الفصل السادس.

1495 Words
كان "يوسف، وعماد" توأمان، تربطهما بعض الصفات المشتركة، يشبهان والدهما في بعض الأمور من رجاحة في العقل، والطول الفارع، والبشرة السمراء، وكانا الوحيدان لوالديهما، لكن "عماد" شديد التعلق بوالده، يعمل معه في البحر ولا يفارقه في الحقل وأثناء فعل اى شئ، فيستقلان القارب الصغير كل مساء، يرميان الشباك في النهر الصغير الذي يقع على مقربة من منزلهم، يمسك والده بالمجاديف ويقص عليه طفولته وما حدث له على مر السنوات. _ اشتهر والدهما بالأمانة والسعي لل**ب الحلال دون كلل، ففي الصباح الباكر ينزل عماد ووالده إلى النهر فيستخرجا الشباك محملة بما شاء الله لها من أسماك، فتأخذه "والدة عماد" تجوب به شوارع البلدة، أما "يوسف" فكان متيما بالرسم، يقضي ليله ساهراً في رسم تلك اللوحات الفنية الرائعة، ويزين الجدران مقابل ثمن زهيد. _لم يكن والده راضياً عن ذلك ويرى أنه مضيعة للوقت لا أكثر، وهو ما جعله يؤثر زواج ابنه عماد على زواج يوسف، رغم اعتراض زوجته بأن يتزوجا في آن واحد، كما تعاهدا سويا منذ طفولتهما، لكن المعلم "جلال" أعلنها صراحة، لن أزوجه حتى يتوقف عن ذلك العبث، ويعمل معنا في الصيد، وهو ما أحدث شيئاً في نفس "يوسف" وأجاب بامتعاض: لا أريد أن أتزوج، أنا لست تافهاً كما تراني يا أبي، أعطني تكاليف زواجي كما زوجت أخي، ولن أكلفك شيئاً بعدها، لأنني لا أريد زوجاً الآن. _تجهم المعلم "جلال" وألقى بورقات من الجنيهات في وجه ابنه قائلاً: هذه مائتي جنيها كما أنفقت على زواج أخيك بالضبط، آمل أن تنفقها على زواجك أو تدخرها، لقد أرضيت ضميري أمام الله، حتى إذا ما مت أكون قد أعطيت كل واحد منكما حقه. _خرج "يوسف" خلسة في ظلمات الليل لا يدري أين وجهته؟ لكنه شعر بالظلم في منزله، وأن والده لطالما كان يفضل أخاه عليه ويشاوره في شتى الأمور، بينما لا يضعه في عين الاعتبار، ظل يجوب أميالاً دون أن يحمل معه زاد، إلى أن اهتدى به الحال إلى مسجد في بلدة لا يعلم اسمها ولا طبيعة أهلها، نام في فناء المسجد من الجهة الخلفية حيث مكان الوضوء، استيقظ قبيل الظهر، فقام ليتوضأ ودخل ليصلي، فإذ بجنازة رجل يصلى على جثمانه عقب صلاة الظهر فصلى معهم. _ما إن انتهى الناس من الصلاة حتى أمسك أحد المصلين بالميكروفون ثم قال: إن لي دين عند ذلك الرجل وإنني لن أسامح في ديني حتى يتكفل لي به أحدكم ويدفعه في الحال، تبعه آخر وقال وأنا أيضاً، وآخر، تجمع سبعة رجال، جميعهم يقرون بأنه لن يدفن ذلك الرجل حتى يستردون حقوقهم. _تحدث الإمام: أيها الناس أنتم تدركون جيداً أن الميت لم يكن له أهل، وإنه قدم منذ زمن وعاش بيننا، إنه من الأزقة المشردين الذين لا مأوى لهم ولا أهل، وكما تعلمون أن إكرام الميت أن يلحد في أسرع وقت ممكن، فهل نكون رحماء فيما بيننا ونسامحه؟ ابتغاء وجه الله، أو نتعاون فيما بيننا ونسد عنه ديونه، إذ لا يليق بنا معشر المسلمين أن نمنع ميتاً لا حول له ولا قوة من الدفن. _لم يكترث أحد لما يسمع، وبالغ الجميع في عنادهم، فقال الإمام: من يقضِ عن هذا المسكين دينه، يعطه الله خيري الدنيا والآخرة، قام "يوسف" وقال أنا أفعل ذلك يا سيدي. _ذرفت عينا الإمام بالدموع ثم قال: سبحان الله، فتى في العشرين من عمره يقدم درسا في الشهامة لقرية بأكملها، أسأل الله أن يعوضك خير الجزاء. _كان مقدار الدين مائتي جنيه بالضبط وهو المبلغ الذي يمتلكه يوسف، فوزعه على الدائنين، تم دفن الرجل ومضى كل امرئ إلى طريقه، فرفع يوسف يديه نحو السماء: إلهي لقد أنفقت كل ما أمتلكه على رجل لا أعرفه ولا يمت لي بصلة، ومضى أهل القرية ولم يشكرني أحد أو يدعني أحدهم لتناول الغداء، فاللهم عوضني بما أنت أهله، ومضى في طريقه. _وبينما يمر من إحدى الشوارع، ظهر له من العدم فجأة رجل مترهل، رث الثياب، كث اللحية، ربعة، ليس بالقصير ولا بالطويل، دنا الرجل منه قائلاً: السلام عليكم يا يوسف، يا من سميت على اسم نبي الله وسلكت دربه في الخير. _تعجب يوسف ونظر إلى الرجل في دهشة: هل تعرفني أيها الشيخ؟ _كم من مجهول في الأرض معروف في السماء، أعرف الخير الذي صنعته والقلوب على نقائها تلتقي. _كلامك جميل كقلبك. _الأجمل ما صنعت يا ولدي، وما كان ربك نسيا، هل تتبعني على أن نقتسم كل ما يرزقنا الله إياه قسمة عادلة؟ _لا أعرف وجهتي، ولا أدري أى أرض أحل. _ما دمت تنوي الخير، فالخير يتبعك في أي أرض حللت، شرطي الوحيد أن تفعل كل ما أقوله دون تفكير. _أتبعك، لكنني جائع. _سنأكلا الآن كل ما لذ وطاب من اللحوم. _أتستهزئ بي؟ من أين ذلك؟ _ومن أنا حتى استهزئ بخلق الله؟ الرزق من الله لا محالة. _سارا مسافة طويلة، حتى وصل إلى صحراء قاحلة، ويوسف يستمتع بحديث ذلك الرجل، مد الرجل يده في الرمال فأخرج إناء مملوءاً باللحوم والدجاج. _تعجب يوسف ووقف حائراً: من أنت؟ أنت ولي مقرب؟ أم ماذا؟ _كل يا يوسف وما دمت تصنع الخير لا تخشى شيئاً. _بماذا أناد*ك؟ _قل يا عبد. _ولكن......... _قاطعه في هدوء ألم نتفق على السمع والطاعة واقتسام كل شيء بيننا؟ هيا سوف نجمع ذهباً الآن، مد يده في الرمال فأخرج قطعاً من الذهب، ووقف يقسمها على كليهما، وسط ذهول يوسف الذي يظن أنه يحلم. _مضت الأيام والعبد يجمع العديد من المجوهرات النفيسة، من بين الرمال ويقسمها بينهما، اشترى العبد بيتاً يقيمان فيه، فيقوم في الليل يوقظ يوسف يصب عليه الماء من الإبريق ويقيمان الليل سوياً. _في يوم من الأيام أثناء تناولهما طعام الإفطار قال العبد ليوسف: أريد أن أزوجك. _كما ترى فلقد اعتدت السمع والطاعة، والله ما اتبعتك إلا وجدت خيراً. _من يصنع الخير يحصد الخير، سأزوجك ابنة الملك "جواد" ملك هذه المدينة والمدن المجاورة. _نظر إليه في غرابة: ابنة الملك، أنى لي هذا؟ _المال وفير بفضل من بيده ملكوت السماوات والأرض، كما أن الملك يزوج ابنته لكل من يتقدم لها، لقد تزوجت أكثر من عشرين مرة، وفي صباح يوم العرس يجد والدها زوج ابنته ميتاً قبل الدخول بها. _أصاب الذعر قلب يوسف: ما الذي تقوله يا عبد؟ تزوجت أكثر من عشرين شخصاً ويموتون جميعاً في الحال؟ _نعم، هناك ثعابين تندثر في جسدها إثر سحر أ**د خبئ لها بين المقابر، ضاع السحر وبقي أثره. _ابتلع ريقه بصعوبة والخوف يهز جنبات قلبه: هل تلقيني في الهاوية يا عبد؟ _من يفعل الخير ينقذه الله من عثرات الحياة، هيا نذهب الى الملك. _وافق الملك "جواد" بعد أن قص عليه أن من يتزوج ابنته يموت للتو، حتى يأست ابنته من الزواج، وافق العبد وهو يقول: لكل إنسان أجله مسطر في اللوح قبل خلق الأرض، ودفع المهر في الحال، ويوسف يزداد خوفاً من هواجسه، اصطحب عروسه التي يزين وجهها الأبيض حمرة الخجل التي تزيدها جمالاً على جمالها، بينما هي لا تكترث لشئ يدور حولها، تيقن أن ما هي إلا سويعات وتعود إلى بيتها بعد وفاة زوجها دونما سبب. _دخل يوسف وعروسه غرفة النوم تبعهما العبد، نظر إليه في دهشة: أشكرك يا عبد تفضل أنت. _ما بك يا يوسف؟ هل نسيت اتفاقنا؟ أن نقتسم كل شيء. _صاح في حدة: ماذا؟ حتى في زوجتي؟ _نعم في كل شيء هيا لننام، وقفت الملكة "جوهرة" بامتعاض وهي تهمس لزوجها: هل جننت يا يوسف؟ كيف تدعه ينام في غرف*نا هكذا؟ _لا تسألي عن أشياء إن تبد لكِ تسؤكِ، اخلدا للنوم بين ذراعي بعضكما وأنا سأنام على الفراش الآخر. _تعجبا كيف سمع ذلك الهمس، بينما مد العبد يده في الجدار وأخرج سيفاً وجلس على فراشه، جال في خاطر الملكة أنه ساحر فنامت بين ذراعي زوجها في ذعر ودست وجهها بين ص*ره، بعد ساعتين أمسك العبد بالسيف بعد أن أطفأ الضوء ونزل على رقبة الملكة وهي نائمة، بض*بات متتالية، ووقف لدقائق وعادها ثانية، وبعدها نادى على يوسف، قائلاً لقد شفيت زوجتك، قتلت جميع الثعابين التي في جسدها، بإمكانك الدخول عليها والتمتع بما أباحه الله لك، أما أنا سأصعد إلى الطابق الثاني. _في صباح اليوم التالي حضر الملك وزوجته والحاشية يحملون كفن يوسف في اعتقاد منهم أنه مات كعادة كل من يتزوج ابنته، والمفاجأة أنهما وجداهما يتناولان طعام الإفطار في سعادة ومرح، فاختلت الملكة بابنتها جوهرة وعلمت أن زوجها دخل بها، فرحت لانفراج تلك العقدة التي لازمت ابنتها لسنوات. _مضت الأعوام والعبد يخرج كل يوم هو ويوسف يجمعان المال والذهب من الرمال، ويشتريان البيوت الشامخة والأراضي الخصبة، يزداد ثرائهما يوماً تلو الآخر، أنجب يوسف ولدين وبنت واحدة جميلة تشبه أمها، استدعاه العبد قائلاً: حان وقت الرحيل، فلنقسم كل شئ بيننا ونفترق إلى الأبد. _لمعت عينيه بحزن: لماذا يا عبد؟ أنا لا أود أن أفارقك، هل حدث مني مكروه؟ _نحن مسيرون ولسنا مخيرون، الأرض والبيوت والأموال لك نصفها ولي نصفها، ولك الزوجة وولد، ولي الولد الآخر ونصف البنت، ولك نصفها الآخر. _ماذا؟ نصفها كيف؟ _سأقسمها بسيفي. _هل جننت؟ كيف يهون عليك وأنت تتقي الله وتقيم الليل أن تشطر طفلة لا تتجاوز العامين؟ _لا تخلف وعدك لأحد، فنقض العهود ليس من شيم الرجال، لقد اتفقنا على القسمة، وأمسك البنت والولد وحمل السيف وصعد الجبل، وسط بكاء وصراخ أمهما الملكة، ظل يض*ب البنت بالسيف كما فعل بأمها قبل خمسة أعوام حتى طهرها من الأفاعي والثعابين، وعاد إلى والدها قائلاً: أنت وأسرتك في أمان إلى يوم القيامة، لا أريد مالا ولا أرضا كل شيء لك، إن الله يعطي الخير لمن يستر مسلماً فكيف بمن يستر سوءة أخيه، والله لقد ظلت الملائكة تكتب لك حسنات أظنهم لم يتوقفوا بعد عن كتابتها، افعل الخير ولا تجعل الشيطان يخيفك من الفقر، وداعاً، ثم تبخر العبد كأنه لم يكن موجوداً، اصطحب يوسف زوجته وأبنائه وعاد إلى أهله، الذين احتضنوه بشوق، عندما قص الأمر على أمه، حمدت الله كثيرا، الذي أكرمها بتربيته على القرب من الله وقيام الليل، ورددت: الصدقة تحلق بصاحبها في سماء الخير والنعيم وهو لا يدري.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD