الفصل الرابع.

1525 Words
كان والده يعمل خفيراً لدى رجل الأعمال الثري الوحيد بالبلدة، رجل ضخم الجثة، قوي البنيان، ذو شارب حاد مستوي وعينين واسعتين، يدعى " بهجت بك " من سلالة البكوات الذين يغلب عليهم طابع العجرفة والقسوة في المعاملة ، فبحكم ثرائه الفاحش إلى جانب الفقر الذي كان يهيمن على البلدة آنذاك، جعل جميع من بالبلدة يعملون في أرضه مقابل أجر زهيد ، كان والده يحرس المواشي والحقول ، يقضي ليله ساهراً في التجول بين المزرعة الكبيرة يمسك بعصاً يهش بها إذا ما اعترضت الذئاب طريقه ،لا تدفع عنه خطراً لكنها أفضل من اللاشئ ، كان رغم خطورة عمله إلا أنه يتقاضى أجرا زهيداً كبقية العمال لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، لكنه كان كغيره يتحمل المشقة كي يجد قوت يومه، في فترة النهار يجني الفلاحون القطن في أرض بهجت بك والبعض الآخر يرعى المواشي من أغنام وبقر وغيرها من النعيم الذي يتمتع به ، يرأسهم "سعيد أفندي " يطلق عليه لقب الخولي ، يمسك كرباجا في يده وإذا ما وجد خطأ صغير وراء أحد الفلاحين الفقراء ساطه بالسوط الذي في يده فيتلوى من الألم في **ت خوفاً من أن يحرمه الخولي الذي لا يعرف للشفقة طعما أجرة يومه ، يتحملون ألماً وإهانة لا توصف ، من ذا الذي يقدر على الاعتراض في حضرة صاحب السمو بهجت بك . _اعتاد "فاضل" الطفل الصغير ذو العشرة أعوام أن يذهب إلى والده الخفير في عمله كل صباح ليأخذ مصروفه اليومي ومن ثم يذهب إلى المدرسة، لقد أصر والده رغم فقره الشديد أن يعلمه عله لا يلقى مثلما لقي من تعب، كان فاضل يرى ما يحدث للفلاحين من إهانة وتوبيخ فتحدث إلى والده: من هذا الذي يض*ب العمال بالسوط؟ _همس بحذر :إنه سعيد افندي يا بني الذراع اليمنى لبهجت بك ، خذ مصروفك واذهب إلى المدرسة في الحال. _لمعت عينيه بنظرة حزن وهو يرى السياط تهوي على أجساد الفلاحين ، ويُركلون بالأقدام دون شفقة : يا إلهي لماذا يقف هؤلاء الفلاحين مكتوفي الأيدي ولا يدافعون عن أنفسهم؟ _تن*د تنهيدة يأس: ومن يقدر على التفوه بكلمة يا بني ، سيطرده سعيد أفندي على الفور. _يطرده ! هل يطرده من الجنة ؟ يذهب إلى عمل آخر. _ضحك والده : وهل هناك عمل آخر، يا ليت لنا من حيلة ، ألا تدرك أن بهجت بك يمتلك البلدة من أقصاها إلى أدناها ، حتى أنه هو الذي يرسل الفلاحين إلى البلاد المجاورة أثناء موسم الحصاد، ببساطة هو يتحكم في العمل بالمحافظة بأكملها. _قطع حديثهما صوت بهجت بك قادماً من بعيد، يمتطي حصانه الأبيض من سلالة الخيول العربية الأصيلة، وخلفه أربعة من الرجال أحدهم يمسك بالمظلة فوق رأسه والآخر يمسك بلجام الحصان ، بينما يتبعه الآخران قبل أن ينزل وينادي على والد فاضل وهو يشير إليه : من هذا ؟ _تمتم بذعر: إنه ولدي يا سيدي لقد أتى كي أعطيه مصروفه ومن ثم يذهب إلى المدرسة. _خلع نظارته السوداء قبل أن يتحدث بغروره المعتاد: هذه مزرعتي وليست حضانة للأطفال هل فهمت؟ _أومأ برأسه إيجاباً بالطبع فهمت يا سيدي، لن تراه ثانية. _أشاح بوجهه بعيداً قبل أن يقول أين الشاي أيها الأ**ق. _ازدرد ريقه بصعوبة: سوف أحضره الآن..... قاطعه فاضل بغضب طفل برئ : أبي ليس أ**قاً إن له اسماً ينادى به. _نظر الرجل بغضب في حين قال والد فاضل : ا**ت يا فاضل، أعتذر منك يا سيدي هو لا زال طفلاً صغيراً لا يقصد هيا اذهب إلى المدرسة. _اغرب عن وجهي أيها الو*د وإلا قطعت أوصالك إرباً ، لولا انا ما لقي والدك وهؤلاء الحثالة قوت يومهم أليس كذلك؟ _تابع والد فاضل قائلاً: بالطبع يا سيدي لك كل الفضل ، والتفت إلى ابنه ودفعه للخلف هيا قبل أن تتأخر على دروسك . _حسناً يا أبي سوف أذهب لكنني تعلمت في مادة الدين أن الرازق هو الله ، وليس لأحد مهما علا شأنه أن يرزق غيره وأنه لا فضل بين العباد إلا بالعمل الصالح والقول الحسن ، وأما عن أرضك التي تفتخر بها من يدري ربما تكون ملكاً لي غداً. _قهقه الجميع بسخرية: في حين قال "شهاب" ابن بهجت بك الذي لم يكمل من العمر سوى ثمانية أعوام، ابن الخفير يمتلك أرضنا يا له من حلم غ*ي مثلك لماذا يتحدث هذا الأ**ق هكذا ؟ أنت لم تستطع أن تربي ابنك جيدا أليس كذلك؟ وألقى بكوب الشاي الساخن في وجه والد فاضل الذي ارتجف وظل يردد آسف سيدي سأعيد تربيته مجددا، وبهجت بك فخور بما فعل ابنه. _صاح فاضل في الفلاحين أنتم جميعا حثالة كما يقول، لانكم ترضون الإهانة والذل وقد أعزكم الله وكرمكم، عندما ت**تون في وجه الظالم فأنتم شركائه في ظلمه ، وعندما تتكلون في ارزاقكم على مخلوق ضعيف فأنتم تستحقون ما أنتم فيه، و.... جذبه والده بعنف من يده وأخرجه والولد يردد أنتم ظالمون لانكم القيتكم كرامتكم أرضا، وضيعتم حقوقكم بأيد*كم. _اعتذر والد فاضل عن ما بدر من ابنه وتابع عمله ، لكنه بالطبع لقي نصيبه الأكبر من الض*ب بالسياط من سعيد افندي الذي يثبت جدارته ويرضي غرور بهجت بك. _كانت أراضي بهجت بك الواسعة تقع على جانبي الطريق، هنا أشجار النخيل المثمرة التي تحيط بها الأسوار من كل جانب ، وهناك أشجار الزيتون والاعناب وشتى انواع الفواكه والخضروات، بينما تلك البقعة الكبرى تنتج اجود انواع القطن ، كان اعتنائه الشديد بأرضه يجعلها مقسمة ومميزة في أبهى صورة . _ذات يوم صيف حار ، توسطت الشمس في كبد السماء، لترسل باشعتها المحرقة فوق الرؤوس، والفلاحون لا يتوقفون عن حصد القمح، يتبعهم سعيد افندي بالسوط في يده يهوي به على جسد من يلتفت ، إذ بامرأة في العقد الرابع من عمرها تبدو عليها علامات الفقر والتعب، تحمل صينية من الالمونيوم، ممتلئة بالخضار فوق رأسها وتلهث بصعوبة، حافية القدمين في الأرض الملتهبة إثر أشعة الشمس، تمر من أمام الحقل وقد أوشكت على الوصول لبيتها الصغير الذي يقع في الناحية القبلية لحقل بهجت بك قبل أن يستوقفها بصوته الخشن الجهور: ما الذي حملك على المرور من هنا أيتها المختلة؟ ألا تدركي أن هذه أرضي والطريق طريقي، ارجعي من حيث أتيتِ. _اجابت بهلع: لكن الجو شديد الحرارة يا سيدي وكما ترى أنني لا امتلك حذاءً وقد قطعت مسافة طويلة إلى أن وصلت، لن امر من هنا ثانية فضلاً عن أنه طريق عام. _كل شئ هنا ملكي أيتها الحمقاء، ودفع الصينية بغضب من على رأسها فأسقطها أرضاً وأمرها بالعودة من حيث أتت . _تأوهت المرأة كما لو أن سهماً قد اخترق قلبها وهي تبكي بحرقة ثم رفعت بصرها نحو السماء: اللهم ضيعه في الدنيا والآخرة كما ضيع قوت أولادي. _كان فاضل في هذا الوقت قد أكمل عامه العشرين ، عندما علم أن التجار يربحون من الفلاحين قرشين في كل كيلوغرام من المحاصيل الزراعية من فاصوليا وبازلاء وغيرها، بدأ يشتري المحاصيل الزراعية من الفلاحين بقرش زيادة عن التجار ويبيعها للتجار أو في الأسواق ويكتفي بربح قرشاً واحداً وهو ما جعل الفلاحين يهرعون إليه بعد أن اكتفى بالشهادة الابتدائية، في صباح كل يوم يركب حمار والده الأ**د ويمر على الفلاحين يتفق معهم على ثمن الزرع ويأتي بالتجار ، فيأخذ المال منهم ويعطيه للفلاحين مقابل ثمن بخس ي**به ، وقد عزم على شراء دراجة تعينه على التنقل بين الحقول أفضل من حمار والده، قابل في طريقه تلك المرأة وهي تندب حظها فسألها عما حدث فقصت عليه الأمر ، فما كان منه إلا أن أخرج المال الذي ادخره من أجل شراء الدراجة وأعطاه لها عوضاً عن ما افتقدته ، فرفعت بصرها نحو السماء وهي تدعو له بدعوات مختلفة تماماً: اللهم اجبر خاطره كما جبر خاطري وأهطل عليه خيراً وفيراً ورزقاً كثيراً، وكأن أبواب السماء قد فتحت لاستقبال هاتين الدعوتين. _ كان بهجت بك يحب الرحلات البحرية والسباحة، في مطلع كل شهر يذهب للاستجمام في مكان مختلف ، شائت الأقدار أن يسبح في منتصف البحر ثم هاجت الأمواج فجأة فتوارت جثته إلى حيث اللاعودة أبدا ،" فالحذر كل الحذر من دعوة المظلوم" _ تولى مسؤولية الأراضي بعده ابنه "شهاب " الذي كان مثل والده يضع الجميع محط سخريته ويركل الفلاحون بقدمه، يتلذذ بالإستماع لصرخات الفقراء، فطرد سعيد افندي وجعل صديقاً له يحل محله واستأمنه بأن وقع له توكيلا يحق له من خلاله التصرف في كل شيء. _مضت الأعوام وفاضل تكبر ثروته يوما تلو الآخر حتى تمكن من شراء سيارة نقل ينقل بها المحاصيل الزراعية، كان لا يكل من العمل ليلاً ونهاراً لدرجة أنه نزل بالسيارة في الترعة المجاورة لحقل أحد الفلاحين وهو يشتري منه المحصول ، دون أن يشعر بنفسه نظراً لقلة نومه ، لم يستفق إلا وهم يحملونه من السيارة، ظل هكذا ينمو المال في يديه لكفاحه وجهده ، في حين كان "شهاب وصديقه " يبيعون الأرض قطعة تلو الاخرى ليشترون بها الم**رات وقضاء السهرات في الملاهي الليلية رفقة فتيات الليل، لكن شهاب لم يكن يدري أن فاضل عندما كان يعلم بأنه يبيع قطعة أرض يرسل من يشتريها له حتى أصبحت ثلثي أرض بهجت بك في حيزة فاضل ، وحينما علم أخوة شهاب بهذا الأمر عادوا من سفرهم وأخذوا بقية الأرض وتركوا شهاب يتخبط في الدروب حتى أصبح مداناً للبنوك . _انشأ فاضل العديد من المشاريع الكبيرة والمدارس الخاصة على الأراضي، واهتم بزراعة بقية الأرض ومراعاتها حتى أصبحت تنتج أضعافاً مضاعفة، وفي يوم من الأيام وجد شهاب يمر من أمامه بينما هو يقف أمام الفلاحين يوصيهم بكل إنسانية واحترام بإتقان العمل ، كان شهاب يمر برفقة اثنين من موظفي البنك يهددونه بالسجن إن لم يسدد ما عليه من ديون ، فنادى فاضل عليه قائلاً: بابتسامة نصر " ابن الخفير تمكن من شراء أرضك يا ابن صاحب السمو، لكنه لن يفعل مثلكم حتى لا يصيره الله إلى ما صرتم عليه ، ابن الخفير يعامل الناس بالحسنى لأنه يدرك أنه لا فرق بين بشري وآخر الا بالعمل الصالح" الأرض أرض الله يورثها من يشاء ويغير الأحوال بين لحظة وضحاها، فليراعي كل منا ما وهبه الله إياه ، ولنعلم أن الظلم والرضا به وجهان لعملة واحدة.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD