الجزء الأول (1)
في منزل مصري بسيط ومتواضع ينم عن الحالة الطبقية المتوسطة لأصحابه، تعيش "هيام" فهى فتاة جميلة ورقيقة هادئة نسبيًا الإ من بعض أضطرابات نفسية تجتاحها من وقت لآخر تجعلها تبدو وكأنها تعاني من حالة هذيان من يراها يظن أن شيطان مريد قد تلبسها لتبدو على وضعها ذلك، والسبب في ذلك وفاة والدها الذي كان يمثل لها العالم كله فهى انطوائية وبيتوتية ولا تحب الخروج من المنزل لأنها تعاني من رهاب الأماكن المفتوحة مع جهل من حولها بذلك المرض وجهلهم أنها تعاني منه، فكان والدها يحتويها بحبه وحنانه ومجالسته لها والتحدث معها كي لا يدعها في وحدتها التي باتت أقرب صديق لها خاصة بعد وفاة توأمتها والتي كان بينهما اتصال روحي بينهما فهما متطابقتان وكانتا لا تفترقان في صحوهما ولا في نومهما، وظل والدها يرعها ودعمها نفسيًا حتى تعلقت به بشكل كبير وبات هو الأقرب لها والوحيد الذي لا تخاف ولا تهاب رفقته، وظل الوضع هكذا حتى مرض والدها ورقد بالفراش لفترة مما جعل الام تنشغل بشدة بمسؤوليتها من أجل توفير لقمة العيش لأولاده فحالتهم كانت معدمة وأذدادت بعد مرض رب العائلة ثم وفاته، فأصبحت الأم تعمل وتكد بدون كلل ولا ملل حتى توفر لأولادها المال من أجل أطعامهم ودراستهم ومستلزمات الحياة الضرورية، وهنا في هذه الرواية ض*بت الأم المثال المتقن عن كل سيدة ترملت في شبابها وثابرت وكافحت من أجل أن توصل فلذات كبدها لبر الأمان كما عهدنا من قبل الألف الأمهات التي ترملن في سن صغيرة وهن يدورنا في فلك الحياة ويطحن تحت رحى المسؤلية، فأصبح ما يشغل الأم "زهيدة" هو وجود براد مليئ بالطعام ليسد رمق أطفالها فذلك هو الأمان بالنسبة لها وجهلت أن هناك أشياء أخرى وجب على كل عائل أسرة ملاحظتها والأسراع في مداوتها قبل أن يتفاقم وضعها ويصعب الأصلاح فيها بعد ذلك كما حدث مع أبنتها "هيام" التي أنعزلت عن كل شيء وصارت مثل الألة عند كبس زر الطاقة بها تعمل وعند فصله تصير مجرد قطعة جماد هكذا أصبحت تتلقى أوامر والدتها وتفعلها وهى صامتة وعند أنتهائها تجلس منزوية في غرفتها وكأن هناك وحش يطاردها وتتوارى منه بالجلوس معظم وقتها في فراشها، فكبرت" هيام" وكبر معها أضطرابها النفسي دون الأهتمام أو الالتفات لحالتها التي جعلت والدتها تقعدها في المنزل وتمنعها من أكمال الدراسة وهى لا حول لها ولا قوة، لم تفعل والدتها ذلك عن عمد بل لجهلها أن حالة أبنتها "هيام" تستدعي الذهاب لطبيب نفسي من أجل علاجها لمعرفة سبب ما أوصلها لتلك الحالة من العزلة، فهى سيدة بسيطة لم تذهب يومًا للمدرسة من أجل التعلم وفي عرف الوسط التي عاشت به من يذهب للطبيب النفسي يكون مجنون وتصبح سيرته علكة تلوكها الألسن و "هيام" فتاة أن علم أحد أنها تعاني من أمراض نفسية فلن يتقدم أحد لخطبتها وزواجها، لذا أصرت على أن أبنتها طبيعية لا تعاني من أي علة، وهكذا مرت ومضت الأيام وأصبحت "هيام" بسن مناسب للزواج فأسرعت "زهيدة" تعد العدة وتبتاع لها جهازها على مراحل من أجل أن تكون مثل أقرانها وجيرانا، وهيئتها لكي تعدها من أجل استقبال من جاء طالبًا قربها، لكن أبنها "هاشم" والذي يكبر "هيام" بأعوام قليلة تنبه لحالة شقيقته ولفت انتباه والدته لهذا اكثر من مرة فعنفته أشد تعنيف لأعتقدها أنه ينعت شقيقته بالجنون، لكنه لم ييأس وظل يحدث والدته بشأن شقيقته وحالتها التي كلما تقدم الوقت أزدادت سوءً ولكن لا حياة لمن تنادي، ووقف عاجزًا أمام جهل أكل معظم عقول البشر وجعلهم يعتقدون أن الطبيب النفسي هو طبيب فاقدي العقول فقط، وفي صباح أحد الأيام وهو يساعد والدته في إعداد طعام الإفطار أصر على التحدث معها مجددًا من أجل علاج شقيقته أولًا حتى تصير طبيعية مثل باقي الناس.
- هاشم : يا أمي عشان خاطري اسمعيني كويس وحاولي تفهميني عشان خاطر اختي، هيام كل مرة حالتها بتتأخر عن اليوم اللي قبله، دا غير أنه أثر على مستواها في الدراسة لغاية ما خلتيها سابت التعليم خالص وقعدت في البيت من خوفك عليها لحد يأذيها ومعرفش تدافع عن نفسها، عشان كدا أحنا لازم نعرضها على دكتور نفسي.
لطمت والدته على ص*رها وحدثته بحدة وعصبية مفرطة: يا بني حرام عليك بقى أنت عاوز مني أيه، مش هتبطل كلام في الموضوع ده ولا خلاص مبقاش قدامك غيره أرحمني أبوس إيدك، وبعدين افرض حد غريب سمعك هيدور يلف على الناس ويقول على اختك مجنونة، وساعتها هيتوقف حالها وتفضل كدا زي البيت الوقف، وانا مش ناقصه هم اسكت خليني استرها زي ما سترت أختك الكبيرة عشان الحمل ينزاح من على كتافي بقى وأرتاح انا تعبت قوي من بعد موت أبوك.
هاشم : يا أمي مجنونة ايه بس وكلام فاضي أيه دا هو كل واحدة أو واحد راح لدكتور نفسي يبقى مجنون ده تفكير مش صح وغير منطقي دا في ناس كتير بيروحوا للدكاترة النفسيين عشان عقدة عندهم وعايزين يخلصوا منها، وفي منهم رجال أعمال وممثلين ولعيبة كورة وناس مشهورة جدًا.
زهيدة بضيق : دول الناس هيخافوا يقولوا عليهم مجانين لأنهم أغنية ومشهورين، إنما احنا الناس من حولينا ما هيصدقوا ومش هيفهموا كلامك وهيقولوا مجنونة، عارف ليه لأن أحنا هنا معظمنا جهلة وده تفكيرنا والناس مش هيقولوا مجرد تعبانه نفسيا لا هيفضلوا يألفوا في قصص، وتبقى وقفت حال أختك وبعدين هو الدكتور النفسي ده مش عايز فلوس وأنت شايف معاش أبوك مبيكفيناش ولولا شغلي في مصنع البلاستيك الصبح والخياطة اخر النهار كنا شحتنا، أنا يدوب سترت أختك سعاد بالعافية، وبدعي ربنا يقدرني لغاية ما أخلص جهاز أختك واسترها هى كمان، سبني في حالي يابني الله يرضى عليك مش ناقصة هم على همي.
اشاح "هاشم" بيديه بعدما فاض به الكيل وعجز عن أقناع أمه: مش عارف يا أمي هنفضل خايفين من كلام الناس وسيبنها كدا لغاية أمتى، انا خايف عليها وخايف تعمل في نفسها حاجة دي على طول منطوية ومبتكلمش حد دا غير حالات العصبية اللي بتخليها تعيط وتهذي من غير وعي وتفضل تشد في شعرها وتقطع في هدومها، شوفي يا أمي أنا هتحمل تكاليف علاجها ومش هخليكي تدفي جنيه واحد من جيبك لأن أنا قررت أشتغل بعد الضهر بعد ما أخلص محاضراتي وأن شاء الله اللي هشتغل بيه هوديها بيه للدكتور عشان تبقى طبيعية زي اي بنت.
صرخت به زهيدة بنفاذ صبر : وديني يا هاشم لو مبطلتش كلام في الموضوع ده لكون سيب ليك البيت ومشية وابقى ساعتها اشتغل برحتك وودي أختك لدكتور مجانين وأفضحها وبالمرة أبقى اصرف على البيت كمان من جيبك يا سبع الرجال، انا بحذرك لأخر مرة تجيب سيرة الموضوع ده عشان متخسرنيش، يا أبني أفهمني أنت في كلية لازم تخلصها الأول عشان أرتاح من همك وتشيل عني المسؤولية بقى انا تعبت ويا سيدي لما تخلص أبقى ساعتها شوف موضوع الشغل ده ووديها لدكتور في السر.
يأس هاشم من اثناء والدته عن رأيها رغم تعدد محاولاته المضنية معها دون فائدة، ازداد حزنه على أخته وعلى حالها الذي يسيئ بسبب جهل توارث للأجيال وتعمق بالمجتمع وأصبح مثل العلة التي لا شفاء منها، حجمته والدته ووضعت له حدود وطالبته بعدم التدخل في شؤن حياتهم حتى بات يقف في موضع المشاهد من بعيد فقط كي ترضى عنه أمه، وظلت على عنادها وتيبس تفكيرها وعقم بعد نظرها ومع اول خاطب طرق بابهم وافقت على الفور وبدون تردد خوفًا من تطرق أبنها لمسألة علاجها مرة أخرى وخاصة أن الخاطب كان يقرب لزوجها فأطمئنت إلى أنه سوف يصون أبنتها ويستر عيبها من وجهة نظرها أمام الناس.
حتى أنها وافقت على طلب والدته على تسريع موعد الزفاف كي يستقر أبنها مع زوجته في منزلهما قبل أن يهل عليهم شهر رمضان، وفي غضون بضعة أشهر قليلة زفت هيام الي إبراهيم الذي كان يحبها منذ صغرهما وكأن طلبه للزواج بها جاء بناء على رغبته رغم معارضت والدته لأنها كانت تريده أن يتزوج بأبنة شقيقتها، في بداية حياتهما سويًا لاحظ أبراهيم اضطراب هيام برغم من قيامها بكافة أعمال المنزل وتأدية واجبها تجاهه بدون نقصان فأعتقد أن ذلك ناتج عن حداثة عهدهما ببعض وقرر أن يمهلها الوقت الكافي حتى تعتاد على الحياة معاه، وتقرب منها وحاول أحتوائها لكن قليلا ما كانت تستجيب له وتصفو الحياة بينهما، واغلب وقتها تقضيه في عزلة وأنطوائية شاردة عما حولها كما كان حالها في منزل والدها، وسرعان ما أزدادت نوبات الهلع والخوف التي تهاجمها حتى بات صعب السيطرة عليها أثناء النوبات، أخذها إبراهيم لعدة أطباء عضوية والذين اكدوا له على خلوها من اي مرض عضوي ولابد من عرضها على طبيب نفسي لتقييم حالتها ومعرفة ما تعانية، لم يكذب أبراهيم الخبر واخذها لطبيب نفسي دله عليه أحد أصدقائه بالعمل لكي يرى حالتها، والذي قام بدوره وفحصها بدقة، فوجدها تعاني من اضطراب نفسي مصحوب بأكتئاب جزئي نتيجة وفاة توأمها والتي كانت تربطها معها اتصال روحي عميق ويليه وفاة والدها مما أدى إلى حالة الأكتئاب تلك وتدهوره حالتها نتج عن تأخرهم في بدء العلاج منذ أن لاحظوا حالتها، وطلب منه الطبيب مداومتها على جلسات العلاج كي يستطيع مساعدتها في تخطي أزمتها، كما وصف لها بعد المهدئات تأخذ منه أثناء النوبات، ظل إبراهيم مداومًا على الذهاب بها لجلسات الطبيب لكن بعد فترة لم يعد يتحمل فقد زادت النفقات عليه بعد تلك الجلسات، ونظرًا لضيق رزقه قرر أن يقلل من الذهاب للطبيب حتى أنقطع كليًا فهو بالكاد يكفي أحتياجات منزله بصعوبة، فأضطرا اسفا لإيقاف تلك الجلسات بعدما توقفت مساعدة والدته له وطالبته بألزام أهلها بمساعدته في علاج حالتها، لكنه رفض ذلك وقرر التخلي عن مداومة علاج هيام التي أنت**ت حالتها مجددًا وساء وضعها اكثر من الأول وبدلًا من أن تشكره والدة زوجته على وقوفه بجانب أبنتها ومحاولة علاجها حملته مغبة تلك العواقب التي أصابت أبنتها، لكنه لم يهتم لأمر زهيدة وحاول احتواء زوجته وتهدئتها لكنه فشل في ذلك وكثرت المشاكل بينهما وكانت بتصرفتها المرضية تدفعه للجنون ولأنفلات أعصابه رغمًا عنه، ونتج عن ذلك علو صوتهما بالصراخ على بعضهما فأضطر في مرة إلى صفعها للسيطرة عليها، لكن زادت حالتها سوءٍ مما أضطر زهيدة لأخذ أبنتها مرة أخرى إلى بيتها، وتحميل إبراهيم ذنب ما حدث من أنتكاسات لبنتها على عاتقه، ففي نظرها أن زيارتها للطبيب هو ما زاد من سوء حالة أبنتها، ولكي تكتمل الطامة بأبراهيم أكتشافه لحمل هيام بأحشائها جنينا منه ينبض مما زاد من أحساسه بالذنب وقرر التضحية براحته والعمل ٢٤ساعة لكي يتمم جلسات زوجته من أجل طفلهما القادم، لكن والدة زوجته وقفت له بالمرصاد ورفضت رجوع هيام له مرة أخرى لسوء حالتها وصعوبة السيطرة عليها وقررت طلاقها منه حتى أنها لجأت للمحاكم حتى تجبره على الطلاق، وعندما يأس أبراهيم من أرحاع زوجته مرة أخرى له لبى رغبة والدتها وطلقها وبذلك انتهت الحياة بينهما سريعًا، لكنه ظل يصر على التواصل معهم من أجل العودة ثانيًا، وكلما زاد أصراره زاد معه عنادهم وقابلوه بالرفض حتى بعد أن وضعت هيام طفلته رفضوا أن يراها كعقاب له، وأغلقوا عليه أي طريق لذلك حتى يأس منهم ومن عقولهم المتحجرة، ومع ألحاح والدته عليه الذي لا ينتهي أضطرا اسفا للزواج مرة أخرى حتى يلبي لها رغبتها وتراه مستقر في حياته عوضًا عما عناه من متاعب في زيجته الأولى، وهكذا ولدت طفلته يتيمه ووهو حياً يرزق والاكثر من ذلك حرما من رؤيتها، وكأنه ليس والدها الذي نبتت بذرتها من صلبه، وكأنه يعاقب على فعل ليس له فيه ذنب، وكبرت أبنته صفاء مع عائلة والدتها وهى تجهل أن لها أب يحبها ويتمنى رؤيتها، فزهيدة أحبتها وخافت عليها كثيرًا لكنها أصرت على أبعاد صفاء عن والدها بكل الطرق، مما دفع أبراهيم لرفع دعوة لكي يضم أبنته لحضانته كي تتربى في حضنه وببيته ويعوضها عن حنان والدتها الغير مدركة للحياة، لكن القانون لم ينصف فنظرًا لمرض والدتها قررت المحكمة بضم أبنته لحضانة زهيدة كما هو نص القانون بضم الطفل لجدته من والدته في حالة زواج الأم أو مرضها ولا تضم للوالد الإ في حالة وفاة الجدة، وكل ما يحق له هو رؤيتها يوم واحد في الأسبوع فقط، حزن إبراهيم لخسرانه الدعوة، فبعدها زاد أهل طليقته في عنادهم وتجبرهم وأخذت زهيدة طفلته وذهبت بها لتقيم في البلدة التي تعيش فيها أبنتها الكبرى حتى تغلق عليه كل الطرق لرؤية أبنته، وكبرت صفاء في كنف جدتها لا تعلم لها أب، كما أدزادت الحالة المرضية لهيام فاسرع هاشم بأخذها للطبيب وتولي حالتها بنفسه برغم غضب والدته فهي بذلك تظنه يثبت على شقيقته الجنون كما فعل زوجها من قبل، وكبرت صفاء وبدأت في فهم ما يدور حولها قليلًا وخشى عليها هاشم وكذلك زهيدة من رؤيتها لولدتها فى وضعها هكذا، فأضطرا لتقليل الزيارات بينهما حتى تكبر الطفلة وتستوعب حالة والدتها عند شرحهم لها حقيقة مرضها، وظلت صفاء تلك الطفلة النقية الجميلة تعيش في الحياة دون أم وأب كأنها يتيمة الأبوين وهما حيان يرزقان، ليس لها أحد يحبها ويخاف عليها سوا جدتها التي أصبحت لها كل شيء فكانت لعا المأمن من كل خوف، ولم تتوانى زهيدة عن أشباع أذنيها بكلامها السيئ عن والدها الذي تزوج ثانيًا بعدما تسبب في مرض والدتها وتركهما وحيدتان لأنه يكرهما، سممت نفستها أتجاه والدها التي باتت تكره كثيرًا وكم تمنت موته لأنه كان السبب في أبعاد والدتها عنها، وكلما رأت طفلة تحيا في كنف والديها زاد حقدها وكرهها على أبيها، ولم تكتفي لها الأقدار بذلك بل كان هناك المزيد من الصعوبات والعثرات في أنتظارها ومن هنا بدأت معناة صفاء وهى بطلة قصتنا في منزل خالتها.