(( الفصل الأول ))
/// عـام 1929 م
/// بـ إحـدي أحـيـاء مـحـافـظـة الـقـاهـرة
- هيا يا أمي تأخرنا !
هتفت بها تلك الشابة اليافعة بـ سخط و هي تركض في منزلها بحثًا عن والدتها ، طلت " خديجة " من إحدي الغرف و هي تنزل نقابها الأبيض ، رددت بنزق :
- حسنًا " زُبيدة " أنا هنا ، لكني لا أعلم ما الفائدة من ذلك !
أحتجت " زُبيدة " قائلة بحنق :
- أمي قد واشك شهر رمضان علي الإنتهاء و سيلحقه عيد الفطر و أنا لم أشتري ملابس العيد الجديدة حتي الآن .
وضعت " خديجة " يدها علي رأس إبنتها صائحة بلطف حتي تثنيها عن قرارها :
- لقد كبرتي يا " زُبيدة " و أصبح عمرك 18 عامًا و لستي بحاجة لتلك الأشياء حتي أنكِ حين تذهبين لمكان ما تقومي بإرتداء العباءة و النقاب ، فما فائدة هذه التراهات إذًا ؟ !
هتفت الأخري بأعين ضيقة :
- أطمئني يا حاجة " خديجة " سنذهب يعني أننا سنذهب و لن تثنيني تلك الكلمات عن رغبتي .
زفرت " خديجة " قائلة بتلكئ :
- إنني أتعب منكِ كثيرًا يا زُبيدة ، فـ أنتي حينما تذهبي لإنتقاء ملابس جديدة تتسببين بـ تورم ساقي من كثرة المشي !
ربتت علي كتفها مغمغه بمكر :
- لا تقلقي أماه لن يحدث هذا مطلقًا .
طالعتها والدتها بنصف عين ، هي لا تصدق تلك الصغيرة المشا**ة ذات الأعين بـ لون الذهب الخالص ، أسدلت " زُبيدة " نقابها ليغطي وجهها الخمري قائلة بتعجل :
- هيا أمي أسرعي قليلاً ستغلق الدكاكين بعد برهه.
ثم أنصرفت من أمام والدتها بسرعة تاركه إياه تض*ب كفاً فوق الآخر...
***
- و أخيرًا..!
قالت " خديجة " بـ لهاث و هي تجلس علي أحد المقاعد الخشبية ريثما تعطي إبنتها البائع ماله ، أبتسمت " زُبيدة " من تحت نقابها قائلة بمرح :
- شكراً لك عمي " إحسان " .
ناولها الأكياس الورقية ذات اللون البني الفاتح و هو يقول بضحكة صغيرة :
- منذ بداية الأسبوع لم تطئ قدمًا عتبة دكاني هذا و عندما جاءت كانت أنتي زُبيدة ، أنا أستبشر بكِ يا صغيرة.
إبتسمت بأستحياء من أسفل نقابها فور أن سمعت إطراء البائع " إحسان " كادت أن ترد لكن صوت أحدهم قاطعها و هو يقول :
- أين المال إحسان ، عليك دفع الضرائب الآن فقد تأخرت عن سدادها لمدة يوم كامل !
ألتفتوا له ليجدوه أحد جنود الإحتلال الذي يقوم بجمع الضرائب لتغمغم " زُبيدة " بـ إزدراء :
- لعنكم الله يا سارقين الأرض و المال .
أتسعت عينا " إحسان " و والدتها بصدمة ليقطب الجندي جبينه و هو يقول بخشونه :
- ماذا قُلتي ؟ !
صاحت بحنق :
- قلت ما سمعت أيها الغ*ي .
ردد " إحسان " بتوتر :
- دعك منها يا سيدي أنها مجرد فتاة صغيرة ، سأحضر لك المال علي الفور .
رفع الجندي كفه بوجه إحسان و هو يحدج
" زُبيدة " بنظرات قاتمة بينما الأخري كانت تطالعه بتحدي سافر ، أنتفضت " خديجة " من علي المقعد بـ توتر ، أقتربت من إبنتها قائلة بـ تلجلج :
- هيا إبنتي لقد تأخرنا علي أباكي و أخويكي .
صاح الجندي بصرامة :
- أنتظري عِندك ، هذه الفتاة لن تذهب إلي أي مكان سوا معي أنا..نحو القاعدة .
شهقت " خديجة " بجزع و هي تهز رأسها برفض ليقوم الجندي بجذب ذراع " زُبيدة " بغتة منها ، جرها خلفه وسط نواح أمها و صراخها و من ناحية أخري مقاومتها الشرسة له لكنه لا يأبه بها ، سوف يسلمها لـ الضابط المسئول عن القاعدة فقط و يصطفل الآخر معها ... !
***
///بـ الـقـاعدة الـخـاصـة بـ الـجـيـش الـإنـجـليـزي الـقـريـبـة مـن الـحـي
- ماذا نفعل سيدي بـ الفدائيين الذين تم القبض عليهم بـ مساء الأمس ؟
هتف أحد الضباط بـ نبرة رسمية لـ ذلك الجالس علي مقعد مكتبه بـ كل أريحيه يطالع الأوراق بـ تركيز شديد ، ثواني و رفع " سيڤ " حدقتيه الزرقاء القاتمة نحوه ، طالعه لبرهه ثم أعتدل مقتربًا من المكتب ، أرتكز بـ مرفقيه علي المكتب ثم أردف بـ تعقل :
- نكتفي الآن بـ حبسهم و عمل اللازم معهم ، فـ لو علم أحدهم أنهم تم إعدامهم ستثور ثائرتهم و يقومون بـ ثورة جديدة نحن في غني عنها .
إنزوي فم الضابط بـ إبتسامة واثقة و هو يؤدي التحية العسكرية هاتفًا بـ عنفوان :
- أوامرك سيدي .
أشار له " سيڤ " بـ الخروج لـ ينصرف الآخر بـ طاعة ، تن*د تنهيدة مطولة و هو يفرك جبينه بإنهاك ، كونه قائد لـ قاعدة كاملة تشرف علي ثلثي مدينة القاهرة أمر مُتعب للغاية ، مشاكل و مشاكل و مشاكل فوق رأسه لا تنتهي ، ثوارات هنا و مداهمات للقاعدة هناك و غارات من قبل الفدائيين من ناحية أخري ، المصريين لا يهدأون و لا يملون من المقاومة و المحاولة ، لا يريدون الإدراك بـ أن الإنجليز أصبحوا أمر واقع في بلادهم ، بـ أن مصر أصبحت مستعمرة تابعة للإنجليز مثلها و مثل الهند و باقي الدول..
عليه أن ي**د و يثابر حتي يحافظ علي منصبه المرموق الذي وصل له بـ شق الأنفس رغم أنها نادرة بأن يتولي ضابط لا يتعدي الثلاثون من عمره قيادة كتيبة بـ أكملها ، أصوات صراخ و تعنيف صاخبة في الخارج قطعت شروده لتجعله ينهض من علي مقعده قاطبًا الجبين بـ دهشة ، فـ هناك صوت أنثي ، أنثي مصرية .. هنا في القاعدة ؟ !
خطي بخطوات واسعة خارجًا من المبني المخصص له المكون من طابق واحد فقط يضم مكتبه و حجرته الخاصة بـ النوم ، توسعت عيناه بصدمة عندما وجد فتاة بـ الرداء الشائع في مصر للسيدات مُمسكة من قبل أحد جنوده بـ إحكام ، متجمع حولها عدد لا بئس منه من الجنود و الضباط ال**بثين الذين يتوقون لـ رفع تلك القماشة البيضاء التي تُثير فضولهم عن وجهها حتي يروا جمال المصريات التي يتغني به الشعراء ، ألتقطت أذنيه بعض الكلمات ال**بثة التي يلقونها بـ خبث علي تلك الشرسة التي تحاول الإفلات من قبضة الجندي صلب الملامح ، صاح بـ غضب :
- **تًا جميعًا !
ألتفتوا له متطلعين إليه بـ توتر ليضيق عيناه هاتفًا في الجندي الممسك بـ تلك الفتاة و هو يرفع وجهه لثانية مُشيرًا إليها :
- من هذه و ماذا فعلت ؟
ردد الجندي بـ صرامة :
- هذه فتاة صادفتها أثناء جمعي للضريبة ، أساءت إلينا سيدي بـ الكلمات .
نظر لها " سيڤ " بحدة متفحصًا إياها من رأسها لأخمص قدميها بـ نظرة تقيمية لكنه عند توقف تلك الأعين الذهبية الواثقة التي لم يسبق له أن يري مثلها حتي ممن هم من نفس جنسيته ، غريبة ، عجيبة ، أثارت فضوله تلك الأعين هي و و صاحبتها ذات الشجاعة النادرة ، هنا السيدات عندما يروهم فقط يتجولون في الشوارع يفروا هاربين من أمامهم خوفًا من إعتقالهم كما يفعلون مع الرجال ، لكن تلك **رت القاعدة بـحق..!
أشار للجندي مردفًا بـ ترفع و هو يستدير :
- هيا خلفي .
تبعه الجندي و هي معه ، أستقر علي مقعده مرة أخري مضجعًا عليه بـ أريحية ثم قال لـ الجندي بـ صرامة :
- تستطيع أن تعود لـ عملك الآن .
أومأ له بـ طاعة ثم أنصرف بعدما أدي التحية العسكرية بـ روتينية ، هتف بـ لغة عربية هادئة و هو يميل رأسه للجانب قليلًا :
- ما إسمك ؟
رغمًا عن صدمتها بأنه يجيد اللغة العربية بـ شكل مُتقن ليس كـ الإنجليز الآخرين لكنها أجابت بـ ثبات و هي ترفع ذقنها بـ ثقة :
- ليس من شأنك .
شبه ابتسامة ظهرت علي شفتيه الرفيعتين و هو يحك ذقنه المائلة للشقار قائلًا :
- يبدو أنكِ حادة الطباع و لد*كِ عزة نفس و كبرياء .
تبدلت ملامحه للعبوس في جزء من الثانية لـ يردف بـ عبوس و هو يض*ب بعنف علي مكتبه :
- لكن ليس معي أيتها الصغيرة ، هنا لو تطاولتي بـ الكلام ستُرسلين لـ الحبس و أنتِ مُكبلة ذليلة دون كرامتك أو كبرياءك .
أهتز فكها بتشنج ، لا تنكر أن ذلك الإنجليزي أستطاع أن يُدخل الرهبة لـ قلبها لكنها أدعت الثبات و عدم الخوف و هي تردف بـ عنفوان :
- أفعل ما تفعله لأنني لا أخاف .
ضيق عيناه بـ حدة و هو ينتصب واقفًا لـ تظهر قامته الفارعة و جسده الممشوق ، أقترب منها بـ خطوات كـ خطوات الفهد المتربص ، قبضت علي كفيها بقوة محاولة بث الثبات في نفسها الخائفة ، فـ هي تتوقع أي شئ من ذلك الإنجليزي اللعين الذي أغتصب أرضها .. وطنها
، شهقت فجأة بـ جزع عندما أنتزع نقابها من فوق وجهها بقوة و هو يطالعها بـ حنق لكنه ما لبث أن تصنم بـ ذهول رافعًا حاجبيه عندما رأي معالم وجهها كاملة .. وجه طويل بـ ذقن صغيرة مدببة ، بشرة خمرية ناعمة ، أنف صغير شامخ كـ صاحبته ، و عينيان واسعتان بـ لون الذهب الصافي تحيطهما رموش سوداء كثيفة بـ عناية ، و أخيرًا شفتان ورديتان مكتنزتين بحجم حبة التوت..
هتف بلا وعي و هو يتلمس وجنتيها :
- لم أكن أتوقع أنكِ بـ هذا الجمال يا فتاة !
صرخت بوجهه بلا هوادة ناطقة بـ غضب :
- كيف تجرؤ يا هذا ، صحيح أنكم بلا شرف و لا حياء .
صاح بغضب و هو يقترب منها أكثر حتي كاد أن يلتصق بها :
- ألزمي الأدب أيتها الصغيرة و إلا تصرفت معكِ تصرف لن يعجبك أبدًا .
برمت ثغرها مردفه بـ عناد :
- لا يهمني ماذا ستفعل ، لأنني و بـ كل بساطة لا أخاف .
أرتفع حاجبه بـ تحدي و هو يتنفس بـ غضب ، تلك الفتاة يجب و حتمًا أن ي**ر أنفها الشامخ ذاك حتي تعلم مع من تتكلم ، صرخ بـ صوت جهوري و هو مركز أنظاره عليها بـ قوة :
- لـنـديـرڤ .
سكون عم علي المكان بعد ندائه علي أحد جنوده لم يشقه سوي أنفاسهما الهادرة ، ثواني و جاء ذلك المدعو بـ " لنديرڤ " مؤديًا تحيته العسكرية و هو يردد بـ ثبات :
- نعم سيدي ؟
تشدق " سيڤ " و هو يحدج " زُبيدة " بـ عنجهيه :
- خذ تلك الفتاة إلي الحبس .. الآن .
رغم أنها لم تفهم كثير مما قاله لـ الجندي بسبب تحدثه معه بـ الإنجليزية لكنها أستنتجت من نظراته النارية أنه ينوي أن يرسلها لـ الحبس حيث يقومون بـ ت***ب المصريين الثائرين علي النظام بـ أشد أنواع العذاب ، أبتلعت ريقها بـ توجس تزامنًا مع إيماء الجندي بـ طاعة و هو يقترب منها جاذبًا إياها بـ عنف من ذراعها ، صرخت بـ حنق و هي تقاوم الجندي :
- هذا ما تُجيدونه الحبس و الت***ب ، لكنكم لا تعلمون أن ذلك العذاب الذي تسقطوه علي رؤوس المدافعين عن وطنهم و عرضهم سيُرد لكم أضعاف مُضعفة من عند الله يا ناهبين الأرض .
زجرها الجندي بـ عنف و هو يسحبها بـ شدة خارجًا من المكان ، تابعهما " سيڤ " بـ عينيه ناظرًا لأعقابهم بـ حدة ، تلوت شفتيه بـ إبتسامة عابثة و هو يغمغم قائلًا :
- لا مانع من العبث مع تلك الحادة قليلًا .. !
_ يُـتـبـع _