الفصل الأول
في أوئل السنة الميلادية , في الشهر الذى تعتمده الأعوام غرتها علي الدوام .. ذاك الشهر الذي يريه البعض إيذانا لتحقيق كل حلم مؤجل .. و بداية لإحراز أول هدف في مرمي النجاحات .. في احدي لياليه الباردة و بينما كان المعظم يقضون أمسيتهم في بيوتهم متوارين من لسعات الشتاء القارص كانت هي تجلس في احدي غرف مشفى الطب التخصصي في المعادي بالقاهرة ..
غرفة هادئة تماما , لا يُسمع فيها صوتا غير صوت ذلك الجهاز الذي يظهر على شاشته ذاك الخط المتعرج مفصحا عن نبض مريضها الذي ترافقه .. يظهر ان قلب مريضها قد تكبد الكثير من عناءات الحياة ...
كان الصفير الصادر عن ذاك الجهاز يملأ أرجاء الغرفة بأكملها ، كانت كل صافرة منه تشق طريقها الي قلبها الذابل لتقطر عليه أملا في تعافي ذلك القلب الحنون..
الذي ينتمي الي ذاك الممدد على الفراش دون حراك ،مغمض العينين ، موصول به مجموعة من الأجهزة، كل من ينظر إليه يعشق ملامحه الهادئة ، فوجهه محبب ، من يراه يتمنى ألا يشيح نظره عنه أبدا ، لحسنه وجمال ملامحه ..
ظلت ترمقه بنظراتها الوجلة ثم ارفقتها كفاها حين رفعتهما معا.. تتضرع الى الله باكية تدعوه برجاء:
"يا رب نجيه من اللي هو فيه ، أنا معنديش اغلى منه "
اشتدت وتيرة بكاءها .. لتهدر بأنفاس متقطعة: "يا رب.. أنا.. اتغيرت ...عشانه , انا اتعلمت الدرس كويس .. بلاش تعاقبني فيه , هو ملوش ذنب باللي انا عملته زمان ... انا كنت غ*يه لما فـ..."
بتر مناجاتها تلك طرقات متتالية على باب الغرفة، أجبرتها علي مسح دموعها و انزال غطاء وجهها و تسوية هندامها .. لتسير بعدها بخطى سريعة نحو باب الغرفة تفتحه و ليتها لم تفعل فقد كان الطارق طبيبا تعرفه حق المعرفة أتي ليفحص زوجها.. نعم فذاك المريض زوجها..
تفاجأت من جرأته في المجيئ بنفسه.. و عدم انتظاره تقرير الممرضة المكلفة بمتابعة حالة حبيبها..
كم تمقت وجهه و صوته و كل مكان يتواجد فيه .. فلقد كان هو نفسه من دمر حياتها، وجعلها تعاني كل تلك المعاناة..
انزعجت من قدومه ، وتأففت عند رؤيته، ولكن ليس بيدها حيلة فكل ما يهمها الآن هو زوجها الحبيب .. انتقل مقتها إليه ليشعر بأن وجوده غير مرحب به.. فبادر بالتحدث لي**ر حاجز الجفاء :
"مريم انت كويسه..؟!"
عقدت ما بين حاجبيها اشمئزازا من نطقه لاسمها و اجابته باقتضاب :
" اتفضل حضرتك شوف شغلك ،وطمنى على مالك جوزى .."
تألم قلبه لسماعها تلقب غيره بـ هذه الكلمة ، ولكنه اخفى ألمه ولم يحاول التحدث معها مرة اخري .. لانه بات يعلم الأن انها لن تستمع اليه ..
دلف ليفحص زوجها فوجد أن كل شيء علي حاله ، ليس من جديد في حالته ..
سار نحوها بعقل مشوش .. ينظر الي السماعة الطبية الكائنة بين أصابعه بأسي ظل يبحث عن كلمات يقولها ولكنه لم يجد و كأن الكلمات فرت هاربة من علي ل**نه... أثر أن يخبرها بما أملاه عليه رئيس الأطباء فقط دون زيف منه.. رفع نظره نحوها ثم قال بنبرة يغلفها الهدوء , يتخللها بعضا من الرعب :
" مريم تعالى بره شوية من فضلك دكتور ممدوح المشرف على حالة مالك عاوز يتكلم معاكي في موضوع مهم .."
اضطربت دقات قلبها هلعا ظهر باديا علي صوتها: "خير في حاجه؟! "
اشار لها بيده نافيا حدسها :
"لا لا اطمني مفيش داعي للقلق .."
القت "مريم" نظرة حنونة على مالك قبل ان تخرج مع الأخر .. الذي حثها علي العجلة في الخروج قائلا:
" يلا يا مريم "
رافقته للخارج و هي تسير خلفه .. اغلقت باب الغرفة خلفها ... نظرت أمامها لتتبادل عيناهما النظر.. لتجد صوت مالك يتردد في مسمعها :
"على النساء ان يغضُّن من ابصارهن ، انتي بتصوني جوزك لما تغضي بصرك ،حتى لو مكنتيش بتحبيه على الأقل صونتيه و اديته احترامه في غيابه كأنه موجود بالظبط "
اغمضت عيناها علي الفور وحدثت نفسها:
" صيناك يا حبيبي في غيابك."
لاحظ هو انخفاض بصرها و تمتمة لم يفهمها ، و لكنه لم يعلق بل طلب منها ان تجلس على احد المقاعد المعدنية المتواجدة بتقطع علي طول الرواق المليء بالغرف معللا :
" أهدى يا مريم ... دكتور ممدوح في 416 و هيجي يتكلم معاكي بعد ما يخرج من عندها "
رفضت بامتعاض :
"لا مش عاوزه , و ياريت حضرتك تخليك في حالك و متشلش همي "
اغتاظ "طارق" من اسلوبها الفظ في الحديث معه وكاد يرد عليها لولا ان عيناه التقطت خروج مشرفه من غرفة 416.. ليردد بثبات :
"اهو دكتور ممدوح خرج "
رأيهم دكتور "ممدوح" فأقبل عليهم بوجهه البشوش وسأل "طارق" في الخفاء بعيدا عن مسامع "مريم" عن حالة "مالك" ، فأخبره بانعدام تحسن حالته ، ليزم شفتيه و تتحول ملامحه البشوشة للأسي حينا وجه حديثه الأسف عليه قبل التفوه به لتلك التي ترقبهم بتوتر جلي:
" انا اسف يا مدام مريم على الكلام الى هقوله لحضرتك دلوقت ، بس جوز حضرتك في الغيبوبة بقاله اسبوع، و احنا محتاجين معجزه علشان يفوق ويرجع لنا تاني، و الحاله للأسف مافيهاش امل، الامل ضعيف جدا ، وهو مش هيعيش باقي عمره على الأجهزة كدا، احنا هنضطر نفصل الاجهزة عنه،و لــ..."
بتر حديثه صرخة" مريم" التي قذفتها في وجهه :
"انت بتقول ايه.؟! ، لا لا مستحيل ، مستحيل مالك يروح من بين ايديا، مش هسيبك تقرب منه ..
وقفت امام باب غرفته رافعة ذراعيها تسد الطريق عليهم تمنعهم من الولوج إليه ، تحول بينهما وبينه.. ثم استطردت حديثها بشراسة واصرار : مش هتدخل له، الا علي جثتي .. مش هسمح لــ...."
لم تستطع ان تتمالك نفسها اكثر ،وشعرت بأن قدماها لم تعد تحملانها ،و بضعف يجتاح جسدها الهزل، وانها ستسقط امامهم .. رفعت احدي يديها بتلقائية تدلك بها جبهتها عل ذلك الألم يرحل ..
انتبه لها "طارق" الذي مد يده في محاولة منه لـ اسنادها ، و لكنها صدته بيدها التي شرعتها في وجهه تمنعه من الاقتراب منها ..
أستندت بيدها على الحائط وجلست علي المقعد القريب من الغرفة ، مغمضة عينيها بـ اعياء لتنساب عبراتها على وجهها اسفل نقابها دون ان يراها احد ..
تنفس دكتور "ممدوح" بعمق باحثا عن كلمات مناسبة لتخفيف هول الموقف عليها , اقترب منها قليلا ثم نطق ليواسيها قائلا :
"انا عارف انها صدمة بالنسبة لك بس كان لازم اقول لك عشان تمضي على الاوراق..."
رفعت عينيها الغارقة في اعماق محيط دموعها تنظر اليه بـ مَلامة و أسي :
" انت عاوزني امضي على اوراق موت جوزي بايدي.. حرام عليك.. "
تعالت شهقاتها المكبوتة داخل اعماقها ..اكثر وانتفضت من مكانها تصرخ فيه ...
" لا ، لا ، دا لا يمكن .. مالك هيبقي كويس أن شاء الله ، وربنا، ربنـ ، ربـ... "
لم تقوي علي استطراد حديثها فقد داهمها الظلام فجأة بعد انذاراته المتكررة اليها و التي لم تكترث لها ..فـ وقعت مغشيا عليها أمامهم..
اختلط صياح "طارق" بـ صراخ الطبيب " ممدوح" على الممرضات لسرعة احضار ناقلة طبية اليهم..
أتو علي الفور و نقلن "مريم" الى غرفة فارغة للكشف عليها ..
وبعد مرورعدة ساعات ..
كانوا فيها قد اسعفوها جيدا ،و علقوا لها محلولا مغذيا نظرا لسوء تغذيتها في الأونه الأخيرة ..
خلال تلك الساعات كان "طارق" قد اتصل بش*يقها و طلب منه المجيء..
ليصل أخوها "ريان" الى المشفى مذعورا تتخبط قدماه في السير خشية ان يصيب ش*يقته اي مكروه ..و يفقدها كما فقد أبويه من قبل.. فهي الشخص الوحيد المتبقي له من عائلته ..
التقي بـ"طارق" في الرواق و ما ان لقطته عيناه حتي اندفع نحوه يسأله عن ش*يقته بأنفاس متقطعة و نبرة صوت هلعة :
"مريم مالها يا طارق ، جرى لها ايه؟"
ربط طارق علي كتفه مهدئا من روعه قائلا بنبرة مطمئنة :
" اهدى يا ريان و خد نفسك ،انت لسه تعبان من الحادثه..."
- "انا مش مهم ، قول لي مريم مالها؟"
- "وقعت فجأة من الارهاق ، مش اكتر.."
بدأ الاطمئنان يسري داخله و يهدأ لانه لم يصيبها أمرا خطيرا .. زفر أنفاسه الحبيسة بين سياج ص*ره ثم افصح عن طلب يريده :
"طب انا عاوز اشوفها.."
" استنى شويه لحد ما دكتوره مروه تخلص كشف عليها، وتخرج تطمنا ، وبعدها تقدر تدخل لها."
أومأ ريان له بتفهم ثم رفع يده السليمة ليدعو ربه قائلا:
"استر يا رب ، يا رب استر، اللهم اني اسألك اللطف في قضاءك..."
خوفه علي ش*يقته الصغري أنساه أمر صديقه القابع داخل احدي غرف مشفاهم .. استعاذ من الشيطان الذي انساه امره ثم التفت الي "طارق" يسأله عن حالة رفيقه:
" مفيش أي تحسن في حالة مالك ؟..يا طارق "
رد عليه الاخير بأسي : " للاسف مفيش "
هز الاخر رأسه بأمل و ردد بنبرة يملأها اليقين بالله:
" مالك قوي ، وان شاء الله هيفوق من الغيبوبة وهيعيش عشان مريم ، زي ما ربنا نجاني ، هينجيه ان شاء الله .."
رغم انه يكرهه كزوج لحبيبته الا انه يأمل ان يجد حقا القوة ليعود الي الحياة من جديد فموته سيصيبه بلعنة حزن أبدي و تأنيب مزمن لضميره لكونه يشعور بانه السبب وراء ما حدث له لذا عقب بأسي حقيقي :
" ان شاء الله.."
همَّ ليخبر "ريان" بما قاله دكتور "ممدوح" لـ "مريم" ، و لكن أوقفه أزيز باب الغرفة التي تقبع فيها "مريم" حين فُتح ، لتخرج منها دكتوره "مروه" و الابتسامة تزين محياها ..
بمجرد أن أوصد الباب خلفها و جدت زميلها في المشفي يقف أمامها وبرفقته شاب فاتن الجمال جعلها تسدل اهدابها اكثر من مره بعدم تصديق ..
و ما زاد من اعجابها له حين اخفض نظره ارضا و سألها بلهفة عن مريضتها التي كانت تفحصها منذ قليل ..:
طمنينى يا دكتوره من فضلك ،اخبار مريم ايه دلوقتى؟
حمحمت باستياء حين سألها و اعتقدت بأنها زوجته و لكنها أثرت أن تتأكد أولا من العلاقة التي تجمعه بها فاستفسرت قائلة:
" حضرتك جوزها؟"
رد "طارق" نيابة عنه :
" لا، ده باشمهندس ريان اخو مريم يا د.مروه ، ها طمنينا؟"
ابتسمت الطبيبة لا اراديا علي سؤالها الساذج والذي علي ما يبدو انه فضح أمرها أمام "طارق " ثم ردت عليه قائلة :
"زي ما توقعت يا د.طارق ، مدام مريم حامل ..."
ادمعت عيني "ريان" فرحا بعد سماعه لهذه البشري و ردد ليتأكد مما التقطته اذناه للتو:
" بجد يا دكتوره...؟!"
ابتسمت الأخيرة باعجاب بالغ عندما رأته لم يرفع عينه اليها رغم سعادته التي رأتها في صوته .. ردت عليه و هي تتفحص أصابع يده باحثة عن اي دلالة لحالته الاجتماعية :
"ايوه و في الاسبوع التالت كمان ، بس جسمها ضعيف جدا ، ومحتاجه تتغذي ، وماتتعرضش لأي ضغط نفسي او عصبي لانها ممكن تفقد الجنين.."
انتفض قلب "ريان" هلعا من عبارتها الأخيرة و استأذنها للدلوف الي ش*يقته :
"ممكن ادخل اشوفها..؟"
أصاب العبوس ملامح وجهها البشوشة حين التقطت عيناها خاتم الزواج يتخذ مكنونه في بنصره الأيسر.. أذنت له باقتضاب :
" ايوه ، ممكن ...بس متحاولش ترهقها بالكلام "
شكرها بعفوية :
" شكرا يا دكتوره..."
" العفو ، والف مبرووك ..."
" الله يبارك في حضرتك .."
تخطاها ليدلف الي ش*يقته و ترحل الاخري بقلب منفطر لاستكمال عملها , تبعها "طارق" الذي اثر ان يعتزل بنفسه ليبكي حظه العاثر فلا سبيل لعودة حبيبته اليه الأن ...خاصة بعد خبر حملها ..
أوصد "ريان" الباب خلفه بهدوء ثم نظر اليها ليجدها واضعة يداها على بطنها محتضنة جنينها نظرت ناحية مدخل الغرفة حين شعرت بولوج احدهم ، و ما ان ظهر أمامها ش*يقها حتي ارتسمت البسمة علي شفتاها و قالت بفرح عارم تبعه لوم :
"ريان حبيبي ،انت ايه الى جابك , انت لسه تعبان؟!"
بادلها الابتسام و هو يبرر لها :
"عشان اطمن عليك يا اميرتي الحلوة ، انتي كويسه؟!"
بكت من فرط سعادتها و هي تجيبه بفرح :
" انا عمري ما كنت كويسه زي دلوقتي..."
طبع قبلة حانية على جبينها ثم بارك لها :
"مب**ك يا حبيبتي ، الف مبروك.."
" الله يبارك فيك، اكيد مالك هيفرح قوي لما يعرف مش كدا "
اجابها بحزن دفين اخفاه في اعماقه ولم يبديه لها : "اكيد يا حبيبتي ، بس انتي اهتمي بصحتك عشانهم.."
- انا هروح اقول له..
ريان(بقلق):تروحي فين؟،انتي تعبانه.
لم تستمع مريم له بل نزعت ابرة المحلول من يدها ،ونهضت لترتدي نقابها و تذهب الى عاشقها المتيم ،حاول "ريان" ايقافها ولكنه لم يستطع ،فكانت تريد ان تعيش تلك الفرحة والسعادة معه ،وعندما خرجت من الغرفة وجدت "طارق" يقف مستندا على الحائط ،لم تنظر اليه ،ولم تلقي له بالا ،بل ذهبت في طريقها الى حبيبها لتبشره. .عله يستفق عند سماعه ذلك الخبر الجميل...
ذهبت لتعيش معه تلك اللحظات الجميلة ،طلبت من "ريان" ان لا يسمح لاحد بالدخول عليهم لأنها تريد البقاء معه بمفردهما..
وافقها "ريان" و لكنه استغرب من خوفها المبالغ فيه على "مالك"، فقرر ان يذهب الي "طارق" لكي يساله عما حدث،
ريان بتوجس : طارق ايه الى حصل ومخلي مريم قلقانه كدا؟
طارق بحيرة : بص يا ريان، مالك بقاله اسبوع في غيبوبه، ومافيش اي تحسن في حالته، فدكتور ممدوح كلم مريم وقال لها ان احنا هنضطر نفصل الاجهزة عنه لان مافيش امل للاسف، و هي لازم تمضي على الاوراق،
ريان(بانفعال): انتو مفيش في قلوبكم رحمة ،عاوزينها تمضي علي اوراق موت جوزها بايدها .. قلوبكم دي ايه حجر .. مريم مش هتحط قلم في ورقة .. الا في ورقة خروجه من المستشفي لما يفوق و يرجعلنا بالسلامه ...
...........
رأيكم في الفصل يهمني جدااا...? متنسوش الفوت ..?
بحبكم خيراااااات الله❤️..