(1) أمراض صامتة

1575 Words
تشرق شمس مايو معلنة عن بداية يومًا جديدًا على أرض المحروسة، تتلقف أشعتها وجوه تباينت الوان بشرتها بين جميع الدرجات، مختلفة الملامح حد التشابه التام، حتى أنك تتفاجأ بكمية التضاد في المعاني المتعارف عليها فى الوصف، هل ترى تلك الصغيرة المتشبثة بذراع والدتها وسط الجموع وهى تحاول باستماتة أن لا تنفصل عنها؟ هل لاحظت هذه العجوز وهي تجر عصاها تتعكز عليها جوار أقدامها وظلها يسبقها كفتاة رشيقة لم يأكل عليها الدهر ويشرب؟ ماذا عن هذا الشاب الذي يحمل على ظهره مسطرة حرف (T)؟ يبدو أن موسم الأختبارات قد بدأ، اسمعك تدعو له بالنجاح؛ هل أنت متأكد أنه يستحقه؟! عذرًا عزيزي القارئ لقد أخذتني الحماسة في بداية روايتي، وهذا من المفترض ألا يص*ر عن روائي مثلي، كان يجب على منذ البدء أن اصف لك الأماكن وأوضح لك لما سبب هذا الازدحام، هو مشهد ناقص الوصف أليس كذلك؟ ولكن مازال معنا كل الوقت لأضعك في الصورة كاملة، بل أعدك أن تكون جزء منها، لكن يجب أن تحرص على أن تكون الجزء الخفي، عين ثالثة تتابع الأحداث بصمت، ترى بعين العقل المشاهد، تحللها وتشرِحها محاولًأ فهم ما بين سطور الحياة، وإن كان عليك الاعتراض على ما لا يعجبك من النتائج التي توصلت لها بنفسك فليكن اعتراضك صامت بلا صوت، وإن غرك ما توصلت إليه فلتفرح في هدوء، إلم أقل من قبل لك أن لا مجال هنا سوى للاندهاش؟! لنعد لتلك اللحظة ونصف المكان. محطة مترو في تلك المنطقة الشعبية التي ينتمي معظم سكانها للطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة بقليل فى سلام نسبي، لا يقطعه سوى بعض المناوشات بين الباعة الجائلين احيانًا، أو مشا**ات بعض الأطفال يلعبون في الشوارع، وبعض الازدحام المروري في ساعات الذروة يعكر مزاج المارين قليلًأ، فى ماعدا ذلك لا يوجد إلا السلام وتلك المبادئ التي تربى عليها كل من نشأ هنا. الوقت كما ذكرت لك سابقًا الصباح الباكر، في تمام السادسة صباحًا بتوقيت القاهرة، ميعاد التوجه إلى المدارس والجامعات والأشغال فى عموم المحروسة، وهو ما يؤدي إلى ذلك الازدحام، لنعد لتلك الفتاة المراهقة التي تخطو أولى خطواتها لسن الشباب بزيها المدرسي المكون من قميص أبيض وتنورة رمادية اللون، لا يزينها إلا **رات صغيرة في مقدمتها تضيف عليها وسع حتى لا تلتصق وتظهر جسدها، انتعلت حذاء أ**د لامع وجوارب بيضاء، حملت على ظهرها حقيبة جلدية بنفس لون الحذاء، وقفت بجانب والدتها فى أستعداد على رصيف محطة المترو، تتشبث يد سهام الغضة بيد فاطمة أمها خوفًا من الافتراق بين الجموع أو السقوط سهوًا تحت عجلات المترو، أو على أضعف تقدير أن تدلف أحدهما وتبقى الأخرى على الرصيف، مشهد مألوف جدا في فترة التسعينات من القرن العشرين. انسابت خطواتهما داخل عربة المترو دون إرادة منها أو من الحشد، التدافع هنا لا يمنح لك أى حرية في اتخاذ قرار الرجوع، حدثت ريهان نفسها:أن ما هى إلا دقائق واترك هذا الضيق إلى الرحابة حيث الهواء الطلق." لتأخذ طريقها المعتاد إلى مدرستها العتيقة ذات الصيت الطيب والتى مثلت لها مرحلة جديدة فى حياتها، انتقلت فيها من مرحلة الطفولة والاعتماد على الآخرين إلى مرحلة المراهقة والنضج والاعتماد على النفس ولو بشكل جزئي، فهاهى بعد قليل ستقطع الطريق وحدها بدون قيد يمسكها من يدها ليوصلها حتى بوابة المدرسة، تتخلص من يد أمها وتبدأ رحلتها لمدرستها عبر مركب صغير يعبر بها الفرع الصغير من النيل من ضفة إلى الضفه المقابله، رحلة نيلية يومية تتمتع بها، يلفت نظرها دومًا تلك النخلة العتيقة المائلة فى حنو تعانق أمواج النيل كانها تتلمس منه الحياة أو تمنحه قبلة طويلة لا تنتهي، أسراب الطيور الواقفة على أحجار الضفاف المدثرة باللون الأخضر للطحالب وهي تشرب الماء فى نهم وسرور، لفت انتباها أطفال صغار يبكرون بكرة العصافير يلهون بالماء فى سعادة على الرغم من برودة هذا الفصل من العام، الرحلة مكررة ولكنها لا تمل منها ابدا، لم تكن تحلم بها يوماً، تحب الصباح لأنها ستذهب إلى المدرسة ولا يعكر صفوها إلا مرحلة المترو البغضية بالنسبة لها والتى لا مهرب منها، صبرت نفسها بأنها ستعتاد عليها بعد فترة من الوقت، وأخيرا وصلت غايتها المنشودة، ترجلت من الباب تركت يد أمها فى عجالة، هرولت بمجرد أن لمسا قدميها رصيف المحطة، يطاردها صوت أمها وهي تتلو عليها تعليمات حفظتها عن ظهر قلب، أن تنتبه للطريق وألا تشرد وهى تقطعه، ردت فى طاعة: متقلقيش يا ماما. انغلق الباب، اؤمت إلى أمها مودعة منطلقة فى طريقها، قطعت الطريق فى سرعة وثبات، مسحت عيونها الشوارع والأزقة في انبهار مشوب بالسعادة حتى أنها تكاد تداعب كل ما تقع عليه عيناها من أرواح السبيل، وصلت إلى وجهتها ودلفت من البوابة الضخمة المعلق فوقها اسم المدرسة العريقة، دق الجرس تردد رنينه القوي معلنًا بداية اليوم الدراسي، هرولت ريهان تقف فى مكانها المعتاد فى الطابور المدرسي لتمارس مع زميلاتها طقوس الصباح المدرسية، تدريبات رياضية خفيفة لتنشيط الدورة الدموية، يليها الإستماع للإذاعة المدرسية وفقراتها التي تبدأ دائما بالقرآن الكريم يليه حديث نبوي شريف ثم النشرة المدرسية الصباحية وحكمة اليوم، تعودت على الالتزام والطاعة لذلك تجدها دائمًا من الصامتين، أو كزهور الحائط كما يطلق على تلك النوعية من البشر التى ترى و تسمع و تنفذ ولا تتفاعل إلا مع الأحداث الجلل، تصعد مع الطابور إلى الفصل، تجلس بجانب صديقتها أو لنعطي الأمور مساميتها الحقيقة السليمة، شيرين ليست إلا رفيقة مدرسة تنقطع علاقتهما بمجرد الخروج من البوابة الضخمة كما نبهت عليها والدتها، تقضى يومها الدراسي بين إنصات وتعلم ومحاولة فهم لتجرى الساعات معلنة عن وقت الرحيل إلى المنزل، تقطع نفس الرحلة عائدة، لكن هذه المرة لا يحركها الحماس ولا تلك المشاهد الصباحية التي أسرت لبها، يحثها الإرهاق والتعب، تحدث نفسها أنه يجب عليها الاسراع قبل وصول اخواتها الصغار للبيت، هناك ما ينتظرها من المهام المنزلية قبل عودتهم وبعدها وحتى عودة والدتها إلى المنزل فى تمام الرابعة والنصف عصرًا، تشارك ريهان فاطمة في مهام تنظيف وترتيب المنزل والمساعدة في أستكمال وجبه الغداء، تصل وتطرق الباب منتظرة أن تفتح لها جدتها المريضة، مجرد طرقات خفيفة متقطعة حتى لا تقلق تلك العجوز، وتبقى واقفة دون ملل تترقب حتى تأتى جدتها على مهل، تفتح الباب فى وهن وبشاشه مرحبه بها، تسألها فى فضول يحركه الحب والأهتمام عن مسار يومها، ترد فى مودة وحنو ساردة لجدتها عزيزة كل ماحدث لها بالتفاصيل وهى تمسح بعينها ملامح الجدة المحببه وكأنها تطمئن على المسارات التي حفرها الزمن على وجهها وظهرت للعيان فى شكل تجاعيد اضفت على هذا الوجه الحنون مزيد من الخبرة والعمق، وعلى تلك اليدين الكثير من شراين الحياة النافرة فى شدة وعلى ذلك الجسد الواهن من المرض الكثير، والكثير من القوة المستترة في جلباب هادئ الألوان يوحي لمن يراه أنه جلباب عذراء حالمة لولا أنه فقط لا يتبع موضات زمنهم، لطالما كانت جدتها مثال للقوة من وجهة نظرها، لا تذكر على وجه التحديد كم مرة حاولت تخيل جدتها وهي لا تزال شابة، تعتقد ان تلك العجوز كانت فى ريعان شبابها فائقة الجمال والقوة يوحى بذلك لونها الخمري ولون عينيها المائل للرمادي الفاتح والذي زادت منه سنون عمرها، شعرها الناعم المعقوص في ضفيرتين من اللون الفضي اللامع على الرغم من تدهور صحتها وهو ما اعطى لريهان الفرصة دائما لتمشيطه لها وهو ما يسبب سعادة لهما،دائما ما تحاول جدتها مساعدتها على القدر الذي تسمح به صحتها المتدهورة،تشعر بالإرهاق سريعًا، تمنعها أنفاسها المتقطعة لتأخذ بيدها ريهان عارضة عليها الراحة سائلة إياها ونس الحديث فقط. طرقات خفيفة على الباب معلنة وصول الأشقاء من مدارسهم، مرحلة جديدة وعمل جديد، تطمئن أنهم غيروا ملابسهم والتي يجب ان تضعها سريعًا قبل وصول الأم فى غسالة الملابس حتى لا تتم معاقبتهم على ما فعلوه بها أثناء لعبهم أو تناولهم طعامهم في المدرسة، امتلأت ملابسهما بالبقع غير معلومة المص*ر وهو دأب الطفولة الدائم، لا يخلو الجو بين الصغيرين من المناوشات، هذا أخذ قلمي، وهذه استولت على ممحاتي، تصرخ ريما أختها الصغيرة: سامر مش راضي يديني البراية يا ريهان. يضع سامرالمبرأة في جيب بيجامته ويقول وهو يخرج لسانه: مش هديها حاجه ريما قطعت كراستي يا ياريهان. شجار لا يتوقف وعليها الفصل بين القوات والحفاظ على هدوء البيت من أجل جدتهم المريضة، وارغامهم على التعايش السلمي والتعاون بأي طريقة حتى ينتهيا من واجباتهما المدرسية ويحين موعد النوم. حياة أسرية فى بيت متوسط المساحة ينقسم إلى غرفتين نوم وصالون ومطبخ وحمام يلف حوائط المنزل اللون الابيض المشرب باللون البني الخفيف فى نعومة تتناسب مع لون الأساس المفروش فيه، ت**و الأرضيات سجاجيد عربية الطراز تتماشى مع لوحات كلاسيكية بسيطة مقلدة ولكن ببراعة، مما اعطى المنزل طابع كلاسيكي بسيط ولكن محبب، برعت فاطمة فى تحويله الى منزل منمق وبتكلفة بسيطة هو ما تناسب جدا مع هذا الدفء الذي يشع من الجدة، لكنها حياة روتينية مملة كما تصفها ريهان، لا ي**ر هذا الملل إلا اتصال الأب من خارج مصر، حيث يعمل فؤاد في إحدى دول الخليج، لم يتخلف الرجل عن ركب الغربة وطوفانه الذي انتشر في تلك الحقبة، طمعاً في توفير حياة كريمة لأسرته، كان اتصاله يأتي كنسمة باردة في يوم قائظ الحرارة، ليعطى الأبناء وسهام على الخصوص جرعة جديدة من الصبر على الفراق مع وعود بكل ما هو ممنوع فى غيابه عند الحضور، الكثير من الخروجات والتسوق وسينمات ومسارح، وتلبية أحلام الصغار البسيطة من الذهاب إلى مصيف أو ملابس جديدة و***ب يلهون بها، قشة يتعلقون بها في يم الفراق والحرمان من وجود الأب الذي لا قاع له، أو الم**ر الذي يحقنون به أنفسهم من جرعات الأمل، ينتهي الحديث على وعد بالاتصال فى أقرب فرصة ومع الكثير من التوصيات للأم والأبناء وسلامات ودعوات لحماته بالشفاء والبركة فى العمر، التي بعد كل مكالمة يصيبها الشرود في مقتل، تطل من عينيها نظرة عسيرة التفسير، لا نستطيع الجزم أهي خوف على وحيدتها وأطفالها من العالم الخارجي؟ أم هي نظرة إحساس بالعجز والخوف من القادم بدون وجودها خاصة بعد أن صارت صحتها في تدهور ملحوظ؟ تلحظ العجوز نظرات الحرمان في عيني ابنتها وفي رعشة شفاهها، يزداد إِضْطِراب قلبها على وحيدتها. تنقضي الأيام بنفس الوتيرة لا يقطع صفوها المشوب بالانتظار إلا القلق المتقطع مع كل وعكة صحية تهاجم جسد عزيزة الواهن، بعد تشخيص مرضها بسرطان الثدى من خمس سنوات، ورغم أنها الاستئصال الكلى لكلا الثديين واكمالها العلاج الإشعاعي إلا أن إرادة الله فوق العلم والطب اللذان لم يستطيعا وقف زحف المرض الخبيث الى رئتيها، وكما شارك فؤاد أهل الحي في شلال الغربة الهادر، شاركتهم عزيزة في اعصار القاتل الصامت المسمي بالسرطان.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD