1

947 Words
جريمة المنارة عند مؤخر المركب كان مقعد القيادة حيث تنتصب دفة كبيرة ولوحة أزرار . وكان ثمة خيمة صلبة ، مموهة أيضاً ، تمتد بارتفاع قدم من الكوثل حتى بداية سطح المركب ، وتلتف من هناك جانبياً إلى الطرف الثاني من الكوثل ، فتغطي عملياً الزورق كله باستثناء عرض مؤخره ، وقبالة الدفة حلقة أشبه بالعين بقطر ثمانية إنشات تقريباً . كما رأى مدفعاً رشاشاً ثُبت على سطح الكوثل ، وإذا تأمل الخيمة الواطئة - علماً أن المركب برمته ، ومعه الخيمة ، لا يرتفع عن سطح الماء أكثر من ياردة واحدة . حدّث نفسه ب**ت : " إنها من الفولاذ . إنها مصنوعة من الفولاذ " . كان وجهه رصيناً تماماً ، وقوراً تماماً . شد معطفه على جسده وزرره وكأنه يشعر بالبرد . سمع خطوات تقترب منه فاستدار ، لكنه كان مجرد حاجب من الميناء الجوي ، يرافقه جندي من البحرية يحمل بندقية . كان الحاجب يحمل صرة كبيرة لُفت بالورق . " هذه من الملازم ماك جينيز إلى الكابتن " . أخذ بوجارد الصرة ، ومضى الجندي والحاجب . فتح الصرة ، فوجد في داخلها ملحوظة قصيرة كتبت بخط رديء وبعض الأشياء : دثار كنبة حريرية أصفر جديدة ومظلة يابانية جديدة ، من الواضح أنهما مستعاران ، ومشط ولفة من ورق التواليت . أما الملحوظة فكانت تقول : لم أستطع العثور على كاميرا في أي مكان ، وكوليير لم يسمح لي بأخذ آلة المندولين الخاصة به . لكن ربما يستطيع روني العزف على المشط . ماك تأمل بوجارد الأغراض ، بالرصانة ذاتها ، ثم أعاد لف الصرة وحملها إلى نهاية الرصيف ورماها بهدوء في الماء . رأى شخصين يدنوان وهو في طريقه إلى الزورق . عرف الفتى في الحال . كان طويلاً ، نحيلاً ، ثرثارا ، وقد أحنى رأسه قليلاً نحو مرافقة الأقصر منه قامة وكان يسير متهادياً بجانبه ، واضعاً يديه في جيبيه ، يدخن الغليون ، كان الفتى في سترته الكاكية ومعطف واسع واقٍ من المطر ، لكن بدلاً من قبعته اعتمر خوذة عجيبة من تلك التي يرتديها جنود المشاة ، جاراً وراءه ، كأنها صدى صوته ، قطعة قماش أشبه بالستارة بطول بشكير طويل . صاح الفتى من بعيد : - " مرحباً يا ولد! " . بينما بوجارد كان منشغلاً بتأمل رفيقه ، يقول في سره أنه لم ير في حياته رجلاً غريب الشكل أكثر منه . كان ثمة شيء شديد العصبية في كتفيه المنحنيتين ووجهه المطرق نوعا . كان رأسه يصل إلى كتفي الفتى . وكان وجهه يميل للحمرة كذلك . لكنه يوحي برصانة عميقة تكاد تبلغ حد العدوان . وكانت ملامحه ملامح شاب في العشرين يحاول منذ عام ، حتى في أثناء نومه ، أن يبدو في الحادية والعشرين! وكان يلبس كنزة من الصوف عالية القبة وسروالاً قطنياً؛ وفوق ذلك سترة جلدية؛ وفوقها واقٍ من المطر متسخ يكاد يصل إلى قدميه ، وكان ثمة شريطة مفقودة عن إحدى كتفيه . ويعتمر قبعة بحرية مربعة النقش ، أحيطت بوشاح يغطي أذنيه ، ويلتف حول رقبته لينعقد تحت أذنه اليسرى . كان الوشاح قذراً بشكل لا يصدق ، فإذا أُضيفت إلى ذلك يداه اللتان دسهما عميقاً في جيبيه وكتفاه المحنيتان ، لبدا أشبه بساحرة شمطاء وقد أُعدمت شنقاً بتهمة الهرطقة . صاح الفتى : - " ها هو! هذا روني . هذا الكابتن بوجارد " . قال بوجارد : - " كيف حالك ؟ " . ومد يده . لم يردّ الآخر ، لكنه مد ببطء يده الباردة الصلبة . ونظر لبرهة إلى بوجارد ثم أشاح نظرة . وفي تلك اللحظة التقط بوجارد شيئاً ما في نظرته ، شيئاً غريباً أثار كل دهشة؛ نوع من الاحترام العميق الخفي ، شيء أشبه بصبي في الخامسة عشرة يرى المهرج في السيرك . لكنه ظل لا ينبس ببنت شفة . أطرق برأسه وتابع سيره ثم اختفى فوق حيد الطريق كأن البحر قد ابتلعه . ثم انتبه بوجارد إلى محرك الزورق يهدر . قال الفتي : - " فلنصعد نحن أيضا " . ثم أنه اتجه نحو القارب ، وتوقف فجأة . لمس ذراع بوجارد وقال همساً بصوت رفيع يكاد يختنق حماسة : - " هناك ، هل ترى ؟ " . أجابه بوجارد همسا أيضا : - " ماذا ؟ " . ونظر بصورة عفوية إلى الخلف وإلي الأعلى . شده الفتي من ذراعه وأشار إلى الطرف الآخر من الميناء ، قائلا : - " هناك! هناك . الأوجانونستراس . بدلوا مكانها ثانية " . في مواجهة الميناء شاهد سفينة قديمة صدئة شبه غاطسة في المياه . كان صغيرة وغريبة الشكل ، وإذ تذكر بوجارد وصف الفتي ، رأي أن الصاري يعبّر عن فوضى لا مثيل لها من السلاسل الحديدية والأسلاك تشبه ، كما يسمح الكثير من الخيال الخصب ، الصاري المثلث الشبيه بالسلة . وكادت تند عن الفتي ضحكة وهو يهمس : - " أتظن أن روني لاحظها ؟ " . قال بوجارد : - " لا أعرف " . - " أوه يا الله! إذا أخطأ واحتسبها قبل أن يتعرف إليها فسنتعادل . يا الله! لكن هيا تعال " . ثم صعد إلى القارب ، وهو ما زال يحاول كتم ضحكته : " انتبه سلم لعين! " . صعد الفتي أولاً ، وأدى الرجلان الآخران له التحية العسكرية . أما روني فلم يبد منه إلا ظهره الذي بدا محشورا في فتحة صغيرة أسفل سطح الزورق . صعد بوجارد بحماس ، قائلا : - " يا إلهي ، أعليك أن تتسلق هذا كل يوم ؟ " . - " معجزة أليس كذلك ؟ لكن كما تعرف نحن نخوض حرباً بالحيلة والدهاء ، لا نتعجب لماذا تطول كثيراً " . غاص الزورق في المياه ثم عاود الارتفاع ، رغم وزن بوجارد الزائد . قال الصبي : - " يظل مرتفعاً هكذا ، حتى لو سار على العشب ، أو في وابل من المطر ، فإنه ينطلق بكل خفه كفراشة " . هتف بوجارد : " حقاً ؟ " . - " نعم بكل تأكيد . وهذا هو السبب كما تعرف " .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD