ماضي لابد من ذكره
جابر,فريد, فهد الفجر رباح
أنا الأ**ق .. أنا من أحبها.. وهي من أحبتني دونًا عن كل و*د إدعت حبه و دعتكم لتصديق . قدري الأ**د المنتظر منذ عقود و للعجب لم أبالي فقد عشت طيلة حياتي أبحث عن من تجرعني مرار يتسرسب بحلقي كالشهد المصبب لأني و بعد كل تلك السنوات الماضية لم أتجرع إلا المرار إذاً لا بأس بالمزيد . بمحض إرادتي الواسعة إخترت الطريق الأزرق المضني لرجل بقامتي, و إن كنت أقصر منها في القامة, و بحسابات النساء و بعض الرجال وجب علي الإنسحاب, أو على الأقل قتلها قبل أن تقتلني عشقًا فالنساء أحلامهن تنحصر على طوال القامة ذوي الجسد الجهم و الوسامة النسائية و لا أملك أيهم
. عقاب الله الرادع و تقبلته و إنتظرت القصاص العادل, أنا مقصد شيطانها الأول و الأخير, ولا خلاص لها إلا بتنفيذ العدالة الآلهية. أنا رجل المملكة, وليد الرياض, و لم أعلم يومًا لما سميت الأتربة العاصفة و الحر المكفر و الشتاء المكفهر برياض . أسمر البشرة **ائر معشرنا, قامتي لا تتعدي مائة و ستون سنتيمتر, إختصاراً للوقت المهدور أعرفكم على شبيهي الأسيوي من نفس قارتي, فأنا و ليس لي أي فخر أشبه جاكي شان و لكن عابس الوجه دائمًا, و إن كنت لست عابوساً, إلا أنني لا أجد سبب للإبتسام إلا لنكاتها. نعم هي الشقراء الفارعة القوام سليلة الأنساب العريقة إبنة عدوي اللدود و إن كنت لا أعلم لمَ يراني عدواً بعدما كنا أصدقاء و زملاء معارك عدة, ظهر كلاً منا حمى الأخر أو بمعنى أصح طيارة كلاً منا حمت طائرة الأخر, و إلى أن جن و قذف مروحتي الخلفية بمعركة ضارية خضناها سويًا ضد عدوٍ واحد.
سقطت طائرتي و مات طاقمي فور الإرتطام أما عن من كان بجعبتي من جنود أسقطتهم نيران العدو فور خروجهم من الطائرة التي كانت بطريقها للإنفجار بعدما ثقب حزان الوقود برصاصة طائشة و ينتظر شرر رصاصة أخرى للقضاء على كل مخلوق على مسافة مائة متر إنما و للمفارقة المضحكة أنقذني زميل له, مصري الجنسية, ضابط صاعقة قدير يدعى وحيد .
من جلال أم الرياض تريدون الحكاية لتكن من بداية البداية لنتّجه من نيويورك للرياض بعد فراق دام لخمسة وعشرون عام.
أبي حلاق يملك محال بنهاية الشارع الذي سكناه .. حينا كان متواضع للغاية أم فقير أصلح, مليئًا بالبيوت المتجاورة الغير متوازية فالدولة أغفلت عن تخطيط حينا المترامي على أطراف البلدة, زحام يعم تلكم البيوت ذات الألوان الباهتة المصفرة, زحام إلزامي لمعشرنا غير مفسر الأسباب, فجميعنا فقراء طعامنا العدس عشائاً و غداء, و إن منت الأقدار بالرخاء؛ تتقاسم عائلة من إثنى عشر شخص دجاجة يكون للأب ربعها أو أكثر. لي أسرة كبيرة من ستة أخوة و ثلاثة أخوات أحمل رقم تسعة لذلك كنت مدلل أبي, يستقيظ صباحاً يصفقني على قفاي و يجرني جرًا لمحاله, أكنس المحال, أمسح الكراس, أرش المياة أمام المحال و انتظر توافد الزبائن مع أبي.
أبي كان نيق للغاية و لقبه الأخيل المغرور بين أبناء الحي, لأنه لا يقبل عملاً خارج محاله, لا يقبل عملاً خارجياً إلا لأصحاب النفوذ الاثرياء.
يوم الجمعة كان مخصص لأصحاب النفوذ الأثرياء, و على رأسهم أول من يمر عليه أبي بالسابعة صباحاً من كل جمعة بكل أسبوع. ندخل كلانا البيت الكبير على إستحياء, و نظل بحديقة القصر لساعة أو ساعات إلى أن يستيقظ صاحب الدار و ينعم علينا بظلاً بعد قيظ أو بمأوى بعدما إنهمر علينا سيلًا من إمطار الشتاء . باب خلفي يفضي إلى المطبخ الذي نتناول به القهوة و الكعك المنزلي الصنع الأشهي على الإطلاق ثم مزيدًا من الإنتظار.
بمرة مجرد مرة لأنني لم أكن أخاطب أبي كثيرًا, سألته لماذا لا نذهب لزبائن متيقظين لحلاقة الجمعة عوضًا عن النعس الذي يستبقيه لساعات من الهدر؛ فأجابني أبي بكفه التي صفقت ظهري حتى ق**ته, و ترجَّع من جوفي الكعك الشهي و سألني هو ال**ت . لكم أن تتخيلوا كم كانت علاقتي بأبي طيبة, إنما لا ضغينة فعلاقة أبي بباقي أخوتي و أخواتي كانت متشابة للغاية, و كما يقولون المساواة بالظلم عدل, فحياتنا تلخصت بأوامر من رب البيت لساكنيه تليها الطاعة المطلقة و التلبية اللا نهائية.
أسرتنا الكبيرة لم تعترف إلا بتعليم الكتاتيب و ذلك حتى السابعة, منه للعمل و لكني صنفت أكثر أبناء أبي ذكائاً فقد حفظت كتاب الله بالعاشرة من عمري مما جعل شيخي يزور أبي بمنزلنا ليلح عليه بإستكمال تعليمي بالمدارس الحكومية و حينها إستجاب أبي بترحاب, و طرد شيخ الجامع و ألحقني بالعمل بمحاله. اخواني الكبار منهم السائق و منهم البائع و البناء أما أنا ورثتُ مهنة أبيه رغمًا عني. كم كنتُ بارع كما أثنى علي كل من أتى أسفل موسي و مقصي, بالرابعة عشرة من عمري و كنتُ أتلقى بقشيشًا يعادل ما يخرجه أبي من مكاسب عبر مروره على بيوت الكرام. و لأنني أ**ق صغير بات لدي حلمٌ ضئيل أن أرى إبتسامة على ثغر أمي الحزينة على الدوام فناولتها ما أخرجته سرًا عن أبي وإنتظرتُ الشكر و العرفان, تناولت أمي مني النقود بهدوء و إبتسمت كما تمنيت ثم بكت بلا أسباب . الأسباب جائت سريعة باليوم التالي, فتحتُ المحال بموعده المثبت الثامنة صباحاً, فقد أمسيتُ المخول بفتح المحال مبكرًا و اغلاقه بعد منتصف الليل بعدما كبرتُ وإشتد عودي و بات في مقدرتي سحب صفحة الصاج الثقيل المتعرج التي تحجب واجهة المحال الزجاجية عن اللصوص. إنتظرتُ حلول أبي بعد أن يفرغ من إفطاره و شايه و قهوته و أرجيلته, كذلك عراك كل صباح مع باقي الإخوة إن تحامق أحدهم و أخفى عن أبي راتبه أو بقشيشه أو حتى عطية أو صدقة من كريم نظر نظرة عطف لمترتدين ملابس الصيف بالشتاء كما تحامقتُ و صدقتُ أن النساء قد تصون سرَ و إن كانت تلك النساء أمي.
أول الزبائن يكونوا من طلاب الجامعة دومًا, و هم أكثر من يخدقوا علي بعدما برعتُ بخط و تزجيج اللحى كما تذكي الموضات الحديثة إنما لا يذكيها أبي و يجد مكاني جهنم و بئس المصير بعدما جعلتُ من لحى الرجال دربًا من دروب المزان و ليس الوقار إنما لم يجرؤ عن رد زبون يومًا. إنتهيتُ من الزبون و قام عن الكرسي بينما أنفض عن ثوب الزبون ما علق من شعيرات بالمنشة القش إلا أن الزبون نهاني فقد خشى على ثوبه الأبيض من منشة قش أبي المسودة من قتل الذباب. ما إن خرج الزبون حتى ترك أبي كرسيه الخارجي و إندفع داخل المحال بيده عصى حديدية ذو طرف ملتوي, رفيعة بسمك إصبع تقريبًا وظيفتها سحب صفحة الصاج الثقيل التي يغلق بها المحال, بهذه اللحظة إبتكر أبي للعصى وظيفة جديدة مجدية للغاية فقد إنهالت علي تلك العصى مراراً و تكرار, تحاشيته و جريت منه بكل ناحية فعالج أبي هذا الأمر و ض*بني على ساقي اليسرى فإلتوت ولم يعد في مقدرتي الهرب أو التحاشي, نزلت علي العصى مرة و مرات حتى تنبه أهالي الحي لضجيج داخل المحال الهادئ و أنقذوني من غضب أبي .
نقلتُ واعياً لمشفى أولي وحيد بالحي لا يوجد به أي نوع من المسكنات القوية بخلاف مسكنات داء الشقيقة و الأسنان وتلك متوفرة إن دفعتُ المقابل و ليس بحوزتي نقود, و أبي لم يترك محاله لمرافقة ولده المخضب بالجراح و قد يكون الان جالس من أمامه بإنتظار الزبائن, أما ولده الأصغر أخيطت جراحه واعيًا, أعيد له رد عظمة الظنبوب التي برزت عن ساقه واعيًا, سمع ثناء الممرضين و الأطباء على شدة بأسه و تحمله الألم واعياً, سمع الحسبلة والحوقلة إثر أفعال أباً بولده واعيًا, طُلب منه أن لا يتكتم غضبه داخله و أن يصرح به صياحًا و بكاء وليس بذلك أي عيب إنما رفضتُ واعياً.
واعياً سحبتُ يدي من أسفل يدها ذو القفاز القطني لما أبدت أسفًا لما حدث منذ سنوات فهي إمرأة أجنبية و لو كانت بعمر أكبر بناتي و قلتُ مهونا عليها شفقتها على ماضيَّ القديم :
- لا عليكِ فهذا الحادث ما وضعنا على أول الطريق.
- طريق إيه ؟
- طريقي .. إمتنعِ عن العربية أرجوكِ هنا, و انت معي على أقل تقدير.
أومأت بالموافقة فعدتُ للسرد المأساوي إنما هي لا تتملل أبدًا, بل و تطلب المزيد. واعيًا خرجتُ من المشفى بعد ثلاثة أيام و عدتُ للمحال بعدما أمر أبي أن يكون محل إقامتي من اليوم فصاعد. لا أعلم لمَ لم يقدم أي نزيل من نزلاء بيت أبي على زيارتي ولا حتى أمي الواشية إنما هناك نزيل أو رحال وحيد, و الفريد بالعائلة المتميز بقامته العالية وجسده الجهم, أنه مالك قوته و أيامه و قلب أمه, مالك أخي الرابع فقد أنجب أبي ثلاثة فتيان أولاً ثم ثلاثة فتيات ثم نحن أما التاسع كان توأمي الذي لم يعش إلا لأيام إلا أنني سمعتُ نسوة الحي يقولون أن أخي التوأم ولد معيب برأس كبير و أطراف صغيرة و عيون مطموسة فألقى به أبي بالخليج.
- ما تصدق حكي النسوان.
قالها مالك أخي مكذباً فأجبته :
- وإيش تبغيني أصدق ؟
ناولني سيجارة من علبة سجائره و قال :
- صدق خوك انت صاير كبير الحين .. تومك مات بيك دفنه في حديقة الجامع .
- كنك رميته معه إيشلون بتداري عليه بعد ما فقع عينك ؟!
إبتسم مالك بتحسر بينما يلامس عينه اليسرى التي أغلقت لقدرًا غير مسمى و طلب مني المغفرة لزلة من زلات الفقر, أبينا فقير, الهم يعتصر قلبه و القسوة و التنمر ما تبقى له ليجمع ما تبقى من كرامة بعثرها الفقر. و لكننا لم نكن فقراء فكما أشيع كنا من أعيان الحي فعلى أقل تقدير نسائنا لا تعمل في خدمة البيوت أو لهن بسطة في السوق الكبير, أمي لم تكن مثل نسوة الحي أيضا فقد كانت أجمهلن كما أشاع عنها, رضراضة القوام و ليست نحيفة هزيلة مثل جاراتها الضعيفات اللاتي يت**بن قوت يومهن بالتنقل بين الأسواق وتنظيف بيوت الأثرياء, عيونها رمادية, قصيرة بعض الشيء, ذو سطوة على الجارات يستمعن جميعًا لنصحها و يلبين طلباتها الخارجية في الكثير من الأحيان, إحداهن تجلب لها حاجيات الطعام من السوق و أخرى تنتقي لها الأقشمة, و أخيرة تفصله لأجلها . تلك السطوة تنزوي فور دخول أبي للمنزل معفرًا بالغضب عند كل عودة على حدٍ سواء و حينها تلملم أمي ما تبقى من أخوة, وتسكنهم ال**ت البعيد, و لكن عن الأب فقد كانت تخشى عقاله الذي يلهب أجساد أبنائها و جسدها على حدٍ سواء.
مالك أخي أخبرني أن حياة التقشف لداع ملح لأن أبي ذو طموح مكنه من ترك حياة البدو للحضر, و كذلك يطمح أن يسكن القصور و التزوج من فتاة بكر جديدة, و تركنا في حارة الفقر أبد الدهر. أبي يعمل على حلمه بقوة يطعمنا العدس, يقبض عنا رواتبنا, يحرمنا من التعليم , لا يبتاع ملابس جديدة لمن تهالكت ملابسه و كلاً من أجل الحلم. مالك فقط من تثنى له النجاح لما هرب من المنزل فور طريحة ساخنة من أبينا ولسبب واه, فقط رءاه أبي برفقة فتاة خارج السوبر ماركت الكبير الذي يعمل به لثمانية عشر ساعة, هذا السبب المعلن أما المستتر الفتاة كانت إبنة لبقال صغير ينتهز فترة العروض الترويجية قبل الأخريين ليغذي محاله بالبضائع الرخيصة و الم**ب مناصفة بينه وبين مالك و مالك فعل كما يفعل كل ذي عقل, لما أخفى الربح عن أبي. المثير للسخرية أن مالك من باح بهذا الإعتراف لأبي خوفاً من أن تلعب برأس أبينا الظنون فهدأ الاب وطلب إثباتًا دامغ؛ أين النقود و أتاه الأ**ق بالنقود و حينها ثار أبينا علينا, صاح بنا؛ خلف السوء و الزنا من يأكلوا لحمه و حياته و أيامه المتبقية وكل الأشياء البديعة التي يقولها كل أب لإذلال أبنائه و كأنهم لم يكونوا لحظة
***ة لم ينتشوا لها يوماً خاصة لو ولدوا لأب مثل ذاك.
ض*ب مالك بالطبع بعدما إنتزعت منه نقوده بالقوة الجبرية فالمسكين كان ممسك بها و كأنها طريقه لبرزخ الجنان و من بين محاولات مالك بالهرب و محاولات الأب بالتصدي سقط مالك على أرجيلة أبينا و فقعت عينه.
إقشعر جسد الشقراء و إنتصب على رسخيها شعيراتها الشقراء الصغيرة, فهي طبيعية غير مصطنعة على الإطلاق و ترى ذلك واجب على كل إمرأة و إن كن ليسوا بجمالها الأخاذ. أغمضت عيونها الزرقاء في ألم حقيقي للحظات عدة بينما تبحث عن شهيقًا بعيد عن غلافي الجوي المأساوي ولما عادت قالت :
- مش قادرة أصدق إن في أب بالمواصفات دي, انت بتبالغ يا إياد.
وماذا تعلم شقراء جميلة كان أبيها يقطع القارات لطلب الرزق من بين المعارك الطاحنة الدائرة بالعالم إن ذاك, يبحث عن دواء بالخارج ليداوي فتاته الوحيدة التي ولدت ضعيفة هشة بنصف رئة, و حياتها للأن معجزة, ولا أمل بحياة طبيعية بالقريب كما أخبره الأطباء, و رغم ذلك لم ييأس يومًا حتى أصبحت الضعيفة الهشة جيشًا يدق الأرض دقًا يحمي وطنه العائلي و الإستيراتيجي على حدٍ سواء, و أحيانًا يستجير بها كل مظلوم والمثير تلبي النداء. هل تعلم الشقراء أن الحلوى التي لا تفارق حقيبتها كانت أقصى أحلامي وحتى بلغتُ العشرون, و صرت في مقدوري شرائها, و للمفارقة لم أقدم على شرائها يومًا, و رقبتها داخل المحال كما إعتدت.
بأي حال إعتدتُ على العديد من الأشياء مما تركتها من خلفي, و منها مراقبة الحلوى بأيدى الأطفال, إنصراف أفراد عائلتي كلاً لشأنه, الوفر الكثير من الوفر لنقود ضاق بها مخبئي الآثير داخل محال أبي فلم أجد شيء قد أبتاعه ولا أدان.
سألتني هنا عن رجل لا أعرفه و لم ألتقيه بعد قائلة :
- مالك كان شبه أخوك عشان كده بتحبه ؟
المدهش كلما مرة ألقاها بأحلامي تسألني ذات السؤال عن ذات الرجل أنما الأكثر اندهاشا أجاوبها بغير علم :
- ا****ة يا إمرأة كيف تكونِ بهذا الذكاء وتنسين دائمًا نصحي .. تحدثِ بالإنجليزية أرجوكِ هنا.
- حسنناً .. هيا إخبرني هل مالك كان....
قاطعتها :
- نعم .. يذكرني مالك بأخي رغم أنه لم يكن يشبهه بالطبع فمالك قامته طويلة للغاية مثل لاعبي كرة السلة و لكن مالك .. لا أعلم كيف أصنف هذا .. مالك قوي و تلك القوة ذكرتني بما كان علي فعله لو تركت الحقد و الكراهية جانبًا مثلما فعل .
- ولكنه لم يترك الحقد و الكراهية و حاول قتل اليهود الشواذ.
- ذلة قد يقع بها أي إنسان و لكن كنت أعرف معدنه الحقيقي لذلك ساعدته ومن حينها لم أعهد به حقد على مخلوق.
- يبدوا إنك أ**ق عجوز .
طافت روحي قبل عيوني ببشرتها الناعمة الناصعة البياض, وجنتيها الشاهقتين, شطئان الخلود الزرقاء, فمها الزنبقي المتورد و قلت و الهيام يملأ كياني السابح في كيانها :
- وأنتِ صغيرة .. صغيرة للغاية.
- أكمل .
أكملت لها لازلتُ أرى أبي بأحلامي, أشتم رائحته المعبقة بالدخان, على كتفه غترة بيضاء, عاقد ما بين حاجبيه, عازم على قتلي جزاء ما إقترفتُ فقد إكتشف المخبأ . آتتني الض*بة مرتين و من نفس الشخص, مرضت أمي مرضاً عسي,ر و الخلطات و الأعشاب لم توقف توغل المرض بجسدها, فباتت طريحة الفراش تستجدي الموت . لم أتحامل على نفسي كنتُ صغير وكل صغير أمه عالمه الصغير, و لذلك ذهبتُ للمشفى و وصفتُ الأعراض التي تنتاب أمي للطبيب, فلم يكن من الشائع حينها زيارة النساء للأطباء خاصة الرجال كذلك أبي – لا أعرف كيف سأقولها ولكن لابد أن أقول – كان يغار على أمي بشدة ولا يخرجها من المنزل أبداً, بأي حال إبتعتُ وصفة دواء أوصى بها الطبيب و أودعتُ الوصفة لأمي وعدتُ لنومتي بالمحال البارد على فراش أرضي هل تريد الشقراء المدللة معرفة كنة فراش إياد مرتدي الكلفن كلاين كما أوصت الشقراء.
- لا أشكرك سوف أتنازل عن تلك المعلومة .. لم أعد أتحمل.
سجادة صلاة مهترية و غطائي السماء, و لكن كما كان يقول أبيها مبتهلاً عندما توافينا ليلة سقيعية و هم من داخل خيام لا تحمي من بردًا أو مطر ؛ يبعث الله البرد بالتساوي مع الغطاء كذلك أرسلت السماء أبي بليلة ممطرة يفتح المحال على النائم فجرًا انما لم يض*بني هذه المرة, فقط طلب مني جمع حاجياتي إن وجدت لأنه أوجد لي عملاً أخر لن أستطيع من خلاله سرقته.
ومن هنا نقطة التحول و السرد هذه المرة ذاتي؛ لم تتحمل أذن الشقراء المرهفة سماع باقي قصتي, أرسلتُ للعمل بنفس القصر الذي كنت أقبع بحديقته لساعات حتى يستيقظ رب البيت لحلاقة الجمعة. عملتُ كل شيء و أي شيء بستاني, عامل نظافة, مساعد طاهي ثم إستخرج لي صاحب القصر رخصة قيادة و أصبحتُ سائق الأولاد الصغار حتى أتت من الخارج و تبدل العالم للأبهج .
إبنة صاحب القصر البكر من زوجته الأولى الأمريكية, جميلة بالطبع كما يزين لنا الشيطان ذلاتنا, عيون خضراء لأمها بشرة خمرية لأبيها, قدًا مشدود, علمًا واسع يصعب على امرأة إكتسابه وليس فتاة بالسابعة عشر. تستطيع القيادة, الرقص التسوق, القراءة بالعربية و الإنجليزية علاوة على بعض الفرنسية التي تجلد بها أباها و زوجته إن إنتقدا أي فعل من أفعالها الطائشة, وما أكثرهم فقد تفاجأت حقاً بالبلد التي إنتقلت إليها على حين غرة بعد وفاة أمها بحادث سير, بلد ترفع شعار لا للنساء. حينها لم تكن هناك جامعة للنساء بعد أو مراكز تجارية عديدة كما الان, و النزهة الوحيدة كانت المحيط و الشواء من أمامه. أما الملابس فكانت معضلة بحق, لم تقنع يومًا بحاجة المرأة لما يغطي رأسها و وجها أو تلحفها بالسواد بمناسبة و غيرها. أكثر ما أثار حفيظتها و للحق كل شيء كان يثير حفيظتها كان الفصل بين النساء و الرجال فهي تجد كلاهما حمقى و إن جلسا كلاهما بمجلس وعرايا لما أدرك الأول ماهية الثاني. كنتُ أسمع لكنتها العربية المصرية و أضحك فكانت تسعد لضحكاتي لأن أخر نقل ما تقوله لأبيها و حينها عوقبت بالحبس الإنفرادي بغرفتها لمجرد أن أخر سمع صوتها و تهكماتها على بلدها الأم .
كما عاقبوها عاقبتهم جميعًا بفعل كل نقيض, رفضت الإقتران من كل رجل تقدم لزواج منها, أصرت على إستكمال دراستها و لكن بجامعة بغداد فأبيها رفض عودتها لأمريكا تحت أي ظرف. لنعد للعقاب ما أجمله, نمى لمسامع أبيها علاقتها برجل تقا**ه بالمطاعم العامة و الفنادق و قبل البحث و التدقيق أمر أبيها بإيداعها بغرفتها من جديد و الحرمان من الدراسة و السفر للتسوق وغيره, حتى النزهات الخلوية مع باقي الأسرة . كنتُ من يوصلها للرجل الأخر و لم يكن هناك أخر, فقد كانت تقابل باقي زميلاتها من جامعة بغداد لما يقمن بزيارة المملكة, و من إختلقت تلك الشائعة زوجة أبيها للكيد النسائي المشهر.
شعرتُ بالأسى حيالها خاصة لما جاء الصيف و سافرت العائلة للقاهرة لتبديل الأجواء القاسية ببلادنا و تركوها بغرفتها, تبدل الأسى لما أرسلتني لمكتبات بحيي الفقير تبيع الكتب و المجلات المسمومة بالشرور الأمريكي, بها الرجال و النساء كما ولدتهم أمهاتهم أحرار وليس عرايا كما أقول بعيوني المغلقة؛ هى قالت و أنا إستمعتُ كما إعتدتُ ولم أحدث بأحاديثها أخر. أحاديث وأحاديث تلقيها على مسامعي بغرفتي الخشبية بالحديقة, الحياة, الحرية, أمريكا و لما فرغ الحديث فرغت الأحاسيس المختزلة داخلنا لأنني كما قالت أيضا أكثر من يفهمها بهذا الحجيم و إن لم أفهمها يومًا.
رغم إنها أنثاي الأولى لم أكن رجلها الأول و لم أجرأ ابدأ سؤالها عن الأول, و إكتفيتُ بلحظاتنا المسروقة حتى جاء المحتوم. أحدهم تقدم للتزوج منها سوف يجعل منها زوجة ثانية. من أسرة نبيلة متوغلة حتى القصور الحاكمة رجل جيش يعمل طيار حربي ثري للغاية حتى أنه أكثر ثرائاً من أبيها و يملك قصراً بسياتل, لم تراه, فقط سمعت أخر الأنباء مني إلا أنها ألقت بكل الأنباء جانبًا و لم تسمع إلا سياتل إذاً العودة الميمونة لأمريكا والخروج من سجن وطن فرض عليها فرضًا . السعادة بعيونها تتراقص تنتظر حلول الخطيب على أحر من الجمر إنما ذلك لم يمنعها من زيارتي, تعتلي سائقها و تصرخ بإحتقان إلى أن همدت فزنزلت عني تبحث عن سجائري المريكية و تشعل واحدة و تقول متسائلة عن ضيقي البادي على قسماتي :
- ليش مبوز ؟
- حزين عليكي.
- ليش ؟
- إيش راحه تقولي للعريس يا عروس ليلة العرس.
- بدوي ما تفهم شيء .. انت غيران .. ما تخاف باخدك معي.
- صاير كاميريرة الست ؟!
- لا أبو الولد .. فهد رايح جوزني مشان مراته ما بتجيب ولاد.
كان زوجها أ**ق أخر لا يتابع صرعات الطب الحديث الذي أثبت أن المرأة ليست إلا معون و الرجل طاهي يطبخ البنبن أو البنات. صدقت الأيام على كلماتها و أمرني أبيها أن أكون سائقها الخاص بقصر الزوج و إلى هنا توقفت العلاقة. زوجها كان طيب القلب أحسن إلي كثيرًا, إقتص جزئًا من راتبي لي فقد كان أبي من يتحصل على راتبي بالكامل, إصحبني معه بكل مجلس لأنه كان ولد وحيد لأسرته و ليس له أخوة ولكن له العديد من الأصدقاء لمحوا بسائقه الذكاء و النبوغ وشدة البأس رغم صغر سني.
بيومًا من الأيام إصطحبني معه لعمله, لأول مطار حربي أو مدني أراه بحياتي, العديد من الرجال ذو اللحى يقفون في إمتثال و يؤدون التحية العسكرية للطيار ومن خلفه خادمه الصغير المبتسم ببلاهة لأولى المظاهر الفخمة التي يراها ببلاده, فلم أكن أعلم أن ببلادي جيش نظامي و بهذا التعداد والعتاد. أفواج من الرجال بصفوف منظمة بأردية مماثلة يجولوا بالساحة الشاسعة, عربات مموهة بالأصفر و البني, دبابات , مدرعات و كل ما رءايته بالأفلام الحربية الأمريكية التي يعشقها سيد الدار و أتابعها معه, و عندما يكون رائق المزاج يترجم لي أحاديث الابطال و يشركني الرأي .
وقفتُ مشدوهًا أطالع الطائرات التي وردت منذ أيام من أمريكا, و قد طلب الطيار لمعاينتها بنفسه و التحليق بها لإختبارها بينما الطيار دلف من باب المطار لباب مكتبه وطلب من خادمه الإنتظار بالخارج فلبيتُ. لم أستطع الإنتظار كثيرًا فقد سحبتني قدماي للحلم و إن لم أحلم به من قبل, و وافاني الحلم فور رؤيتها, جاذبيتها آسرته, توهجها أسفل قيظ الظهيرة أيقظ أعمق حواسي, قوامها الهجم دفعني دفعاً لملامسة مفاتنها البارزة فوجدتُ نفسي التائقة متحيرة بين فيضًا من المفاتن البضة.
حدجتني هنا الشابة بلوم و هي تقول بخبث :
- يا خرابي و عاملي فيها محترم و مش بتاع ستات مين دي بقه ؟!
- أجمل أثنى بين كل مؤنث .
- بيضا ولا سمرة ؟
- رمادية .
- رمادية .. إزاي .. انت مجنون يا فهد ولا إياد جننتني ؟
إبتسمتُ و قلتُ :
- انا لا فهد و لا إياد .. انا جابر .. انتي يا هنا قوليلي يا جابر.
نظرت لي بأسى و قالت :
- انا بحب إسم جابر أكتر .. معناه رقيق في حنيه .. جابر الخواطر .. قولي يا جابر مين الحلوة اللي شفتها .
- طائرة .
- قد كده بتحب الطيارات ؟!
- طيارة يا هنا يعني سما .. يعني مكان جديد تبتدي فيه من جديد وانا كنت محتاج الحاجه دي جداً.
ضحكت بشدة ثم قالت :
- بيتكلم عربي زيي و بطلت جبن؟!
عدتُ للإنجليزية و قلتُ :
- انا لست جبان هنا .. انا فقط أخاف عليكِ .. انا إنسان خطر معرض للإغتيال بأي وقت وقد يطالك أذى لوجودك معي خاصة لو كنتِ عربية.
- حسنناً لن أتحدث العربية أبداً .. عد للطائرة الأولى بحياتك .
في الواقع لم تكن طائرة واحدة بل عشرون, مشيت من بينهن أتحسس بيدي أجسادهن المعدنية, مطاط العجلات القوي, إتشممتُ وقودها الداكن, وتمنيتُ من الله الذي حرم علي كل شيء أن يمن علي بالصعود على واحدة.
- انت يا جصير .
إلتفت لصوت يناديني و قلتُ متحفزًا :
- مين انت إيش بتغى ؟
نظر لي الرجل ذو البدلة النظامية العسكرية بتعجب لقلة تهذيبي وقال :
- الشيخ فهد بناد*ك .
تركُ الجميلات وتقدمت نحو الطويل البدين ذو البدلة النظامية التي لم تخيف القصير كما نعتني بل وحدجته بإذراء بينما أقول :
- رايحله الحين .
تضحك الشقراء و تقول معقبة :
- إذاً انت شجاع ؟!
- بالطبع لا .. كنت أستمد شجاعتي من وجودي مع الشيخ فهد رحمه الله .
ذهبتُ للطيار بمكتبه وجدته يقف على رأس مائدة كبيرة للإجتماعات, يده اليمنى تشير على خريطة كبيرة, من حوله العديد من الطيارين مثله لم أكن لأميزهم إلا للبدلات المتطابقة اللاتي يرتدوها جميعًا . نفث دخان سيجاره ونظر لي وقال :
- وين كنت ؟
- بالخارج مثل ما طلبت سيدي .
- كان بيطلع على الطيارات ببغى يكون طيار الجصير.
قالها أحد الطيارين فضحكوا جميعًا و حينها لم أستطع تصدير إذرائي بوجود سيدي الذي طلب مني القهوة العربية. كان من المستحيلات بالطبع قبولي بأي جيش بالعالم بعدما **رت ساقي ب**ر مضاعف فحتى الخدمة الإلزامية الذي زحفتُ إليها رفضتني بعض الكشف الطبي فعدت لخدمة سيدي.
سألتني هنا الشابة :
- و كيف أصبحت طيار؟
- ماردك قدم لي بعض الخدمات وقبلتها.
- وماذا قدمت له بالمقابل ؟
- روحي .. بعت روحي للشيطان لأكون طيار.
- سوف تتوقف الآن أليس كذلك ؟
- ليس خوف أو تكتم و لكن أخشى جرح برائتك .
- اووووه عزيزي فهد انت الوحيد الذي يرى تلك البرائة المزعومة .. أنا أحبك .
قلت بكل صدق و من كل قلبي :
- انا أيضا أحبك.
نظرت لي بخبث نسائي و قالت :
- لأني جميلة ؟
نظرتُ للجمال ملياً ثم قلتُ :
- انت جميلة بالطبع, و لكن بك شيئاً أخر يجذبني ولا أعلم ما هو.
إبتسمت برقة وتركت ميوعة ليست من طباعها و قالت :
- أسقط ما تريد إسقاطه من روايتك وأكمل لي .
- تأخر الوقت .. عليكي العودة للمنزل.
وينتهي الحلم ككل مرة, لا أستبقيها بأي مرة إلتقينا بها بل أطلب منها الرحيل عني, على يقين بأنها ليس إحدى زوجاتي ولكني لا أعقد صداقات مع النساء كعهد إتخذته على نفسي منذ ذهبت عني اللعن وتبت إلى البارئ . أكيد بكونها رؤية و ليس هاجس من هواجس الشيطان, أعرف من هنا و لكن من مالك ذاك الذي أحبه و أقدره و منزلته عندي منزلة إبناً و أخ. ترى جلال يعرف, ولو يعرف ليس في وسعي سؤاله فقد أنظرني قتلي لو رءاني مرة أخرى ولا أريد الموت الآن فلدي الكثير من المهام أولهم العودة لما كنت عليه جابر الحلاق إذاً العودة للماضي العفن الذي أخفيته عن الشقراء الجميلة . ومن الرياض للكونجو - زائير – كما تفضل الشقراء نعتها. طائرة حقيقية أراها للمرة الأولى عرفت أنها تلقب بالجامبو فهي بحجم جامعة الرياض, بيضاء ناصعة شعارها مصر للطيران مع تلك الأيقونة السخيفة التي لم أعرف حينها عما تعبر نسر أو صقر مسرح الشعر بحدة إنما سيدي أخبرني أنها نسر لأن العلم المصري يحمل بمنتصفه نسراً كذلك و حينها ينظرون زملاء سيدي تجاهه متعجبين من تجاوب الطيار المتميز مع خادمه بهذه الحميمية, يتسائلون فيما بينهم لماذا لا أخرس و أهتم لحال سيدي **ائر الخدم و كانت الإجابة بأنني أكثر من خادم و غمز لي الزوج بمرح .
الدرجة الثانية بالطائرة ؛ لم أراها إلا الأولى بكل شيء بكرسي يحتويني, نافذة مطلة على المطار و طاقم خدمة يقوم على خدمة الخادم و يربطوا له أحزمته للأمان. هرج و مرج والمضيف يلح بالصاخبون بالسكون و الجلوس بكراسيهم, يمتثل البعض و يماطل البعض إنما لا أعرف لأي شيء. تنتهى الممطالة بعد ثوان, لما ويجلس الركاب بكراسيهم و يربطوا الأحزمة و حينها أتت أوعر اللحظات بحياتي؛ عندما تسحب قلبي عن جذعي حتى سقط بين أرجلي, لحظات و ضاق تنفسي حتى أنني شعرتُ أن الهواء غادر الطائرة بمغادرتها للأرض التي تمشت من أسافيلها و حتى حلقت بالسماء, الجالس بجانبي يحدجني بتعجب و يتغمز علي برفقة مرافقه بالكرسي الثالث ثم يشير للمضيف الجوي لينقذ الرجل الجالس بجانبه و الذي يعاني من سكتة قلبية .
لم أعي أي رجل يقصد حتى أتي المضيف الجوي و طلب مني تحديدًا أن أهدأ وأشرع بالتنفس ببطئ, يسألني المزيد من الأسئلة فأصبحتُ لا أعرف إلى أين يصبوا؛ التنفس أم الثرثرة حتى نجدة القدر فقد عاد تنفسي للإنتظام بلا أسئلة و ليس للمضيف أو للرجلين الهازئين أي صلة بنجاتي لأنني قرئت الفاتحة و المعوذتين و لما إنتهيت هدئت من تلقاء نفسي.
**يتبع لم ينتهى الفصل ***