عادوا إلى المنزل في صمتٍ ثقيل، كل خطوةٍ كانت تُذكّرهم بالفراغ الذي تركه غانغ-هو. الأم -مي سون- كانت تسير وكأنها شبح، عيناها لا تبدوان مدركتين لما حولها. أما داي-هيون الصغير، فكان يمسك بيد أخته بقوة، كأنه يخشى أن تختفي هي الأخرى.
جلسوا في الغرفة الوحيدة الباقية لهم، حيث لم يعد هناك أثاثٌ سوى فراشٍ بالٍ وطاولةٍ مهترئة. إيرين نظرت إلى أمها، فتحت فمها كي تتحدث... ثم أغلقتها من جديد. ما الفائدة من إخبارها؟ ألم تكفها المأساة؟ راحت تطحن أفكارها في رأسها، بينما كانت يدها الصغيرة تداعب ظهر أخيها النائم.
مرت الأيام وكأنها سنين. الجيران الطيبون كانوا يأتون بالطعام، يطرقون الباب بخجل ويتركون الأطباق على العتبة قبل أن يغادروا. إيرين كانت ترفض المساعدة في البداية، ترمي نظرةً حادةً لكل من يحاول التعاطف معهم... لكن الجوع كان أقوى من كبريائها.
وفي أحد الأيام، بينما كانت الأم تحاول إشعال نارٍ ضعيفة لطبخ الأرز القليل المتبقي، سمعوا دقّاتٍ قوية على الباب.
فتحت إيرين الباب لترجل عاملٌ يرتدي بزةً رسمية، يحمل أوراقًا في يده.
"قرار إخلاء"، قال الرجل بلهجةٍ جافة. "لد*كم 48 ساعة لمغادرة العقار."
صمتٌ قصير... ثم انفجرت إيرين:
"ماذا تقول؟! هذا منزلنا! من أعطاك الحق؟!"
العامل لم يرفع عينيه عن الأوراق. "أمرٌ قانوني. هناك ديونٌ متراكمة والعقار أصبح تحت تصرف الدولة."
"ومن وراء هذا؟" صرخت إيرين وهي تقبض على يده بقوة. "من الذي يريد طردنا؟!"
لكن الرجل لم يجب. فقط هزّ رأسه وهو يحرر يده من قبضتها. "هذه الأوامر تأتي من فوق. ابحثوا عن مكانٍ آخر."
أغلق الباب خلفه، تاركًا إيرين واقفةً في منتصف الغرفة، يداها ترتجفان من الغضب. أمها بدأت تبكي بصمتٍ في الزاوية، بينما داي-هيون نظر إليها بسؤالٍ صامت في عينيه:
"إلى أين سنذهب الآن؟"
في زاوية المنزل التي كانت يومًا ما دافئة، كانت إيرين تقف، يدها ترتجف وهي تحزم الأغراض البسيطة المتبقية. تلك الأغراض، التي كانت تملأ حياتهم ذات يوم بالذكريات، أصبحت الآن مجرد قطع قديمة، وكل واحدة منها تذكرها بحياةٍ انتهت، أو على الأقل تغيّرت إلى الأبد. كانت تشعر بغضبٍ هائل يتسرّب من أعماقها، لكنه كان يلتهمها من الداخل، ولا تستطيع التعبير عنه.
في الغرفة المجاورة، كانت مي-سون جالسة على الأرض، يمسك بها الماضي. صورة زوجها الباهتة بين يديها كانت تختزل حزنها. وكلما نظرت إليها، تساقطت دموعها على الزجاج المتشقق بلا توقف، كما لو أن الزمن نفسه قد تحطم معها.
"أمي، يجب أن نتحرك"، همست إيرين، محاولةً إخفاء ارتعاش صوتها، لكن مي-سون لم ترد، فقط هزت رأسها بحركة خفيفة، وكأنها غارقة في غيبوبة عميقة.
في ذلك الوقت، كان داي-هيون، الذي لم يتجاوز العاشرة، يحمل دميته الوحيدة، دبًا قديمًا، يهزّه في يده الصغيرة. عيناه المملوءتان بالدموع كانتا تنظران إلى إيرين بتساؤل بريء، مليء بالقلق والخوف: "لن نعود أبدًا؟"
إيرين، بعيونها المليئة بالحزن، التقطت أخاها الصغير وضمّته بين ذراعيها بحنانٍ ي**وه التردد. "سنجد مكانًا أفضل، مكانًا به نوافذ كبيرة وأشعة شمس"، كذبت عليه بابتسامةٍ مرتجفة تحاول أن تبدو مطمئنة، بينما في أعماقها كانت تعرف أن ما وعدت به لا يعدو كونه حلمًا بعيد المنال.
في سوق الخردة القريب، حيث كانت أصوات الباعة تتناغم مع الرياح الباردة، وقفت إيرين أمام تاجر سمين، عيناه ضيقتان كما لو أنه يبيع أرواح الناس.
"خمسمائة وون فقط لكل هذه الأغراض؟" صرخت، محاولةً منع نفسها من الانفجار، بينما كانت تشير إلى كومة الأواني والملابس التي كانت يومًا ما تحمل ذكريات من حياة سعيدة.
لكن التاجر لم يبدِ اهتمامًا، بل نظر إليها ببرود قائلاً: "خذيها أو اتركيها، أيتها الفتاة. لا أحد يشتري خردة الفقراء بسعر أعلى."
كانت كلماته تشعل النار في قلبها، لكنها أخذت النقود القليلة وكأنها تمسك جمراً، ودفعتها في حقيبتها بشعور من الإهانة، لكنها لم تبكِ. لم يعد للبكاء مكان هنا؛ فالبكاء لا يُطعم أخاها الجائع.
في اليوم الموعود، وقفوا أمام المنزل للمرة الأخيرة. كان الجيران يتجمعون حولهم، يعرضون المساعدة، لكن إيرين، التي كانت تحمل على عاتقها أكثر مما ينبغي، هزت رأسها بحزم. "شكرًا لكم، لكننا سنكون بخير." كانت كبرياؤها أكبر من أن تقبل الصدقة.
بينما كانوا يسيرون في الشوارع المظلمة، كانت كل خطوة تزداد ثقلاً. داي-هيون كان يمسك يد أمه الضعيفة، بينما إيرين تتقدمهم، عيناها الحائرتان تبحثان في الزوايا عن أي ملجأ يمكن أن يحتويهم.
حتى تحت الجسر الأسمنتي العملاق، حيث كانت قطرات الماء الباردة تتساقط من السقف. هناك، بين أكوام القمامة، وجدوا زاويتهم المظلمة. انزلقت مي-سون على الأرض وكأن عظامها قد تحطمت، بينما كان داي-هيون يبكي بصمت.
إيرين، التي تحاول أن تكون قوية لأجلهم، مدت البطانية الرثة على الأرض الرطبة وقالت بصوتٍ أجش: "سنكون بأمان هنا... على الأقل الليلة." لكن في الظلام، لم يروها تبكي. تلك المرة، كانت الدموع قد سالت على خديها لأول مرة منذ وفاة أبيها.
وفي ذات الوقت، في المبنى الزجاجي الفاخر في وسط المدينة، كان دايسيك يوقع على الأوراق الأخيرة لاستكمال عملية الاستيلاء على العقار. كان الضوء الذهبي ينع** على خاتمه الماسي بينما يخط القلم ببرود.
"هل العائلة... وجدت مكانًا؟" سأل كوان فجأة، وهو يقف بجانب النافذة، ظهره موجّهًا نحو دايسيك.
توقف دايسيك عن الكتابة للحظة، ثم ضحك ضحكة قصيرة. "بالطبع، لقد دفعنا لهم تعويضًا سخيًا."
لكن كوان لم يكن مقتنعًا. التفت ببطء، وعيناه الضيقتان تراقبانه. "تعويضًا؟ حقًا؟"
ضحك دايسيك وقال بتعالٍ: "هل تشك في كلامي؟" كانت ابتسامته فارغة، لا تصل إلى عينيه.
كوان، الذي كان يشك في كل شيء، صمت لفترة طويلة قبل أن يعود ويطفئ سيجارته ببطء، وعيناه تنظران إلى المدينة البعيدة. ربما كان هناك شيء ما يدور في ذهنه، شيء أكثر تعقيدًا من مجرد الصفقة التي أبرموها.
مرت الأيام كأنها سنوات طويلة، لا تنتهي ولا ترحم. البرد القارس كان يتسلل إلى عظامهم، يسكن داخل صدورهم ويجعل أنفاسهم ثقيلة، وهم ينامون تحت ذلك الجسر الخرساني الذي صار مأواهم الوحيد. القطط الضالة كانت تمر من حولهم بلا اكتراث، تشاركهم الفتات والبرد، وكأنها جزء من هذا العالم المنسي.
إيرين، لم تعد تعرف طعم النوم الدافئ ولا صوت الضحك. كل صباح تستيقظ قبل شروق الشمس، تغسل وجهها بماء بارد من زجاجة مهترئة، وتخرج بيديها المتشققتين من البرد والعمل الشاق، متوجهة إلى أحد المطاعم الرخيصة في زقاق خلفي، حيث تقف لساعات تغسل الصحون المتسخة وسط صراخ الطهاة وروائح الزيوت المحترقة. تعود في المساء بجيبٍ لا يحمل سوى القليل من العملات المعدنية، تكاد لا تكفي لشراء رغيف ونصف وقليل من الأرز.
أما والدتها، مي-سون، فكانت تتضاءل يومًا بعد يوم، كأن الحياة تُسحب منها بخفة. عيناها الغائرتان فقدتا بريق الأمل، وجلست أغلب الوقت ساكنة، تحدق في الفراغ بصمت مُنهك.
داي-هيون، الطفل الصغير ذو الست سنوات، لم يعد يبكي كما في السابق. بل كان ينظر بعينين واسعتين، وكأنه شاهد من العالم ما يكفي ليكبر قبل أوانه. صمته أصبح جزءًا من المكان، مثل رائحة الرطوبة وماء المطر المتسرب من الأعلى.
في مساء شتوي، بينما كانت إيرين تحاول تسخين قليل من الماء على نار خافتة لتصنع حساء خفيفًا، أخرجت مي-سون شيئًا من حقيبتها القديمة، حقيبة جلدية فقدت لونها الأصلي منذ زمن.
كان الظرف ممزقًا، مغبرًا، وفي داخله مبلغ ضئيل من المال. نظرت الأم إلى ابنتها وقالت بصوت خافت بالكاد يُسمع:
"جمعت هذا من ما تبقى… ربما… ربما يمكننا الذهاب إلى بيت عائلة والدك… في الريف".
إيرين نظرت إليها بدهشة مشوبة بالاستنكار.
"ألم تقولي إنهم قطعوا كل صلة بك بعد زواجك؟"
مي-سون تن*دت، والدموع تلمع في عينيها:
"صحيح… لكنهم عائلته. دمه يجري في عروق داي-هيون… لا يمكنهم تجاهلنا".
في اليوم التالي، ركبوا قطارًا قديمًا تنبعث من نوافذه رائحة الصدأ، وتلتصق المقاعد الخشبية بأجسادهم من البرد والرطوبة. إيرين جلست بجانب النافذة، تراقب العالم وهو يتغير من الشوارع المتسخة إلى مساحات خضراء واسعة، وكأن الحياة تحملهم من الجحيم إلى الحلم.
لكن الحلم سرعان ما تبخر عندما فتح باب المنزل الريفي، وظهرت الجدة ، امرأة نحيلة بقامة منحنية، تحمل في ملامحها قسوة سنين طويلة.
"ما الذي جاء بكم إلى هنا؟!" صرخت بصوت مرتجف لكن قاس، رائحة الثوم تتسرب من أنفاسها. "أبعدتم ابني عني، شوهتم سمعته، وجعلتموه ينتحر من العار!"
مي-سون انحنت على ركبتيها:
"أرجوكِ… نحن نحتاج للمساعدة… نحن عائلتك".
لكن العجوز بصقت على الأرض، نظرتها مليئة بالاحتقار:
"اذهبوا قبل أن أجعل أهل القرية يطردونكم!"
تلك اللحظة، شيء عميق ان**ر في إيرين. انفجرت في وجه العجوز، الغضب يشتعل في عينيها كشرارة تحرق كل ما يمر بها.
"أنتِ السبب! مثلكم من قتل أبي… ومن قتل كرامتنا!"
صمت غريب خيّم على المكان. حتى الجدة توقفت لبرهة، ثم أشارت بيد مرتجفة نحو الباب.
"اخرجوا فورًا!"
عادوا إلى المدينة وهم يحملون خيبتهم، بجيوب فارغة وقلوب مثقلة بالخذلان. لم يكن هناك سوى ذلك الجسر القذر ليستقبلهم من جديد.
عندما وصلوا، انهارت مي-سون على الأرض، ذراعاها تحتضنان جسدها النحيل وهي تبكي بصمت. داي-هيون وضع رأسه على حجر، محتضنًا دميته المهترئة، واستسلم للنوم.
إيرين جلست في الظلام، نظراتها مسمرة في الفراغ، وأصابعها تطبق على حجر حاد. تخيلت للحظة أنه مغروس في قلب دايسيك… الرجل الذي دمر حياتهم.
في الجهة الأخرى من المدينة، وفي قصر ضخم مطل على بحيرة هادئة، كان دايسيك يجلس متربعًا على مائدة عشاء فاخرة. الصحون الذهبية تلمع تحت ضوء الشموع، والخدم يتحركون بدقة وأناقة كأنهم يؤدون رقصة صامتة.
"المشروع الجديد سينقلنا إلى القمة"، قال وهو يرفع كأس النبيذ.
ابنه، دونيون، صرخ بحماسة:
"سأتولى مسؤولية قسم الإبداع! سأثبت لك أنني جدير بثقتك".
أما كوان، الذي كان يجلس بعيدًا، فقد ظل صامتًا، يراقب بشفاه مضمومة وعينين غامضتين.
شيناي، زوجة دايسيك، لاحظت ذلك وسألته بنعومة:
"كوان، ألا تشاركنا هذا النجاح؟ تبدو… شاردًا".
ابتسم دايسيك وربت على كتف كوان:
"هو دائمًا كذلك… لكنه أذكى من أن يتحدث كثيرًا. أنت مثل ابني، يا كوان".
كوان رفع رأسه أخيرًا، وعيناه تلمعان بسكون غريب.
"نعم… كل شيء يسير كما يجب"، قال بهدوء، لكن يده تحت المائدة كانت تقبض على سكين الطاولة… وكأنه يستعد لشيء أكبر بكثير من عشاء عائلي.
في تلك الليلة، تحت الجسر، رفعت إيرين الحجر بين يديها، ثم ألقته بعيدًا في النهر.
"الدم لن يكفي"، تمتمت بصوت أجش.
كان الليل يبتلع المدينة، بينما خططت إيرين لانتقام لا يشبه شيئًا آخر. انتقام لا دماء فيه… بل إذلال بطيء، وانتصار على كل من ظن أنها لن تقوم من جديد.
وفي الوقت نفسه، كان كوان يقف عند نافذة القصر، يحدق في الأفق البعيد…، وكأن قلبه يشعر بأن هناك روحًا تشبهه… تنتظر اللقاء.