غابة الكآبة
يقول العراب إذا كانَت الأمُورُ تَسيرُ معَكَ بِـسَلاسـة، فـأنت ـ في الغالب ـ تجري على مُنحدَر! و أغلب أموري سلسة بتلك الأيام و أخاف الأيام. إبنتي الوحيدة تقبلت سارة و أخواتها على نحو طيب, تساعد عمها على دراسة جوانب تلك العائلة المعذبة من شأن مساعدتهن, إبنتي فقط من تريد المساعدة بينما وفيق يقوم بعمل دراسة تفيد بتحول المعتلين النفسيين حد الإجرام لشخوص أسوياء يساهموا في بناء المجتمع.
بعد إلحاح شديد تنازلت سارة و خضعت للعلاج النفسي, تزور وفيق بعيادته مرتين أسبوعياً, توقفت عن ض*به بالجلسة الثالثة, إنما وفيق إفتقد ض*بها بعدما أمست تنتقى أغلى لوحاته التشكيلية بالعيادة و تقوم بإمضاء أسمها بقلم الحمرة بمنتصفها تماماً للذكرى الخالدة.
سما توقفت عن قراءة كتب الزنادقة التي توصي بهم هنا و إنشغلت بأمور سارة المالية بعدما وجدت برحلتها لبيت سارة صندوق أحذية كرتوني يحوى العديد من الايصالات البنكية المهملة, قرأتها سما على سبيل التسلية و حينها عرفت الوضع المالي المزري لسارة و الذي لا تعرف عنه أي شيء, بل و تفاجأت سارة لما صارحتها سما بوضعها المالي و ظلت تبكي, و سما كحالي البكاء نقطة ضعفها و لذلك أخذت على عاتقها مهمة إنقاذ سارة. قامت سما على عمل تسوية لسارة مع البنوك لأن سارة مدمنة تسوق و كل بطاقاتها الإئتمانية توقفت و مهددة بالإفلاس كما أن سما مدمنة رياضيات و إحصاء و رغم ذلك لا تريد الإلتحاق بكلية الهندسة و تريد أن تكون طبيبة نفسية كعمها وفيق .
أبي لا يحدثني و لو إلتقاني, و كذلك زوجته أما وليد هجر البيت تماماً, إنما لا بأس سوف يتبدل كل ذلك بالقريب, هناك شيئاً واحد فحسب بدل النغم المتنظم لحياتي لأول مرة على الإطلاق؛ إتصال هاتفي من غابة الكآبة بعد فرقة دامت لستة سنوات, تطلب لقائي على وجه السرعة لأن إبنتي مريضة و هي طبيبة أطفال.
إبنتي قبل كل شيء و سافرت إلى الزقازيق للإطمئنان عليها, وجدتها في إستقبالي بإبتسامتها المريحة و تبدوا بخير حال, إنما وجدت كذلك جمع غفير من الصبية بعمرها و أصغر و أكبر؛ أنهم أحفاد - كله ماشي - و الساعة الثامنة مسائاً و لا أرى سبب لمكوثهم لتلك الساعة المتأخرة.
ألقيت عليهم السلام أجابني نشيد الجلاء فعددهم كُثر ثم حان سؤالي :
- انتوا بتعملوا إيه لحد دلوقتي مش هترووحوا ؟
أجابني أكبر الأحفاد أظن بالعشرون من عمره :
- إحنا قاعدين هنا بقالنا أسبوع يا عمي .
- ليه يا حبيبي ؟
- بابا باع الشقة .. هيطلع بالدور السادس في المستشفى .
- و هتفضلوا قاعدين هنا لحد ما المستشفى تجيب تمن شقة ؟!
- لا طبعا يا عمي .. بابا مستني شقة قدِّم عليها في الإسكان الشهر اللي فات.
شاب مسكين لا دخل له بما يحدث و لكن رغم ذلك أردت خنقه لأنه يشبه أبيه السمج التالم؛ فإنتظار شقة من الإسكان كإنتظار بكاء الشمس بالندف الثلجية, تحولت لإبنتي سائلاً عن جدها الو*د قالت :
- نايم يا بابا
- نايم في أنهي مصيبة في الاستاد ده ؟
- في البلكونة
بالله يستحقها نومة في العراء بشتاء يناير القارص, توجهت للبلكون قطع علي الطريق فتاة بعمر إبنتي و أخرى أصغر, الكبرى تقول بتوسل :
- ممكن يا عمي تقول لسما تنيمنا في أوضتها .. إحنا بنام كلنا في أوضة واحدة.
كلهم أي زوج , زوجة , ثلاثة ذكور , و تلكما الفتاتين في غرفة واحدة , أرجئت الأحاديث حتى مقابلة مع -كله ماشي- المسطح أرضاً بالبلكون يعلوه تل من الأغطية الثقيلة, ناديته :
- فتحي .. إصحى يا فتحي .. ده انت ليلتك طين .
لم يصحوا فتحي و للمكر و أعرف, لذلك ركلته بمؤخرته و حينها إتدعى الإنفعال و صاح بالاولاد أن يتوقفوا عن اللعب حتى يخلد للنوم في سلام .
صحت به :
- ما تعملهمش عليا يا فتحي .. قوم كلمني أحسنلك .
إلتفت للخلف بعيونه النعاس و العمس و قال :
- وجيه .. إزيك يا إبني .
جثوت على ركبتي و أمسكته من كنزته المرقعة بعدائية و قلت :
- قلبت البيت بنسيون يا فتحي .. انا مش بدفعلك إيجار شقة في أوضة عشان بنتي تعيش مرتاحة ؟
- دي ظروف يا بني كلها كام شهر و يمشوا .
- بنتي هتقعد مع الجيش ده كام شهر !! دول شباب !! رجالة !!
- دول إخواتها ما تقلقش .
جذبته أكثر من كنزته المهترية و صحت به :
- بنتي مالهاش إخوات .. الناس دي تمشي بكرة أحسنلك .
- ما ينفعش يا إبني دول ولاد بنتي و في ظروف .. و بصراحة أبوهم بيدفع مش قاعد بلوشي .. و بعدين احنا هنروح بعيد .. غادة تاخد بنتها و يروحوا يعيشوا في العيادة .
تركته فما قاله حل أكثر من جيد و يجنب الجميع الشقاء إلاي, زيارتي لإبنتي سوف تتضمن غادة للأبد ولا أعرف ردة فعل سارة تجاه ذلك, سارة تظنني أهيم بزوجتي الأولى عشقاً لأني تركتها تتمادى في إهانتي لسنوات و لا تجد سما سبب كافي لتحمل أهوال كمثل معاشرة غابة الكآبة.
غابة الكآبة تصرخ من خلفي بالأولاد ليخفضوا من صوت التلفاز و يتماثلوا الهدوء و لما تبصرني تقلب عيناها بتملل مع ضحكة واحدة ساخرة و تعود للداخل. ملكة متوجة على عرش الرثة, صديقة وفية للمخمل البني و الترتر الأصفر الذي ي**و جلبابها الشتوي الثقيل, هذا الترتر اللعين كان يمزق أصابعي لو لامستها و لم تراعي ذلك أبداً . على سبيل الإحتشام و الحياء الذي لا تملك منهما مقدار ربطت على رأسها عمامة على ما يبدوا أظهرت فوديها الأشبين المصفرين المحترقين من الصبغات فمنذ رأت – هنا- أيقنت أن هناك إمرأة تفوقها جمالاً و تظن غابة الكآبة أن الصبغات الشقراء و العدسات اللاصقة الزرقاء و التي تجعلها مطابقة للفتاة المتحولة الزرقاء بفيلم رجال إ** و لكن بنفور بالطبع قد تقربها و لو لقيد إنملة للقمر؛ مالك لا يدعوا زوجته إلا بالقمر.
نفضت - كله ماشي - عن يداي فأمسى علي و إنقلب على يساره و ذهب في النوم, تحولت للسيرك القومي وجدته لازال منتصب رغم صياح غادة عليهم و إبنتي تقف حائرة لا حول لها و لا قوة.
جائت الجدة تربت على كتفي سائلة عن أحوالي بينما تجتذبني من ذراعي للداخل و لم أطئ الداخل منذ سنوات عدة, وجدت نفسي بغرفة سما, غادة تتطلع من النافذة موليةً ظهرها لنا, تتأفف في ضيق و كأني من تقت للقائها .
تجلسني الجدة على كرسي من خلف مكتب سما الدراسي و تقول :
- شفت يا إبني اللي حصل .. هنعمل إيه دلوقتي ؟
- سما و أمها يعيشوا في شقتي.
إلتفت لي أم سما و قالت بتصايح :
- لا جبت التايهة .. ما انا قولت كده برضة و إخواتي مش موافقين .. مش عايزني أعيش لوحدي .. لإما أجوز لإما أفضل في المدرسة دي مع بنتك.
أجبتها :
- عايزة عريس يعني ؟
قالت ساخرة :
- يا ريت بس تكون حاجة حلوة نقاوة عينك .
- حلو .. إيدك بقه يا أختي على مفاتيح العيادة .. شقتي .
صاحت بي :
- دي شقتي أنا .. أنا حاضنة .
- حاضنة مين ياروح أمك انت حاسبة نفسك أم ولا ست حتى .. سما عدت 12 سنة و بقت في حضانتي .
جزعوا لحدتي إنما أعيد ذلك لغابات السرو و السرور و أثرها الإيجابي علي, فلم أعد كاظم لغيظ أو أعفوا عن الناس, أمسيت مثلها لا أخفي غضبي, بل أفجره في مسببه و أظن ذلك أبدى فعالية سريعة فقد جعل غادة تتوقف عن التنمر و تخاطبني بجدية بنواياها الخبيثة :
- من الأخر كده .. انا عايزاك تجوزني من جديد و نخرج من هنا على العيادة تطلقني هناك ولا من شاف ولا من دري .. و بكده تقدر تيجي لبنتك الليل قبل النهار ما انت جوزي ادام الناس و اخواتي .
- ياااااا يا أم سما .. انتي لسه فاكراني وجيه الغلبان اللي هتلفيه بكلمتين و سما .. إتحرقي .. اقعدي في المدرسة و بنتي هاخدها تعيش في بيت ابويا .. مفاتيح العيادة يا دكتورة .
نظرت غادة لسما و كأنها تثبت لها صحة حقائق نسبتها إلي و حينها قالت إبنتي :
- انا مش عايزة أعيش عند جدو .
أجبت إبنتي بهدوء :
- براحتك .. خليكي هنا .. بكرة تعرفي ان الله حق .. و من أول الشهر انا مش هدفع إيجار لفتحي ناموا بقه في ورديات .
صاحت غادة مخاطبة سما :
- آدي ابوكي اللي طالعه بيه السما يا ست سما .. وافقت أرجعله عشانك و هو اللي مش راضي و إحنا في أمس الحاجة له .
إضافة سما بورق لعبتنا القذرة دائماً ما تنقلب له الموازين, و خروج سما من جدالنا واجب علي كأب لذلك طلبت من الجدة :
- خدي سما يا حاجة و سيبينا لوحدنا
إنما كان لغادة رأي أخر لما قالت بحدة :
- تسيب مين يا بابا انت مش جوزي.
أنا من ضحكت هذه مرة, صحيح تم الطلاق بصفة رسمية منذ ثلاث أو أربع سنوات و لكنني و غادة إنفصلنا كزوجين قبل ذلك بكثير, و ما تردده لابد أن يضحكني و يضعها محل سخرية لا تنتهي. هي من أغلقت الباب من خلف أمها و سما ثم عادت تقف من أمامي عاقدة رسخيها على ص*رها المسطح و تهتز بالعصبية كعود قصب شائخ منحشر بين أسنان المعصرة, قلت إختصاراً لوقتي المهدور فلم أحدث سارة منذ ساعة للآن :
- إرمي بياضك .
- ما قولتلك عايزة أعيش مع بنتي لوحدي و إخواتي مش ...
قاطعت مخططها الجديد قائلاً :
- بس يا أم سما عيب اللي ربّى خير من اللي إشترى .. انتي طول عمرك قادرة و لا يهمك إخوات و لا عيلة واطية زي عليتكوا .. انا عارف إنتي عايزة إيه و بعيد عن شنبك .. هجوزها و هتعقد في الشقة اللي على البحر و هفرشها لها بنجوم السما السابعة .
اشتعلت عيناه بنيران الغيرة كما توقعت تماما و قلت بعصبية مقننة لأقصى الحدود تخفي حنقها الشدبد :
- و ماله يا وجيه انت حر .. لم الزبالة من الشوارع و إعملها سعر .. بس فكر في بنتك و اللي هيحصلها و هي عايشة مع تلات شباب .. و لا بلاش هاخدها و أقعد في العيادة و الناس كلها تقول عليا ماشية على حل شعري و قاعدة في شقة الطالع فيها أكتر من النازل من غير راجل و معايا بنتك.
نهضت عن الكرسي إستعداداً للمغادرة بينما أقول :
- بنتي مربيها ولو عاشت مع 100 شاب عمرها ما هتبقى زيك عينها في واحد و تجوز غيره يرفعها من على البلاط .
- كل دي هواجس في دماغك عشان تبرر الطلاق .. ربنا يهد*ك .
هواجس؟!! مما جعلني أقول مبتهلاً :
- هقول إيه قادرة و وشك مكشوف تكدبي الكدبة و تصدقيها .. من أول الشهر مش هدفع مليم لا نفقة لسما و لا إيجار .. سلام .
و خرجت من غرفة سما و أول شيء فعلت بحثت عن الفتاتين و سما و قلت لهن :
- خلاص يا بنات .. أوضة سما أوضتكوا و أكلها و لبسها و كل حاجة أنتوا شركا فيها .. ياللا يا سما خدي إخواتك الإوضة .
حتى لم ينتظرا سما و هرعا لغرفتها فسما كانت مشدوهة لتص**حي الأخير متسمرة بمكانها تستدعي اليقظة من كابوسها إنما لا تجد معين, كانت سما تحتاج لبعض الإنضباط و القليل من التقدير و لكن لأبيها الذي يوفر لها حياة أكثر من كريمة و الدليل قريباتها الصغار و وضعهن المأسوي الأخير . يتقافزن على سرير سما الوثير ولما تنهرهن غادة يرددن ببرود أن العم وجيه سمح لهن بمشاركة سما غرفتها و ها هن يفرغن الثلاجة الصغيرة الخاصة بسما و الموضوعة بغرفتها من المأكولات.
خرجت من السيرك القومي بالزقازيق مفعم بالثقة لأول مرة بحياتي, قلبي يتراقص من الفرح بعد رد المكيدة عليهن؛ أم و إبنة و جدة و لم تكن أول مكيدة و لا أخرها.