ويخرج إلى جنينة الفيلا كأنه هارب ....التفت سريعا وقال :-
_ ساعة واحدة وجايلك ،اوعي تطلعي من هنا ، ولو عرفت انك طلعتي مش عايز أعرفك تاني ...
فغرت فمها من الصدمة وتركها هو وذهب لمهمته الذي على علم أن هذا المجرم يقتنص الفرص حتى يحوم اماكن محددة ......
______________________لا حول ولا قوة إلا بالله
خرج آدم من هذا الهدوء الخالد متوجها إلى الفيلا ..
لم تفارق عيناه الحزن بمرور وقت الطريق الذي سلكه إلى المنزل الذي أخذ منه جناح خاص به، بعيداً تماماً عن دفء الغرف المجاورة ،واستمد منه البُعد ......
أوقف سيارته في كراچ الفيلا ثم دلف للداخل بوجه رجلٍ عِضاض قد قاوم الألم سنوات ....
نهضت ليالي التي لجأت إلى النظر في المجلة وهي لا تراها ولكن كي تسرق القراءة بعض قلقها حتى نظرت له بلهفة وكانت يداها ابطأ من قلبها الذي ركض ليضمه ...
قبّل آدم يدها بنظرة محبة دون أن يتفوه بأي حرف فيكفي ما يعانيه ، قالت بعبرة تركت مقلتيها وآبت المكوث:-
_ انت كدا بتعذبني يابني ، مش برتاح وانا شيفاك كدا ، محدش حارب عشانك أدي ...انا امك
وافقها. بهزة من رأسه ثم قبل رأسها أيضا بقوة وقال وكأن الحروف تتلوى بألم بين شفتيه :-
_ أمي وكل حاجة ليا
وقع رأسها على ص*ره ببكاء ، صادقه ابتسامة حنونة وقالت وقد تظاهرت بالمرح :-
_ راسي بتيجي اقل من كتفك ،انت طويل أوووي كدا ليه !
فهم مشا**تها هذه وربت على كتفها دون أي تعابير مرحة على وجهه ثم ذهب لغرفته العلوية البعيدة .....
وضعت ليالي يدها على قلبها بدعوات مترجية إلى الله كي يرطب قلب ابنها المتألم
____________________________صلّ على النبي
ذرعت غرفتها ذهاباً واياباً بعصبية ثم جلست على مكتبها الخشبي ذات اللون الفضي ببقع وردية وسبح بها الفكر في شن حملة هجومية كي تأتي بمرادها في الآخير ....
دلف آدم إلى غرفته الواسعة المدهونة بلون الفيروز القاتم واثاث راقٍ مثل ذوقه في كل شيء حتى في ملابسه الانيقة دائمًا ....وقع نظره على حقيبته السوداء التي يحتفظ بأوراقه بداخلها عندما يذهب إلى عمله گ معيد في الجامعة ...فتح الحقيبة ليخرج بعض الأوراق التي تذكر أنها تحتاج لمراجعته شخصيا بشكل ضروري حتى لمح بأحد كتبه ورقة ملونة ....
وافقه التعجب وتطلع إليها بدهشة ثم فرد طياتها ليرتفع حاجبيه عجبا من مراهقة من كتبت هذه الكلمات الساذجة كمعجبة ضمن معجباته الكثر من فتيات الجامعة التي لا تيأس واحدة منهنّ في جذب انتباهه ....دفع الورقه جانبا ثم أخذ أوراقه على مكتبه للمراجعة .....
لم يلاحظ أن الورقة قد وقعت على فراشه ....
______________________ استغفرك ربي وأتوب إليك