تجعد جبينها وعاودها ذلك الشعور بعدم الراحة... هناك شيء ما خاطئ... هزت رأسها بقوة لتزيح أثار التيكيلا من رأسها... ولكن هيهات يلزمها إبريق كامل من القهوة السوداء قبل أن ينجلي تفكيرها بأي حال من الأحوال...
حاولت التقاط نظراته من خلال المرآة مرة أخرة ولكنه أنزل الكاب ليظللهما ويمنعها من سبر أغواره... نزل من السيارة انتظرت للحظات تراقبه خفية من خلال الزجاج يستدير حول السيارة حتى اقترب من الباب المجاور لها.. فتحه ومد يده باحترام وعيناه م**ورتان في الأرض.. لم يتطلع لها بعينيه الوقحتين.. كأنه شخص مختلف عن السائق الذي قاد بها السيارة بوقاحة ردوده ونظراته.. والآن..هذا!!!..
حدقت بيده بتساؤلات كثيرة عندما سمعته يستحثها بأدب ولكنها لمحت نبرة الصبر النافذ:
ـ تفضلي يا آنسة شيريدان..
صاحت ساخطة بهجة متعالية:
ـ بكل هذه البساطة... ألا تخشى أن أصرخ وأتهمك أنك خاطف حقير..
تراجع الرجل بملامح متفاجئة مصدومة وهو يردد:
ـ خاطف!!.. أنا!!.. وهل من خاطف يأتي برهينته إلي أفخر فندق في "كانبيري"... أين ذكاؤك يا آنسة شيريدان؟..
ها هو يعود لنبرته المتعالية وهو يردف مطمئناً:
ـ يبدو أنه حصل سوء تفاهم بسيط... عريسك.. فيليب دانس ينتظرك مع كل المدعوين هنا.. بما فيهم جدك وأخوك.. لقد دبروا لكِ مفاجأة.. وكنت المكلف بتنفيذها.. يبدو أنني غاليت في رد فعلي لدرجة إخافتك.. أعتذر يا آنسة.
الآن فقط بدأت تشعر بالفزع.. فهذا الرجل لم يبدو عليه الصدق في اعتذاره ولو بنسبة واحد في المليون.. إلى الآن لم ترى ملامحه بشكل جيد.. فأضواء بوابة الفندق مسلطة على عينيها وهو يقف مقا**ها.. فلم تتحقق من ملامحه جيداً لتعرف أن كان صادقاً فعلاً في اعتذاره.. ولكنها لم ترتاح لنبرته أبداً.. وهي لم تعتد تجاهل أحاسيسها الأنثوية قط..
ـ آنسة شيريدان.. لقد تأخرنا بالفعل على عريسك وجدك.. لابد أنهما في شدة القلق الآن..
سماعها لاسم جدها جعلها تتحرك على الفور فهي لا تريد التسبب له بأي قلق خاصة الليلة.. يكفي إحساسه أنه يفقدها لرجل آخر..
لم ترغب ولكنها اضطرت للإمساك بيد السائق الممتدة كي تتمكن من الخروج من باب السيارة بكل هذا الفستان الكبير...
شدها بحزم فشعرت بقوته تتخلل عظامها وهي تندفع نحوه لتصطدم بص*ره.. رفعت عينيها الذهبيتان لتتصادم نظراتهما عن هذا القرب سوياً... وقفا مسمرين للحظات يحدقان ببعضهما البعض, وكأن الكون توقف عن الدوران.. ولكن شعوراً رهيباً التهمها من الداخل أفزعها.. كأنها تقف وحدها في هوة مظلمة وداكنة من الكره والغضب.. بدأت عاطفة غريبة تشتعل بداخلها... إحساس غريب حاولت تفسيره...أين رأت هذا الوجه من قبل؟ ...عندما أحنى السائق رأسه نحوها فظنته سيقبلها...
أغمضت عينيها ب*عور رهيب بالخدر يسري في كيانها, ولكنها أفاقت على صوته الساخر تقريباً جوار أذنها:
ـ آنسة شيريدان.. آسف لاستعجالك.. ولكن عريسك بانتظارنا.. الآن..
أدركت بفزع ما حدث لها.. ومع من.. مع رجل غريب تماماً.. وليس أي رجل بل السائق الخاص الذي أرسله فيليب ليحملها له يوم زفافها صرخت بنفسها..
"هل جننتِ؟.. ماذا سيظن بك الآن؟!"
ببطء وجهد من الإرداة الفائقة... التي لم تكن سوى جزء لا يتجزأ من شخصيتها النارية حاولت رسم قناع فارغ من المشاعر على وجهها وهي تشمخ بأنفها.. بينما لم يظهر على وجهه أي تأثر.. كل إحساساتها كانت متيقظة لأي حركة يقوم بها, ولكنه رفع ذراعه قائلاً:
ـ هل تسمحين لي بإيصالك حتى مكان الحفل؟؟
ترددت لحظة ثم نهرت نفسها.. لقد أهانت نفسها بما يكفي حتى الآن.. وتوعدت في سرها عريسها الأشقر عديم النفع.. لتصب إحباطها عليه في وقت لاحق الليلة.. رسمت ابتسامة باردة وهي بالكاد تلمس بأصابعها ذراعه.. هل خيل لها أنه زفر بسخرية.. لم تتمكن من الأمساك بتلك اللحظة فسرعان ما قتمت عينيه مرة أخرى وهو يتقدم معها للبوابات المتحركة للفندق.. خلع الكاب عن رأسه ورماه بعيداً... شهقت من الحركة المتعمدة.. والأكثر من الشعر الغزير الأكثر سواداً رأته في حياتها, وقد تهدلت غرته على جبينه وقام برفعها بحركة ملولة وكأنه معتاد على تهدل تلك الخصلة المتمردة... ولكن أياً من حركاته لم تكن لسائق بالتأكيد... ربما هو صديق لفيليب, وسوف يسخران منها الآن لتمكنهما من إثارة فزعها... ومرة أخرى راحت تتوعد فيليب بالويل والثبور وعظائم الأمور..
كان يفوقها طولاً بثلاث إنشات على الأقل... أدار كتفيه العريضين نحوها عندما لاحظ أنه مراقب من قبل عينيها الشفافتان, ابتلعت ل**بها بصعوبة فقد بدا ضخماً وجذاباً على نحو مزعج.. هذا ما فكرت به مع شعور بانقباض في حنجرتها عندما لاحظت الطريقة التي يرمقها بها وهو يحثها على التقدم... كانت التيكيلا لا يزال تأثيرها المراوغ على رأسها فلم تستطع التركيز بما تفعل... أمرت ساقيها بالتحرك فطاوعتها بصعوبة.. لتتذكر أنها لا تحب أن تكون في مكان أو زمان ضد رغبتها.... فيليب يعرف هذا فيها جيداً.. توقفت مذهولة عندما تجمع حولها السياح يلتقطون لها الصور ويشيدون بجمال ثوبها وأناقتها.. انحنى الرجل على أذنها قائلاً بنبرة ساخرة:
ـ يظنوني العريس.. ألست محظوظاً!!..
رمقته بنظرة تحذيرية فأردف متن*داً:
ـ لا أحب تشتيت أمالهم.. وبظني لن يسمعوني لو حاولت توضيح هذا الخطأ القاتل, فكما ترين كلهم سياح وغالباً لن يفهموا كلمة مما أقول.
كانت تومئ للمهنئين بابتسامة فاترة وهي تلمح الحقيقة في كلامه, وفكرة غامضة مسيطرة على عقلها اللاواعي.. ولكنها لم تستطع الإمساك بها للثقل الرهيب في رأسها:
ـ أين مكان الحفل؟.. لقد تعبت.
ـ تفضلي من هنا...
أفسح لها الطريق بذراعه لتبتعد الحشود فوراً وكأنه يمسك بعصا سحرية... لاحظت نظرات الفتيات الولهة تشيعهما... وكأنها تحسدها على الإقتران بهذا الرجل الرائع.. هزت رأسها باستخفاف وهي تدخل المصعد ولكن أحد موظفي الفندق أوقف المصعد قبل أن يغلق بابه متسائلاً:
ـ سيدي.. لو تسمح لي بالسؤال.. هل لك حجز هنا؟
ردت جيما باندفاع:
ـ لا نحن ذاهبان للحــ..
صرخت بألم عندما لكزها في خصرها وهو يطوق رأسه بابتسامة جذابة على شفتيه مقاطعاً كلماتها:
ـ نعم لي جناح في الأعلى.. "جناح شهر العسل".
قالها بغمزة من عينه وابتسامة ملتوية بطرف شفتيه وهو يرمقها بنظرة جانبية متسلية ثم أردف وهو يزيد من ضغط أصابعه على خصرها بتحذير لم تدري لم انصاعت له... ولكن الفكرة الغامضة في رأسها أخذت تكبر وتكبر حتى ظنت أن المصعد لن يتسع لها:
ـ سيحضر أهل زوجتي بعد قليل... أرشدهم لجناحي من فضلك.. رقمه "324 ب"
نهاية الفصل الأول.................
أكثر ما أغضبها هو خنوعها واستسلامها لسيطرته... كيف يحدث لها كل هذا حتى دون أن تصرخ أو تركل أو تثور كما هو طبعها دائماً؟!!!... كيف ألجمها بنظراته لدرجة الشلل الذي استولى على أطرافها وحتى ل**نها؟!!.. أم هي التكيلا اللعينة مرة أخرى؟...
حياهما موظف الفندق وأغلق باب المصعد على وجهه المبتسم من النفحة الكريمة جداً التي أنقده إياها رفيقها, لدرجة أنه ربما تغاضى عن محنتها الواضحة وعينيها تدوران بطريقة مريبة ربما لتوصل له رسالة أنها مع هذا الرجل دون إرادتها..
التحذير البارد في عينيه منعها من أن تصرخ أو تنبه أحد لما يحدث.. فالجميع يُحييها كأنها عروس جديدة في طريقها لقضاء ليلة زفافها مع عريسها الوسيم.. ربما لن يصدقها أحد ويظنوها عروس هستيرية مرتعبة من ليلة زفافها!..
انقبض قبلها بشكل مؤلم بعد أن أغلق باب المصعد ببطء... وبدأت رحلته السريعة للأعلى بعد أن ضغط رفيقها على أحد الأزرار ووضع بطاقة ممغنطة في مكانها... شهقت وهي تحاول تخيل لأول مرة تبعات ما قد يحدث بسبب وجودها في هذا المكان بدون إرادتها..
تعلقت عيناها به لتواجهه بثبات أدهشه تقريباً وهي تسأله:
ـ من أنت؟؟.. وما هذه اللعبة السخيفة التي تلعبها؟؟.. لست سائقاً كما يبدو... ولست صديقاً لفيليب؟؟.. ولكن أياً من تكون.. إن كنت تظن أنك قد تنجو بفعلتك هذه, أخشى أن أوقظك من أحد أحلامك الهستيرية هذا لن يحدث أبداً..
تشدق بكلماته رامقاً إياها بتسلية كبيرة قائلاً كلماته التي تواكبت من انفتاح باب المصعد على جناح شهر العسل:
ـ إجابات كل أسئلتك تتلخص في إجابة واحدة... هويتي... جايك تيغارد...
تراجعت مصدومة تشعر بوهن رهيب دب في ساقيها وبرودة شديدة في أطرافها... لتسمح لنفسها ربما لأول مرة في حياتها أن تظهر مشاعرها الحقيقية على وجهها وهي تهمس بصوت مصدوم..
ـ تيغاروس!!!...
جلجلت ضحكته الشيطانية وعيناه تلمعان بشر قائلاً بوحشية كنمر حقيقي:
ـ يبدو أن أخي العزيز لم يتوانَ على تعريفك بي.
دفعها لداخل الجناح.. كانت بحاجة لتلك اللحظات الوجيزة فقط كي تتماسك.. لأنه عندما التفت نحوها رفع حاجبيه باستهجان دون أن تختفي نظرته المسلية وكأنه يلهو بلعبة أعجبته وهو يراها ترمقه بتحدي ونظرات ثابتة وقد بدأ يسيطر عليها طبعها الناري..
ـ سمعت أنك عدت... أخيراً.. هل مسموح لي أن أسأل عن سبب هذه المسرحية السخيفة التي قمت بإخراجها ببراعة وأيضاً بدور البطولة فيها؟!!..
انغرزت أصابعه في مرفقها فأجفلت من الألم الذي سار على طول ذراعها بسرعة الكهرباء... ثم دفعها لتسقط على الأريكة المزينة بالورود احتفالاً بالعروسين.. اغتمت عندما تذكرت حفل الزفاف وجدها.. لابد أنه يكاد يموت قلقاً على مصيرها...
جلس على مقعد أمامها وقد عقد ساقيه الطويلتين بتعالي وهو يخرج علبة سجائره...
ثُم أخرج واحدة ولوح لها قائلاً باستخفاف:
ـ أرجو أن لا تضايقك رائحة السجائر... حقاً... ليتها تضايقك.. لن أبالي..
ثم نفث بالدخان الكثيف بتلذذ واضح... ثم عاد إليها بنظراته الغاضبة:
ـ ما رأيك يا عروس, هل أعجبك جناح شهر العسل؟...
ردت ببرود محاولة ألا تمنحه لحظة الإنتصار التي يسعى إليها:
ـ هل هو خاص بالعرائس المخطوفات؟؟
ازداد توترها الداخلي عندما قهقه بشكل مفاجئ وهو يتساءل بسخرية:
ـ في الأسفل لم تبدي لي كعروس مخطوفة.. ولا لأي مخلوق شاهدك متأبطة ذراعي وكأنني... حلمك الذي تحقق..
كانت ض*بة جديدة لكبريائها... لقد ساعدته باستسلامها... تصاعد الاحمرار الغاضب لوجهها.. غضباً من نفسها أولاً, لأنها ولأول مرة في حياتها تسمح لمخلوق قيادتها واقناعها بأمور هي غير مقتنعة بها.. وكانت هذه هي النتيجة..
أردف بلهجته الساخرة رغم أن التماع الشر في ظلمة عينيه ذكرها بنمر جائع متوثب للانقضاض على فريسته:
ـ هل أنتِ غاضبة لتعاونك المثمر معي؟... أم لدخولك الفخ بقدميكِ؟.. من سمعتك وشهرتك في التشرد والشراسة... ظننت أنني سأواجه متاعب جمة في إقناعك... حتى أنني أعددت منديلاً مشبعاً بالم**ر لاستخدامه... لو تسببت لي بأي إزعاج!!... ولكن الخطة لن تكون بهذا الكمال إلا بدخولك متأبطة ذراعي مبتسمة كعروس متشوقة لليلة زفافها.. وكأنكِ لأول مرة تكونين بين ذراعي رجل..
أغمضت عينيها للحظة لتتجاوز الإهانة وهو يلمح لفيليب وعلاقته بها... تنبهت ثم قلبت شفتيها امتعاضاً قائلة ببرود وتباطئ ملول متعمد في نبرتها:
ـ الهدف يا تيغارد... أنت تثرثر كثيراً من دون أن تصل لهدفك الحقيقي..
عاد البرود المظلم لعينيه وانقبضت عضلة متوترة في جانب فكه وهو يقول بصوت هادئ رغم منظره المرعب... وكأنه مصاص دماء سينقض عليها ليمتص منها الحياة:
ـ ألستِ خائفة؟
كانت تساوي ثنيات ثوبها المجعدة بأنامل هادئة غير متعجلة... ثم نظرت نحوه باستخفاف وهي ترفع حاجبيها بتساؤل:
ـ وهل يتوجب علي أن أخاف؟؟
قفز من مكانه وقد غادره الهدوء وهو يصيح بصوت هادر متوعد:
ـ نعم جيما شريدان.. لابد أن ترتعد فصائلك خوفاً.. لأنني قررت عقابك على كل جرائمك.
رددت بذهول وصدمة:
ـ جرائمي!!... في حق من؟؟
ورغم أن الإجابة كانت بديهية ولكن لزمها تلك اللحظات لتستجمع أعصابها, كي لا يظنها على وشك الإنهيار...
..