التقطت شغف نفسها بعد أن قرأت رده ثم حولت انتباهها الى الاتصال الذي يلح على هاتفها دون توقف , و هي تنظر الى الاسم بعينين جامدتين و شفتين مطبقتين تحاول السيطرة على أحبالها الصوتية كي تتمكن من الرد عليه دون صراخٍ أو جنون لذا أخذت نفسا عميقا قبل أن تضع الهاتف على أذنها مجيبة بابتسامة جليدية و نبرة هادئة
نعم يا آدم
لم يرد عليها لوهلة و كأنه لا يصدق أنها تنازلت أخيرا ثم همس بصوتٍ أجش متن*دا
لم أصدق ما وصلني من كلام الدكتور علام شغف , هل لدينا أمل حقا ؟ بعد اتصالنا الأخير ظننت أنها النهاية الا أنني رفضت الإيمان بها
عيناها باردتان بهما من الألم ما يجتاحها , فتهدد باستخدامه ضد من آلمها , فاقدتان للمشاعر تماما , بينما الابتسامة تداعب شفتيها دون مرح , ثم أجابت بهدوء
طلبت منه أن يمنحني الوقت أتراه مطلبا صعبا ؟
سارع يجيب بلهفة و حرارة
سبق و أخبرتك أن لكِ كل ما تطلبين يا شغف و أقسم بأنني صادق
كانت قد نهضت عن سريرها و تهادت ببطء حتى وقفت أمام مرآتها تنظر الى صورتها و كأنها تقيم تمثالا من الرخام جميل الهيئة لكنه خالي من الروح و الحياة تمثال مبتسم لسماع القسم الحار الذي أقسم به ...
فردت بعد فترة من ال**ت
ألا زال في قلبك مكانا للحب يا آدم ؟ ظننت أننا فقدنا القدرة عليه
هتف بقوةٍ و بذاك الصوت الذي لطالما هدر عشقته وهو يندد بالباطل متشدقا بالمبادئ عاليا قويا آسرا في عنفوانه
ظننت هذا يا شغف ظننت أن قلبي تحول الى غرفة باردة أشبه بغرف الموتى , لكن يوما بعد يوم بعد خروجك من حياتي اكتشفت أن هناك قبسا من الحياة لا يزال متواريا داخل هذا القلب , إنه حبك يا شغف
لم تهتز حدقتاها ولو للحظة , لم تتأثر لم تنفعل أو يدب الشعور في تماثيل الرخام الجميلة مهما تغنى لها الهائمون ؟
و بهدوءٍ أجابت
لا أشعر بالمثل يا آدم مرت الأيام و لا يزال قلبي أشبه بغرف الموتى
استطاعت سماع توتره بوضوح وهو يقول بنفس النبرة المتلهفة الحارة , متلعثما و كأنه يمتلك فرصة واحدة لو أضاعها لما استطاع الحصول على غيرها و لفقد شغف للأبد
أعرف أعرف يا شغف و أقدر ما تشعرين به جيدا , لن أطالبك بما يفوق قدرتك الآن لكن فقط امنحيني فرصة المحاولة و أقسم أن أجيد استخدامها حتى أعيد الحياة الى قلبك
افترت شفتاها عن ابتسامة فاتنة متمهلة قبل أن تقول بنعومة
امنحني الوقت
على الرغم من التنهيدة المحبطة المكبوتة التي وصلتها ساخنة عبر الهاتف , الا أنه أتبعها بقوله مجهدا
و أنا وعدتك أن أفعل كل يتطلبه الأمر و كما سأمنحك الوقت , امنحيني الفرصة هل تعدين ؟
لم تفقد ابتسامتها و هي تقول باتزان
اترك الوعود للأيام , فهي كفيلة بها
أجزمت أنه ابتسم بأسى , حتى وصلها صوته يقول بخشونة
سأصل الى البلاد خلال أيام ما أن أبلغني الدكتور علام باستعدادك للمحاولة حتى بدأت في اتخاذ اللازم للعودة
بدا التوتر على ملامحها التي أجفلت قليلا , الا أنها سألته بهدوء
الا ترى أنك تتعجل ؟ قد تستغرق محاولة اقناعي طويلا , بينما وقتك ثمين
هتف آمرا بنبرته المتسلطة و التي وقعت في هواها يوما
اتركي تقدير الموقف لي و لا تفكري سوى في انتظاري فقط , أنا آتٍ إليكِ
أغلقت الخط و قد فقدت الابتسامة طريقها الى وجهها و ظلت تنظر الى ملامحها في المرآة
لا تفكري سوى في انتظاري
بينما على الجانب الآخر من الشاشة كان هناك وعدا آخرا
في انتظارك
أخفضت شغف عينيها و فتحت المحادثة لتكتب بقوة و ملامح قاسية
أما زلت في الانتظار ؟
كان خاطر ينفث نفسا عميقا من دخان الأرجيلة الضبابي حتى وصله السؤال الصارم , فطالعه بعينين باهتتين , و على الرغم من ابتسامته الساخرة قليلا , الا أنه كتب لها ببطء
أنا هنا .ماذا تريدين بعد يا شغف ؟
لعقت شفتها المكتنزة و هي تستدير بتمهل في الغرفة , حتى عادت جالسة على حافة سريرها و شعرها متدليا حول وجهها المحني على الشاشة ثم أجابته كاتبة
انتظر قليلا بعد
زفر خاطر بصوتٍ عالٍ فكتب لها يكاد أن يكون منفعلا
الهاتف ليس هاتفي يا شغف و يجب أن أعيده الى صاحبه , لو كنتِ مشغولة الى هذا الحد لنودع بعضنا و لننهي الأمر الآن
رفعت حاجبها الرفيع بنظرةٍ متعالية , الا أنها أجابته ببرود
لم أقصد هذا قصدت الا تتسرع في اقدامك على الزواج , فقد يكون لدي حلا لك
عقد خاطر حاجبيه و ضاقت عيناه و ترددت أصابعه وهو يكتب مرسلا إليها
لم يعد هناك مجالا لحلولٍ أخرى لقد اتخذت قراري
حين قرأت رده زمت شفتيها بقسوة و هي ترفع وجهها مفكرة فيما تجيبه ثم زفرت زفرة مرتجفة
لماذا ظنته مختلفا في لحظة ما ؟
لماذا تخيلت أنه لن يبيع شيئا يوما
مثله كباقي البشر الكل سواء و إن كان سيبيع فلما لا تشتري هي
أخفضت عيناها الى الشاشة ثم كتبت بأصابع ترتجف بشدة بعد هول تفكيرها الأخير
فقط انتظر قليلا
رفع خاطر وجهه هو الآخر مغمضًا عينيه كان خطأ كبيرا توديعها في تلك المرحلة , فتلك الشخصية المعقدة لن تقبل بوداعٍ بسيطا مختصرا كهذا و على الرغم من كل هذا , فقد أبهجه رجاءها !
حين فتح عينيه محدقا في جموع البشر الهائمة جيئة و ذهابا كلا منشغلا بهمه .... لا يعلم كلا منهم الحرب التي يخوضها الآخر يظن أنه الوحيد المحارب
مرت لحظات حتى وجد نفسه يسألها مسندا جبهته الى أصابعه ببطء متمهلا
رغبت دوما في سؤالك لماذا اخترتِ اسم شغف لنفسك ؟
قرأت شغف سؤاله فأجفلت للحظة ثم عقدت حاجبيها مترددة قبل أن تظلم ملامحها و هي تجيبه ببطءٍ مماثل
شغف ! انه اسم صديقة لي
كانت تلك مفاجأة له فسألها بدهشة
أتعنين أن هناك انسانة اسمها شغف بالفعل ؟
للحظات فقدت عيناها بعضا من قسوتهما و أجابت بأحرفٍ شاردة بعيدة
صديقة لي , شاركتني الطفولة و الشباب تركت كل فترة من حياتها ب**ة على قلبي , فاخترت اسمها
ظلت صامتة منخفضة الوجه بعد رسالتها حتى وصلها الرد
أظنه يلائمك أكثر منها
كان دائما ما يقول آدم هامسا بصوته الأجش الهائم
فنان هو من اختار لكِ اسمك , و كأنه علم يوم مولدك أي امرأة ستكونين في شبابك و أي شغفٍ تأسرين به من يقترب منكِ
ابتسمت شغف ابتسامة ساخرة فاترة الا أنها تجاهلت رسالته الأخيرة و تابعت حوارها كاتبة
لما لا تراسلني من حاسوبك ؟
وصلتها الإجابة منه يقول بعد لحظات
أنا لا أقيم في البيت هذه الفترة
عبارة مختصرة قد تعني الكثير لكنها لم تهتم حاليا بحياته و تفاصيلها , فقد كانت لها غاية أكبر أهمية فسألته كاتبة بتوتر
كيف أتواصل معك اذن ؟
ابتسم ابتسامة قصيرة وهو يقرأ سؤالها و كأنها قد اتخذت قرارها برفض الوداع و إصدار الأمر بأن تستمر علاقتهما و التي لا يجد لها أي تصنيف مطلقا سوى أنها المنفذ الذي يفقد فيه نفسه , أو ربما يجدها عبره
.....
أجفلت مروة في سيرها المتسارع و هي تسمع النداء من خلفها , فانتفضت بقلق و هي تضع يدها على ص*رها مستديرة و ما أن أبصرت خاطر خلفها حتى هتفت بلهفة
خاطر !
ثم سارعت اليه تلقي بنفسها عليه محيطة خصره بذراعيها متشبثة به بقوة ارتبك خاطر وهو ينظر حوله عاقدا حاجبيه وهو يقول بصوتٍ خافت أجش
ما بالك يا مروة , نحن في الطريق !
الا أنها لم تبالي , بل زادت من ضمه و هي تبكي طويلا و تشهق كالأطفال فأبعد خاطر يداها من خلف ظهره و أجبرها على النظر إليه قائلا بدهشة
ما كل هذا البكاء يا مروة ؟ ما الذي حدث , هل والدك و إخوتك بخير ؟
مسحت مروة وجهها المبلل دون أن تقدر على التوقف عن البكاء , ثم قالت بصعوبة و اختناق
جميعنا بخير لا لسنا بخير , ظننتك لن تعود مطلقا , كما رحل زياد
توترت ملامح خاطر و **ت تماما , بينما هتفت مروة تسأله بحدة ممتزجة باللهفة
أنت آتٍ معي الى البيت , اليس كذلك ؟
لم يجبها خاطر على الفور, فرفع أصابعه يحك بها برأسه ناظرا بعيدا , بينما هي تراقبه عاقدة حاجبيها من بين دموعها و حين لاحظت **ته , هتفت بارتياع
لماذا أنت صامت ؟ خاطر أرجوك عد معي للبيت , أبي مرهقا نفسيا جدا بسبب ما فعلته و أنت تعلم أن صحته لا تتحمل المزيد من الضغط عد معي يا خاطر أرجوك
أخذ خاطر نفسا عميقا وهو يقول بقنوط
اسمعيني يا مروة
الا أنها قاطعته بحدةٍ تفوق سنوات عمرها و كأنها هي الكبرى , صارمة غاضبة
بل أنت من ستسمع يا خاطر ما الذي دهاك كي تتصرف بهذا الشكل و تهجرنا ؟ ماذا فعلنا ؟ شكلنا ضغطا عليك ؟ حسنا ربما تكون مظلوما معنا , لكن هذا ليس مبررا قويا كي تهجرنا في مثل هذا الحال , تعاقبنا و تعاقب والدك عد معي و أعدك أن نحاول التعاون بشكلٍ أكبر مستقبلا , ربما ربما بعد أن ألتحق بكلية الطب , أستطيع إيجاد عملا يساعد بجانب الدراسة و .... و كما أن شادية تستوقفني على درجات السلم يوميا , تبكي بشدة و تترجاني إبلاغك أنها ستحاول قدر إمكانها أن تقنع والدها بأن يتمم الخطبة و سيتكفل بكل شيء جميعنا سنتعاون كي نعوضك
تن*د خاطر هذه المرة تنهيدة قوية وهو يقاطعها بصوتٍ فاتر
مروة
نبرته واضحة الرفض جعلت الرعب بداخلها يتزايد فتعالى صوتها باكية بقوة
لكن لا تتركنا أنا خائفة يا خاطر , ماذا لو ماذا لو توفي أبي فجأة ووجدت نفسي وحيدة و مسؤولة عن مكرم و شيماء كيف سأتصرف ؟
ارتفع حاجبا خاطر بدهشة بالغة من مدى قساوة كلماتها و مخاوفها , مما جعلها تغطي وجهها بكفيها و تنهار في نحيب مريع !
اتسعت عينا خاطر بذهول وهو يرى انهيارها الواضح , و ذكره انهيارها بكلمات شغف القاسية التي شكلت بها سؤالا ذات يوم
هل تتمنى اختفاؤهم ؟ موتهم مثلا ؟
مروة الآن و مع انهيارها اعترفت في لحظة انهيار أن رعبها الحقيقي هو تحمل المسؤولية كاملة لو حدث مكروه لوالدهما ! ربما الاحتمالات مختلفة , لكن قسوة التخيل واحدة
و مع ذلك لم يحاكمها في نفسه , بل على الع** , لقد أشفق عليها بشدة فهو أكثر من يستطيع تقدير الرعب الذي تعانيه , و هذا لا ينفي حبها لوالدها و شقيقيها لكن العبء يؤخر الاعتبارات العاطفية , و يقدم الاحتمالات القاسية
تقدم خاطر منها حتى أمسك بكتفيها و هزها قليلا قائلا بصرامة
مروة .مروة توقفي عما تفعلين و اسمعيني
اضطرت الى رفع وجهها المبلل اليه فتابع بعد فترةٍ ببطء خشن كي تستوعب
لا تفكري في مثل هذه الاحتمالات مطلقا لو فكر الإنسان في أسوأ ما قد يحمله له المستقبل لما تمكن من النجاة مطلقا
لعقت مروة الدموع عن شفتيها ثم همست باختناق
أنا خائفة
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسألها بصوتٍ أجش غاضب
لما كل هذا الخوف ؟ لمجرد أنني تركت البيت بضعة أيام ؟
هزت رأسها نفيا ببطء و هي تواجه عينيه الغاضبتين بعينيها الحمراوين ثم همست بصوتٍ يائس
لأنك ستسافر
ارتفع حاجباه مجفلا , ثم سأل قبل أن يستطيع منع نفسه
من أخبرك سعيد ؟
ما أن تأكد لها ظنها حتى صرخت بصوتٍ مكتوم و هي تطبق جفنيها تعاود البكاء بجنون مما جعله يدرك مدى غبائه ف*نهد بتعب وهو يحك جبهته مغمضًا عينيه للحظات , ثم تكلم أخيرا دون أن يفتحهما
صعبتِ مهمتي جدا يا مروة و كنت أظنك أكثر أهل البيت عقلا
لم ترد عليه بل استمرت في البكاء مطبقة جفنيها , مما جعله ينظر حوله بحرج ثم قال بخشونة
كفى يا مروة , الأنظار تراقبنا .
و حين لم تتوقف عن البكاء أمسك بذراعها يجرها معه لتسير بجواره ببطء في اتجاههما للبيت . ثم قال بعد لحظات
هلا هدأتِ قليلا كي نستطيع التفاهم ؟
لم ترد مجددا , الا أن صوت بكائها خفت قليلا مما جعله يقول مازحا بسخرية
أنا راضٍ ذمتكِ هل هذا منظر يليق بدخول المشرحة خلال أشهر معدودة ؟
التقطت أنفاسها في بضعة شهقاتٍ مكبوتة ثم تمكنت من القول بأسى يائس
أي مشرحةٍ في ظل هذه الظروف ! ضاع أمل العمر و انتهى الأمر
رمقها خاطر بنظرةٍ جانبية و على شفتيه ابتسامة مشفقة , لم يستطع الا أن يشعر بها
فهو يعلم جيدا مذاق ضياع الآمال شديد المرارة و لا يتمناه لأخته حتى ولو كانت تلك الآمال قد مثلت عبئا مكثفا فوق كتفيه خلال السنتين السابقتين على أقل تقدير
ظل صامتا الى أن وصلا حتى باب بنايته بيتهما القديم فدخل يسحبها معه حتى وقفا بجوار السلم , فظلت صامتة رافضة النظر إليه و على الرغم من ذلك لمح العتاب في عينيها الحمراوين دون الحاجة للكلام
دس خاطر يده في جيب بنطاله و أخرج بضعة أوراق مالية قام بعدها مجددا وهو يقول آمرا
ركزي جيدا فيما سأقول يا مروة قسمي هذا المبلغ كالآتي , النصف لطلبات البيت و الربع لدروسك ... و الربع المتبقي لعلاج والدك لا تسلميه المال لأنه سيرفض شراء الدواء , اشتريه أنتِ بنفسك و تولي الأمر أعلم أن المبلغ زهيد لكن ما أن يقدرني الله و يرزق بالجديد سآتيكِ به
تناولت مروة المبلغ منه و هي تسأله بدهشة ماسحة وجهها بيدها
من أين لك بالمال ؟ هل أعادوك لعملك ؟
هز خاطر رأسه نفيا , دون أن ينظر اليها قائلا دون اهتمام
بل وجدت عملا آخر
هتفت مروة بأمل متوسلة أن يتراجع عن قراره
هذا رائع يا خاطر لماذا تفكر في السفر اذن , طالما وجدت عملا ؟
أمسك خاطر بكفها المطبق فوق الأوراق المالية بقوة مشددا على أصابعها ثم قال بنبرةٍ صارمة لا تقبل الجدل
آن الأوان كي تسمعي و تفهمي , و ستفعلين ولو بالقوة العمل الذي وجدته و كل عملٍ مماثل لن يفي بالمسؤوليات الملقاة على عاتقي و أولهم حلمك , ثم زواجك , و زواجك شقيقيكِ آن الأوان لاتخاذ خطوة أخرى بتفكير جديد , أما ما ضيعت به العشر سنوات الأخيرة من حياتي فلم أحقق به شيئا و قد قررت ألا أضيع الباقي من عمري
هتفت مروة مترجية
لكن يا خاطر
الا أن هتافه كان أعلى و أكثر صرامة و قد اتقدت عيناه الخضراوان بعنف مكتوم
لا مجال لكلمة لكن لن أسمح لمخلوق أن يشترك في جريمة ضياع المتبقي من شبابي على نفس المنوال , هذا لو كان في الشباب بقية و عليكِ التفكير بالمثل لو أردتِ تحقيق حلمك , السفر هو الحل الوحيد
ظلت مروة تنظر اليه طويلا و هي ترى أن الطريق مسدود أمامها تماما من نظرة عينيه الجديدة عليهما فهمست بصوتٍ بلا حياة
هذا ما قاله زياد قبل أن يرحل و لم نره من يومها
أومأ خاطر برأسه دون أن تلين ملامحه , قائلا بقسوة
حقك ألا تصدقين وعودي , و لا أملك الضمان عليها لكن لا خيار أمامك , فحتى لو بقيت ستغرق المركب بنا قريبا , لذا و بما أننا نظريا هالكون في كل الأحوال لذا عليكِ مساندتي في المجازفة
ارتجفت شفتاها بشدة , فربت خاطر على كفها متابعا
لن أتخلى عنكم يا مروة لن أتخلى عنكم
فتحت فمها علها تنجح في توسل أخير الا أنه أمرها بخشونة
هيا اصعدي للبيت و تولي الأمر و كوني قدر المسؤولية
همست مروة بخوف
ألن تصعد لترى والدك ؟
رفع خاطر عينيه لأعلى السلم القديم للحظة قبل أن يجاوبها عاقدا حاجبيها بجفاء
ليس الآن يا مروة , لن يدخر جهدا في التحقيق معي حتى يكتشف موضوع السفر و حينها لن تتحمل صحته فعلا هيا اذهبي
همست بأسى عاجز
لكن
لكنها كانت تخاطب ظهره وهو يلوح لها , خارجا بسرعة فانسابت آخر دمعتان ببطء على وجنتيها توديعا له و أصابعها مطبقة على الأوراق القليلة تجعدها
.....
خرج من مكتب التعيينات في شركة عبد السلام عدوي بعد توقيع عقد العمل الجديد مبتهجا بعينين تتألقان بالكثير من الآمال صحيح أن الدخل ليس ضخما كما توقع , و بالتأكيد ليس كما تخيلت نسيبة فقد وضعت رقما خياليا و بالتأكيد سيخيب ظنها كثيرا حين تعلم مقدار انخفاض الواقع عن مستوى أحلامها
لكن هذا لن يقلل من حجم سعادته في تلك اللحظة
على الأقل ضمن عملا يعد حلما للكثيرين سيرحمه من السفر للمنفى الجليدي من جديد و سيبقيه مع نسيبة عروسه بعد أسابيعٍ معدودة و بعد انتظار السنوات أخيرا
الحياة منحته الكثير بالفعل و عليه أن يكون ممتنا وهو كذلك و بإخلاص
اتجه ساهر ليغادر , لكن وللحظة توقف وهو يفكر في التوجه الى مكتب عبد السلام عدوي ليشكره على قبوله في الوظيفة و توقيع العقد بهذه السرعة
بصراحة لا يفضل الإقدام على أي تصرف شخصي كي لا يظهر بمظهر المتملق و هذا أمر لا يطيقه مطلقا , لولا أن الرجل في مقابلة العمل كان متبسطا جدا لدرجة التعرف على حياته و أسرته و قد زاد من المزاح ...
فجعل الأمر شخصيا أكثر مما ينبغي و المقابلة أشبه بلقاء صديقين تجاذبا اطراف الحديث المرح طويلا قبل الإقدام على التحقيق و التدقيق في خبراته العملية السابقة دون رحمة و كأنه يتحول في لحظة واحدة من شخص مرح غريب الأطوار الى رجلٍ عملي لا يقبل التهاون في اللحظة التي تليها
لكن مجرد قبوله بهذه البساطة دون تعقيد أو روتين أو توصية جعله ممتنا و توجب عليه شكره ولو لمرة واحدة على الأقل لا تجاهله بالمرة
لذا غير مساره و توجه الى مكتب عبد السلام وهو يدعو الله الا يكون متواجدا , فيوفر عليه الحرج و الشخصنة في العمل , فيترك له رسالة شكر مختصرة أنيقة مع مديرة مكتبه و ينتهي الأمر
لكن مع دخوله الى مكتبها المفتوح توقف للحظة وهو يرى الكرسي خلف المكتب خالي بخلاف احد المقعدين أمامه , فقد كان يشغله جسدا يوليه ظهره الا أنه استطاع التعرف على هذا الكيان الغريب ولو من ظهره فمن غيرها تملك تلك الجرأة في انتقاء الألوان !
كانت تجلس منكبة فوق المكتب ترسم بسرعة فوق أوراقٍ بيضاء بينما تضع ساقا فوق أخرى و تؤرجحها على لحنٍ ينساب من السماعتين في أذنيها فتعزلها عن الشعور بوجوده خلفها يراقبها
ضاقت عينا ساهر للحظة وهو يلمح البنطال المربعات البني الذي ترتديه و فوقه الكنزة القرمزية و التي تماثل لون حذائها الأرضي و الذي يعلو مقدمته ربطة أنثوية كبيرة من الحرير بنفس اللون القرمزي ! فوق كلا من الحذائين بمنتهى الثقة !
رفع ساهر حاجبه وهو يراقب الحذاء للحظات , الا أنه أجفل فجأة حين تغنت فجأة بكلمةٍ عالية تسمعها منبعثة على ما يبدو من السماعتين
فارتفع حاجبه الآخر وهو يراها ترجع رأسها للخلف مغمضة عينيها تزيد من الطرب في مزاجٍ عالٍ بصوتٍ , تبارك الله .غاية في النشاز و تظن نفسها بلبل الوادي
لكن مراقبته لم تطل كثيرا فقد حانت منها التفاتة و هي تغني فاتحة عينيها فأبصرته واقفا عند الباب يراقبها رافعا حاجبيه , فاغرا فمه فشهقت منتفضة و هي تقفز واقفة مما جعل السماعتين في أذنيها تشدان الهاتف بعنف , فتطاير في الهواء قبل أن يسقط أرضا متفككا في عدة أجزاء بصوتٍ صادم !
نظرت هويدا الى الهاتف بفزع , الا أنها لم تقدم على التقاطه , بل وقفت مستندة الى حافة المكتب من خلفها متشبثة به بقبضتيها
بينما عقد ساهر حاجبيه بشدة وهو يتطوع قائلا بحرجٍ بالغ وهو يتقدم من أجزاء الهاتف لينحني و يجمعها
أعتذر لم أقصد اخافتك بهذا الشكل
لم تجبه هويدا و هي تنظر اليه بعينين واسعتين تتأكد من انحنائه للمرة الثانية يجمع أشياء تخصها من على الأرض !
تقول الأسطورة أنها علامة الإعجاب تبا للأسطورة الم**مة على التحقق بأسوأ الطرق , كفى أساطير
أما ساهر فلم ينتبه لصراعها الذاهل و هي تنظر اليه , فقد كان عابسا متأوها وهو جاثيا أرضا , ملاحظا أنه هاتفا غالي الثمن بشكلٍ مبالغ فيه بفظاعة , من أحدث نوع
و حين التقط القطعة الأخيرة بجوار حذائها مباشرة , عاد انتباهه الى الربطة الحريرية القرمزية الكبيرة فوقه فابتسم رغما عنه , الا أنه سارع بالوقوف قائلا بحرج وهو يفحص أجزاء الهاتف قائلا
لحسن الحظ لم تتضرر الشاشة , دعيني أجمعه لكِ و أتعشم الا يكون قد أصابه أي خلل
تابع ما يفعل بتركيزٍ متجهم الملامح و ما أن قام بتجميعه حتى تطوع بفتحه و انتظر بقلق أما هي فكانت تراقبه هو برأسٍ مائل قليلا و ليذهب الهاتف للجحيم.
أص*ر الهاتف صوته المميز قبل أن تضيئ شاشته فابتسم ساهر مرتاحا لكن ابتسامته حملت شيئا مختلفا وهو يرى الصورة المحفوظة كخلفية للهاتف فقد كانت لعبد السلام عدوي , لكن في سن أصغر يحمل فوق كتفيه طفلة ضاحكة , فاغرة فمها على أقصى اتساعه من قوة ضحكتها ممسكا بكفيها فاتحا ذراعيها
و كانت هويدا هي هذه الطفلة تقريبا في السادسة من عمرها , شقراء و خلابة بشكل يأسر القلب و بثوب سباحة بألوان الطيف يبدو أنها محبة للألوان منذ صغرها
انتبه ساهر الى أنه أطال النظر الى الصورة مبتسما ف*نحنح و مسح الابتسامة على الفور , وهو يقدم الهاتف إليها قائلا بحرج
أعتذر للمرة الثانية تفضلي , لم يصبه ضرر
ابتلعت هويدا ريقها قبل أن تمد يدها لتلتقط الهاتف منه بسرعة ثم دسته في جيب بنطالها البني ذو المربعات و أبقت رأسها منخفضا على الرغم من مزيج البني و القرمزي , الا أنها على الأقل تبدو أكثر أناقة قليلا من المرة السابقة
ساد ال**ت المضطرب بينهما , ينتظر منها أن تعفيه من الاعتذار , الا أنها لم تتنازل و أبقت رأسها منخفضا فزاد حرجه أضعافا , ثم قال متابعا وهو ينظر حوله
أتيت الى السيد عبد السلام أردت شكره بشكلٍ خاص , ترى هل هو موجود بمكتبه ؟
رفعت هويدا وجهها إليه قليلا و ما أن تلاقت أعينهما حتى سارعت بإشاحة وجهها عنه مجيبة بصوتٍ أجش خفيض
سيأتي في أي لحظة
تنفس ساهر الصعداء , و حمد الله أن عبد السلام غير موجود فليهرب
لذا فتح فمه ينوي أن يبلغها رسالة الشكر و يغادر الا أنها أمرته بملامح متجهمة مشيرة الى المقعد المقابل لمقعدها
اجلس
ارتفع حاجبا ساهر مندهشا فلاحظت أن نبرتها بدت شديدة الفظاظة و كأنها تأمر زميل مهنة واحدة بالجلوس على مقهى شعبي فتابعت بنبرة أقل خشونة
من فضلك
زم ساهر شفتيه وهو يود الخروج من هنا , لكن الآن بات الأمر كقلة تهذيب لذا جلس بتردد , و تحركت هي مستديرة تنوي الخروج من المكتب , لكنها توقفت , ثم عادت بخطواتٍ غير واثقة لتجلس على مقعدها أمامه و كانت السماعتان لا تزالا في أذنيها و سلكهما متدلي فوق ص*رها غير متصلا بشيء .
هل تدرك هذا أم أنها نست وجودهما ؟ في كل الحوال لن يتطوع و يخبرها
تجاهلته هويدا و هي تعود منكبة على رسمها بملامح متجهمة و كأنه غير موجود تماما !