الكابوس
مقدمة
ليست هذه الحكاية عن نفقٍ تحت الأرض فحسب…
بل عن الأنفاق التي نحفرها في أرواحنا بين الحقيقة وال**ت، بين الخوف والأمل، بين ما يُقال وما يُخفى.
هنا، في ظلمةٍ اختلط فيها الدم بالتراب، وصرخات الموت بالهمس الإنساني، وُلدت شهادة لا يمكن دفنها.
شهادة عن بشر التقاهم القدر في أضيق مكان، فصاروا مرآةً لما خفي من وجع وحقيقة.
هذه الرواية ليست لتروي حدثًا فقط… بل لتمنح صوتًا لمن رحلوا، وتترك صدىً في قلوب من بقوا.
لم يكن الليل في فلوريدا أرحم من ليل النفق.
رغم السماء الهادئة ورائحة البحر المالح التي تتسرب من نافذته، كان دانيال يستيقظ كل ليلة غارقًا في عرق بارد، قلبه يض*ب ص*ره كطبل الحرب.
في حلمه، كان يرى الظلام نفسه… جدران ترابية تضيق حوله… أصوات أنفاس مكتومة… ثم ذلك الصوت الذي صار يطارده كظل لا يزول:
– "دانيال… دانيال…"
كان صوت يوسف.
ليس كعدو، ولا كحارس… بل كنداء أبوي، كأنه يطلب منه ألا يتركه هناك.
فتح دانيال عينيه في الظلام، يلهث كمن خرج من تحت الركام.
مد يده إلى الطاولة الصغيرة بجانب سريره، حيث وُضع الدفتر البالي.
دفتر يوسف.
فتحه بارتعاش، وقلب صفحاته، فوجد صورة الطفلة التي تحمل ابتسامة عفوية وسط خراب الحرب.
أطبق عينيه من جديد.
لم يكن يوسف يفارقه، لا في النوم ولا في اليقظة.
وعاد عقله، رغماً عنه، إلى تلك اللحظة الأولى…
إلى اليوم الذي وجد نفسه فيه في بطن النفق، أسيرًا، يجهل ما ينتظره.
بدأت الذكريات تتدفق:
أيدي مقيدة، قماش أ**د فوق عينيه، خطوات متسارعة تدفعه في الممرات.
ثم إزاحة القماش عن وجهه، ليجد نفسه في ظلام معتم.
حوله ثلاثة وجوه لا يعرفها، مثل ظلال متوترة.
والمكان رطب، ضيق، كأن الأرض ابتلعتهم.
في تلك اللحظة، دخل يوسف للمرة الأولى.
لم يكن يعرف اسمه آنذاك، لكنه تذكر نظرة عينيه: قاسية، غاضبة، كأن وجوده هناك إهانة شخصية له.
سمع دانيال كلماته بالعربية – لم يفهمها كلها، لكنه التقط نبرتها: رفض. غضب. امتعاض.
يوسف لم يقترب منه إلا ليضع أمامه قنينة ماء وقطعة خبز.
جلس بعيدًا في الركن، كجدار من ال**ت.
وكانت تلك بداية شهر كامل من ال**ت المرهق، حيث لم يكن يسمع سوى صوت أنفاسهما يتردد في النفق.