جريمة المنارة
عند مؤخر المركب كان مقعد القيادة حيث تنتصب دفة كبيرة ولوحة أزرار . وكان ثمة خيمة صلبة ، مموهة أيضاً ، تمتد بارتفاع قدم من الكوثل حتى بداية سطح المركب ، وتلتف من هناك جانبياً إلى الطرف الثاني من الكوثل ، فتغطي عملياً الزورق كله باستثناء عرض مؤخره ، وقبالة الدفة حلقة أشبه بالعين بقطر ثمانية إنشات تقريباً . كما رأى مدفعاً رشاشاً ثُبت على سطح الكوثل ، وإذا تأمل الخيمة الواطئة - علماً أن المركب برمته ، ومعه الخيمة ، لا يرتفع عن سطح الماء أكثر من ياردة واحدة .
حدّث نفسه ب**ت : " إنها من الفولاذ . إنها مصنوعة من الفولاذ " .
كان وجهه رصيناً تماماً ، وقوراً تماماً . شد معطفه على جسده وزرره وكأنه يشعر بالبرد .
سمع خطوات تقترب منه فاستدار ، لكنه كان مجرد حاجب من الميناء الجوي ، يرافقه جندي من البحرية يحمل بندقية . كان الحاجب يحمل صرة كبيرة لُفت بالورق . " هذه من الملازم ماك جينيز إلى الكابتن " .
أخذ بوجارد الصرة ، ومضى الجندي والحاجب . فتح الصرة ، فوجد في داخلها ملحوظة قصيرة كتبت بخط رديء وبعض الأشياء : دثار كنبة حريرية أصفر جديدة ومظلة يابانية جديدة ، من الواضح أنهما مستعاران ، ومشط ولفة من ورق التواليت . أما الملحوظة فكانت تقول :
لم أستطع العثور على كاميرا في أي مكان ، وكوليير لم يسمح لي بأخذ آلة المندولين الخاصة به . لكن ربما يستطيع روني العزف على المشط .
ماك
تأمل بوجارد الأغراض ، بالرصانة ذاتها ، ثم أعاد لف الصرة وحملها إلى نهاية الرصيف ورماها بهدوء في الماء .
رأى شخصين يدنوان وهو في طريقه إلى الزورق . عرف الفتى في الحال . كان طويلاً ، نحيلاً ، ثرثارا ، وقد أحنى رأسه قليلاً نحو مرافقة الأقصر منه قامة وكان يسير متهادياً بجانبه ، واضعاً يديه في جيبيه ، يدخن الغليون ، كان الفتى في سترته الكاكية ومعطف واسع واقٍ من المطر ، لكن بدلاً من قبعته اعتمر خوذة عجيبة من تلك التي يرتديها جنود المشاة ، جاراً وراءه ، كأنها صدى صوته ، قطعة قماش أشبه بالستارة بطول بشكير طويل .
صاح الفتى من بعيد :
- " مرحباً يا ولد! " .
بينما بوجارد كان منشغلاً بتأمل رفيقه ، يقول في سره أنه لم ير في حياته رجلاً غريب الشكل أكثر منه . كان ثمة شيء شديد العصبية في كتفيه المنحنيتين ووجهه المطرق نوعا . كان رأسه يصل إلى كتفي الفتى . وكان وجهه يميل للحمرة كذلك . لكنه يوحي برصانة عميقة تكاد تبلغ حد العدوان . وكانت ملامحه ملامح شاب في العشرين يحاول منذ عام ، حتى في أثناء نومه ، أن يبدو في الحادية والعشرين! وكان يلبس كنزة من الصوف عالية القبة وسروالاً قطنياً؛ وفوق ذلك سترة جلدية؛ وفوقها واقٍ من المطر متسخ يكاد يصل إلى قدميه ، وكان ثمة شريطة مفقودة عن إحدى كتفيه . ويعتمر قبعة بحرية مربعة النقش ، أحيطت بوشاح يغطي أذنيه ، ويلتف حول رقبته لينعقد تحت أذنه اليسرى . كان الوشاح قذراً بشكل لا يصدق ، فإذا أُضيفت إلى ذلك يداه اللتان دسهما عميقاً في جيبيه وكتفاه المحنيتان ، لبدا أشبه بساحرة شمطاء وقد أُعدمت شنقاً بتهمة الهرطقة .
صاح الفتى :
- " ها هو! هذا روني . هذا الكابتن بوجارد " .
قال بوجارد :
- " كيف حالك ؟ " .
ومد يده . لم يردّ الآخر ، لكنه مد ببطء يده الباردة الصلبة . ونظر لبرهة إلى بوجارد ثم أشاح نظرة . وفي تلك اللحظة التقط بوجارد شيئاً ما في نظرته ، شيئاً غريباً أثار كل دهشة؛ نوع من الاحترام العميق الخفي ، شيء أشبه بصبي في الخامسة عشرة يرى المهرج في السيرك .
لكنه ظل لا ينبس ببنت شفة . أطرق برأسه وتابع سيره ثم اختفى فوق حيد الطريق كأن البحر قد ابتلعه . ثم انتبه بوجارد إلى محرك الزورق يهدر .
قال الفتي :
- " فلنصعد نحن أيضا " .
ثم أنه اتجه نحو القارب ، وتوقف فجأة . لمس ذراع بوجارد وقال همساً بصوت رفيع يكاد يختنق حماسة :
- " هناك ، هل ترى ؟ " .
أجابه بوجارد همسا أيضا :
- " ماذا ؟ " .
ونظر بصورة عفوية إلى الخلف وإلي الأعلى .
شده الفتي من ذراعه وأشار إلى الطرف الآخر من الميناء ، قائلا :
- " هناك! هناك . الأوجانونستراس . بدلوا مكانها ثانية " .
في مواجهة الميناء شاهد سفينة قديمة صدئة شبه غاطسة في المياه . كان صغيرة وغريبة الشكل ، وإذ تذكر بوجارد وصف الفتي ، رأي أن الصاري يعبّر عن فوضى لا مثيل لها من السلاسل الحديدية والأسلاك تشبه ، كما يسمح الكثير من الخيال الخصب ، الصاري المثلث الشبيه بالسلة .
وكادت تند عن الفتي ضحكة وهو يهمس :
- " أتظن أن روني لاحظها ؟ " .
قال بوجارد :
- " لا أعرف " .
- " أوه يا الله! إذا أخطأ واحتسبها قبل أن يتعرف إليها فسنتعادل . يا الله! لكن هيا تعال " .
ثم صعد إلى القارب ، وهو ما زال يحاول كتم ضحكته : " انتبه سلم لعين! " .
صعد الفتي أولاً ، وأدى الرجلان الآخران له التحية العسكرية . أما روني فلم يبد منه إلا ظهره الذي بدا محشورا في فتحة صغيرة أسفل سطح الزورق . صعد بوجارد بحماس ، قائلا :
- " يا إلهي ، أعليك أن تتسلق هذا كل يوم ؟ " .
- " معجزة أليس كذلك ؟ لكن كما تعرف نحن نخوض حرباً بالحيلة والدهاء ، لا نتعجب لماذا تطول كثيراً " .
غاص الزورق في المياه ثم عاود الارتفاع ، رغم وزن بوجارد الزائد . قال الصبي :
- " يظل مرتفعاً هكذا ، حتى لو سار على العشب ، أو في وابل من المطر ، فإنه ينطلق بكل خفه كفراشة " .
هتف بوجارد : " حقاً ؟ " .
- " نعم بكل تأكيد . وهذا هو السبب كما تعرف " .