الفصل السادس

2999 Words
الحكاية الثالثة..... كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء. في منطقة الوراق (إسم وهمي) و تحديدا في شارع الايوبي الذي كان يشتهر بكثرة محلات الأجهزة الكهربائية و المنزلية يقف جبل محمود الرفاعي داخل احد محلاته يراقب بعض العمال و هو يدخلون الشحنة الجديدة من الأجهزة التي وصلته للتو من الصين بعد عقده لصفقة كبيرة منذ شهرين. صدح صوته القوي و هو يحث الرجال على بذل جهد أكبر حتى ينتهوا من العمل: -يلا يا ابني إنت و هو خفوا إيد*كوا شوية خلونا نخلص بسرعة، حاسب يالا لتقع من إيدك، مشغل معايا نسوان. برطم بصوت منخفض و هو يشتم مرسي و سعيد عماله عندما تعثر أحدهما حتى كاد يقع و تقع الثلاجة العملاقة ذات البابين التي كانا يحملانها. توجه ليجلس خلف مكتبه ليلقي نظرة اخيرة على الملف الذي كان يحتوي على أنواع َ و أرقام الأجهزة التي وصلت ليشطب على رقم آخر جهاز تم إدخاله للتو حتى يتأكد من وصولها جميعا كما هو متفق عليه في الصفقة، ثم نادى على خميس العامل الاخر الذي أتى مسرعا و هو يقول: -أوامرك يا معلم. تحدث جبل و هو يغلق الملف و يضعه في الخزنة الحديدية: -خذ العربية و وديها المخزن القديم، و وصي الرجالة يفتحوا عنيهم كويس. -حاضر يا معلم تصبح الخير. هرع خميس لينفذ أوامر سيده الذي أشار لباقي رجاله بالمغادرة فوقت عملهم قد إنتهى. وقف من مكانه ليغلق المحل من الداخل جيدا ثم سار باتجاه باب صغير لونه يشبه لون الحائط و وحده من يعرف المكان جيدا يستطيع الانتباه لوجوده، صعد درجات السلم الحجري الضيق حتى وصل إلى غرفة صغيرة في الطابق الثاني الذي كان ينقسم إلى قسمين: قسم صغير عبارة عن غرفة لشخص واحد بحمام خاص أما الباقي فكان مخزن كبير تابع للمحل بالأسفل. فتح الباب و دلف للداخل، ألقى بجسده على الفراش و نظر نحو السقف و هو يبتسم ببلاهة لصورتها التي كانت تشغل السقف بأكمله من يراه الان لا يصدق انه هو نفسه ذلك القاسي المتجهم الذي يمضي كامل يومه يصرخ و يلقي الأوامر. رفع يديه إلى الأعلى مررا أصابعه من بعيد على خدها و وجهها و شعرها الفحمي الذي كان ينسدل على ظهرها كشلال مياه عذبة، تن*د بألم هو يغلق عينيه و مع ذلك كان لا يزال يراها أمامه و كيف لا و هي الوحيدة التي كانت و لا تزال تشغل قلبه و عقله منذ سنوات. عاد بذاكرته إلى الوراء و تحديدا منذ ستة عشرة سنة عندما كان في الثانية عشر من عمره يوم توفيت والدته آخر من تبقى له من عائلته. لم يكن صغيرا جدا وقتها حتى لا يفهم انه لن يراها ثانية و أنه سيصبح وحيدا من بعدها بعض الجيران الطيبون هم من تكفلوا بجنازة تلك الأرملة الفقيرة، و إعتنوا به لبعض الوقت قبل أن يعودوا للإلتفات إلى حياتهم من جديد و تركوه وحيدا دون سند أو مأوى. ليجد نفسه في حجيم الشارع يصارع الذئاب البشرية التي إلتفت حوله حالما عرفت أنه وحيد دون عائلة، حيث القوي يفتك بالضعيف دون رحمة قضى ليال طويلة مرمي على الرصيف جائع و مريض، و رغم ذلك لم يسلم من المضايقات، تعرض للض*ب و الإهانة و محاولات التحرش من قبل م***فين و مجرمين و مرضى نفسيين. اضطر إلى أن يتسول حتى يستطيع شراء رغيف حاف يسد به جوعه، حياته كانت عبارة عن ركض و هروب من الشرطة و من المعلمين الذين يسيطرون على الشوارع حيث يختطفون الأطفال و يجبرونم على القيام بجميع الأنشطة الاجرامية لصالحم كالخ*ف و السرقة و التسول و حتى القتل. قبضت عليه الشرطة اكثر من مرة و أخذته إلى دور الرعاية و التي لم يكن يمض فيها أكثر من يومين و يهرب من جديد بسبب فضاعة ما يلاقيه هناك من مآسي و جرائم لا تختلف كثيرا عن ما يحصل في الشارع لكن تحت إطار قانوني. طفولته كانت عبارة عن رحلة من العذاب بدل ان بكون في المدرسة يدرس مع زملائه كان في الشارع يصارع كل يوم كي يبقى على قيد الحياة و يعيش ليوم إضافي آخر ، كبر قبل أوانه من كثرة الهموم و الشقاء، رأى ما لا ينبغي لطفل في عمره أن يراه و سمع ما لا يجب عليه سمعه. حاول أكثر من مرة أن يبحث عن عمل في ورشات النجارة و محلات تصليح السيارت لكنه في كل مرة لا يستطيع ال**ود سوى أسابيع قليلة قبل أن يترك الشغل بسبب قسوة المعلمين و إستغلالهم لأطفال الشوارع حيث يشغلونهم بيوميات قليلة جدا لا تكفي حتى ثمن طعامهم و شرابهم رغم انهم كانوا يجعلونهم يعملون طوال اليوم و جزءا من الليل حتى أكرمه الله و إلتقى بالمعلم "توفيق " أو الحاج توفيق كما يسميه سكان حارته. يذكر ذلك اليوم جيدا، عندما كان يجلس على الرصيف ،بجسده المنهك بعد أن قضى يومين هربا من عصابة كانت تريد إختطافه ليعمل لحسابها. تحت أشعة الشمس الحارقة و الجوع ينهش قلبه دون رحمة، فهو لم يتناول الطعام منذ أيام، يبكي بحرقة تعبا و إرهاقا من كل شيئ من حياته البائسة و طفولته الضائعة و الجحيم الذي اجبر على عيشه و الذي لا يعلم متى سينتهي. كان ينظر إلى الأطفال الذين يمرون من أمامه يرتدون ملابس نظيفة و بعضهم يحمل أل**با و قطع حلوى أو شكلاطة و هو يسيرون بأمان بجانب والديهم و بعضهم يركبون سيارات فخمة و يتمنى لو انه كان مثلهم، أو حتى أقل بقليل، فقط فراش دافئ و وجبة طعام تسد جوعه هذه فقط كانت اقصى أحلامه منذ أن رحلت والدته و تركته. مسح دموعه و رفع جسده بصعوبة و هو يستند على الحائط حتى توقف أمام محل كبير لبيع المواد الغذائية، دلف بخطواته المنهكة و هيئته القذرة التي تدل على أنه احد مشردي الشوارع مما جعل زبائن المحل يتضايقون من وجوده و يتجنبونه. إستجمع ما تبقى لديه من قوة حتى يتوسل أحدهم ليعطيه أي شيئ يأكله لكن قبل أن يتمكن حتى من فتح فمه ليتحدث وجد من يدفعه خارجا و هو يصرخ و يشتم بصوت عال: -إنت إيه اللي دخلك هنا.. إطلع برا يلا و إوعى تعتب المكان داه ثاني مش ناقص غير ق*ف الشحاتين و وسخهم. صاح الصغير بألم عندما إرتطمت ركبتاه و يده و وجهه بالإسفلت لتنضاف جروح جديدة على تلك القديمة التي لم تندمل بعضها بعد لكنه لم يبال ليعود من جديد لإستعطافه: -عشان خاطر النبي أنا جعان و بقالي كثير مكلتش إديني أي حاجة فاضلة عليك. ضحك الرجل و هو يدفشه من جديد قائلا: - هو انا فاتح جمعية.. روح دور هناك في الزبالة هتلاقي، و مش عايز أشوف وشك هنا ثاني غور، جتكوا الق*ف مليتو البلد، أغلق الباب البلوري بعنف في وجهه ليتحامل جبل على نفسه و يقف من جديد على قدميه بحثا عن مكان آخر، مسح دموعه بكم قميصه المهترئ الذي لم يغسل منذ اكثر من ثلاثة أشهر و إختفي لونه الحقيقي وراء الأوساخ. إرتد جسده الصغير إلى الوراء و شحب لونه برعب عندما رأى أمامه رجلا ضخما يرتدي ملابس نظيفة عبارة عن جلابية بلون بنى كالتي يرتديها شيوخ الجوامع و فوقها ما يشبه البرنس الخفيف باللون الرمادي و يمسك بيده سبحة، تراجع بخطواته إلى الخلف حتى يهرب منه ظنا منه انه سيض*به كما يفعل كل من يعترضه بسبب او دون سبب لكن تفاجئ به يمد له قطعة شوكولاطة صغيرة الحجم. إبتلع ريقه الجاف و اص*رت معدته صوتا يدل على جوعه و هو ينظر لقطعة الشوكلاطة بترد، حول بصره عنها نحو الأعلى ليقا**ه وجهه ذلك الرجل الذي كان يبتسم له. لم يعلم لما شعر جبل تجاهه بالاطمئنان هل بسبب وجهه البشوش ام إبتسامته المريحة التي بعثت في نفسه بعض الأمان الذي إفتقده منذ وقت طول. بادله إبتسامة خفيفة ثم أخذ القطعة من يده و هو يقول بصوت ضعيف: -شكرا... عبراته ترقرت على وجنتيه المجروحتين و هو يحاول تذكر متى آخر تعامل فيها أحدهم معه على أنه إنسان و ليس حيوانا قذرا يتجنبه الجميع. شهق بفزع عندما شعر بيد ذلك الرجل تربت على كتفه و هو يحدثه بنبرة واثقة: -متعيطش عشان إنت راجل، و الرجالة اللي زيك متبينش ضعفها قدام حد، بكرة هتكبر و هتفهم كلامي كويس. تن*د جبل بسخرية و هو يفكر إن كان سيستطيع ال**ود في هذا العالم الموحش حتى يكبر فالثلاثة أشهر الفارطة التي قضاها في الشارع علمته أن كل يوم يعيشه يعتبر معجزة ...هز رأسه ليعلمه أنه قد فهم حديثه جيدا لكنه للأسف ليس هو الشخص الصحيح الذي يحتاج لهذه النصيحة لكن الحاج توفيق كان على علم بكل ما يدور بخلد هذا الصبي دون أن يتحدث. لقد كان في الداخل يشتري بعض الأغراض لمنزله على غير عادته فهو يمتلك عمالا او ما يطلق عليهم باللفظ الشعبي "صبيان" او صبي يقومون بهذه الأعمال البسيطة و المشاوير العادية التي لا تتطلب وجوده كشراء الأغراض و نقلها إلى منزله لكنه اليوم وجد نفسه يشعر بالملل بعد قضاء ساعات طويلة في مراجعة حسابات محلات الأجهزة الكهربائية التي يمتلكها لذلك أراد أن يتمشى قليلا و مثله كمثل باقي الزبائن الذين فوجئوا بوجود طفل مشرد تفوح منه رائحة قذرة و ملابسه متسخة و ممزقة لم ينفر به كما فعل معظمهم بل بالع** فقد شعر تجاهه بالشفقة ليس على حاله فقط بل لأنه لاحظ أنه قد إتجه نحو صاحب المحل ليطلب منه طعاما في حين كان بإمكانه سرقته و الهرب، خرج وراءه و راقب ما يحصل حتى يتأكد من أن هذا الصغير رغم قسوة ما يمر به إلا أنه كان نظيفا من الداخل و لم يفلح جحيم الشارع في تشويه نقاءه و طمس معدنه الطيب. و الحاج توفيق رجل تاجر و ليس هناك أكثر خبرة من التجار في معرفة معادن الناس و أصولهم. لم يطل **تهما طويلا ليتحدث الرجل و هو يشير له إلى مطعم قريب: -بقلك إيه، أنا عارف إنك مفهمتش حاجة من كلامي بس انا مصر افهمك و أرسيك تعالى ناكلنا لقمتين الأول و بعدين نكمل كلامنا. نظر جبل إلى ذلك العامل الذي كان يقف أمام آلة الشواء الكبيرة التي إختفى نصفها داخل سحب الدخان المنبعثة من أنواع اللحوم التي كان يشويها، يجزم أنه يشتم رائحتها الشهية من هناك و لم ينتبه لل**به الذي سال على ذقنه و لا لمعدته التي أص*رت صوتا عاليا جعل الحاج توفيق ينفجر ضاحكا. وضع الرجل يده على ظهره و دفعه برفق يحثه على السير إلى جانبه حتى وصلا إلى المطعم... كان جبل يتطلع حوله إلى أصناف الاطعمة التي كانت تملأ المكان و مع كل خطوة كان يخطوها يزداد جوعه اضعافا. جلس على إحدى الطاولات الجانبية حيث أشار له الحاج توفيق و الذي جلس أمامه و غطاه بجسده الضخم مما جعل جبل يشعر بالراحة اكثر لأنه أخفاه عن أعين الزبائن الذين كانوا يرمقونه باستنكار و يتساءلون من هذا الصبي المتشرد الذي يمشي بجوار المعلم توفيق احد كبار الحارة. أشار توفيق إلى الصبي الذي كان يعمل نادلا بالمطعم و هو يقول: -واد يا بندق. هرع الصبي نحوه و هو يجيبه مرحبا: -نورت المحل يا معلم توفيق،أؤمرني. إبتسم له توفيق ببشاشة ثم هتف مقترحا: - عاوزك تجبلي من كل حاجة طبق، و كثر اللحمة و الفراخ و متنساش المية. قطب دقدق جبينه باستغراب عندما لمح ذلك الصغير الذي كان يطأطئ رأسه بخجل لكنه دعسته لم تدم طويلا فالجميع هنا يعلم بكرم هذا الرجل الطيب الذي لا يتردد في مد يد العون لكل محتاج و فقير و يبدو أنه قد أشفق على الصبي لذلك احضره معه حتى يطعمه. تمتم و هو يستأذنه حتى يحضر له طلباته: -تحت أمرك يا معلم. نظر الحاج توفيق نحو جبل يتأمله بحنو بالغ و هو يتمنى لو كان لديه طفل مثله...فرغم أنه متزوج منذ أكثر من عشرون سنة إلا أنه لم يرزق بأطفال و عاش برفقة زوجته السيدة خديجة حياة هادئة مكتفيا بوجود أولاد إخوته حوله. لم يغب دقدق طويلا ليعود حاملا صينيه كبيرة تحتوي على أصناف متنوعة من الاطعمة التي لم ير جبل مثلها من قبل حتى عندما كان يعيش مع والدته. شجعه الحاج توفيق على أن يبدأ في الأكل و شاركه هو الاخر حتى يزيح عنه شعور الاحراج ليسأله. -إلا قلي يا إبني إنت إسمك إيه؟ قضم الصغير قطعة الدجاج التي كان يمسك بها بكلتا يديه و كأنها ستهرب منه و اجابه: -جبل،أنا إسمي جبل محمود الرفاعي. رفع توفيق حاجبيه بدهشة بعد أن فهم أن هذا الطفل ليس لقيطا (إبن حرام) إنما يمتلك عائلة. لم يتردد في سؤاله من جديد بعد أن غلبه فضوله: -و إنت ساكن فين بقى و فين عيلتك، أبوك مامتك إخواتك. توقف الصغير عن الأكل ليضع ما تبقى من قطعة الدجاج على الطبق أمامه ثم مسح فمه مرة أخرى في كم منديله و قد ظهر الحزن داخل عينيه البريئتين. أخفض رأسه و هو يتحدث بصوت حزين يروي له كيف كبر سنوات قبل عمره: -أنا كنت ساكن أما و أمي في أوضة صغيرة شبه العشة فوق سطوح العمارة هي كانت بتنظف العمارة و بتطلع الزبالة و بتقضي للسكان مشاويرهم و انا بردو كنت بساعدها بس هي فجأة تعبت و بعدها ماتت. أنا صحيت الصبح لقيتها مبتتحركش نزلت أجري للست فتحية اللي ساكنة في الدور الرابع أكثر واحدة بتاعملنا كويس أنا و امي من كل سكان العمارة و هي طلعت معايا و بعدها. توقف قليلا عن الحديث ليبتلع ريقه و يجلي تلك الغصة التي ملأت صوته ليخرج متحجرشا هذه المرة: -صاحب العمارة طردني و قال إنه عايز يبني دور ثاني فوق، و بقيت في الشارع، الست فتحية قالتلي أسكن معاها بس رفضت هي ست طيبة بس جوزها مش بيحبني و انا دايما بسمعه بيصرخ عليها و يقلها إنها ملهاش دعوة بيا و خليه يغور من هنا، عشان كده بطلت اروح عندها و هربت للشارع، بقيت بنام على الرصيف و بشحت عشان أشتري لقمة آكلها بس الناس وحشين اوي و بقيت أخاف أعدي من جنبهم عشان بيض*بوني و انا معملتلهمش حاجة.، حاولت أشتغل بس كنت بتعب اوي ببدأ شغل من الفجر لليل بس المعلم مش بيديني يومية و كل يوم بيقولي بكرة و بقعد بالثلاثة ايام من غير أكل و لما بغلط في الشغل بيطردوني، بقالي يومين و انا بجري في الشوارع هربان من عصابة أبو شامة عشان عاوزيني أشتغل معاهم لكن انا مش عاوز أسرق او آخذ حاجة مش بتاعتي عشان ماما الله يرحمها قالتلي إن السرقة حرام و ربنا هيعاقبني هي بتجيني كل ليلة في الحلم و بتاخدني في حضني و تطبطب عليا لغاية ما أنام و ببقى أتمنى لو ألاقيها لما أصحى بس هي خلاص راحت و مش هترجع ثاني و انا مستني اروحها. تن*د توفيق بأسى على حال هذا الصغير الذي قست عليه الدنيا و لم ترحم ضعفه و للأسف أمثاله كثيرون جدا و يملأون الشوارع و إشارات المرور يتسولون و ي**قون و يبيعون الم**رات، و يقومون بكل الأعمال الغير مشروعة. سأله من جديد مقررا أنه يريد أن يعرف عنه كل شيئ: -طب إنت معندكش قرايب ثانيين، أعمامك اخوالك، اي حد تعرفه. نفى الصبي برأسه قبل أن يجيبه بالكلام: -لا أنا معنديش غير ماما، هي قالتلي إن أبويا تجوز و بقى عنده أولاد ثانيين و مش عايزنا نروحله و انا بسمع كلام ماما و مرحتلوش أصلا أنا مش بعرف مكانه فين و لا عمري شفته. شعر توفيق بأن خنجرا حادا قد قسم قلبه إلى نصفين و هو يتمتم بصوت خافت: -لا حول و لا قوة إلا بالله.، هي الدنيا جرا فيها إيه معقولة في ناس بالبشاعة و القسوة دي.في أب يرمي إبنه و مش عارف هو حي و إلا ميت، سبحان الله غيره بيتمنى ظفر عيل و هو. إنتبه لنفسه أنه أطال في ثرثرته لكن الأمر ازعجه كثير و آلمه و هو يتخيل كل ما مر به هذا الصغير الذي قرر أنه لن يتركه بعد الآن... جاهد ليرسم إبتسامة مزيفة على وجهه و هو يمد يده نحو احد الأطباق قائلا: -كمل أكلك و متفكرش في حاجة.. ربنا موجود و مش بينسى عباده. نظر جبل نحو أطباق الطعام من جديد قبل أن يختار أي صنف يريد أكله فربما لن تتكرر هذه الفرصة قريبا لينقض و يلتهم كل ما تقع عليه عيناه حتى إمتلأت معدته. أراح جسده على ظهر المقعد بعد أن شعر بالتخمة حتى بات تنفسه صعبا ليسمع صوت ضحكات ذلك الرجل الطيب مما جعل وجهه يحمر خجلا و يستقيم في جلسته. منعه الحاج توفيق من التحرك و هو يقول له مطمئنا: -الهناء و الشفاء.. مش قلتلك إن الاكل هنا حلو اوي و هيعجبك. نظر حوله ممثلا التوجس من أن يسمعه أي من الموجودين قبل أن يلتفت له و يشير له بأن يقترب لأنه يريد أن يخبره سرا خطيرا: -بس مش أحلى من أكل الحاجة خديجة، مراتي مش مصدقني صح طب انا هخليك تذوق طبخها و إنت بنفسك اللي هحكم. إبتسم له جبل بخجل و إمتنان على ما فعله معه قبل أن يردف: -متشكر اوي يا عمو انا هفضل أدعيلك طول عمري على اللي إنت عملته معايا..و كمان أنا مستعد أشتغل عندك عشان أسدد ثمن الاكل داه. كان يفرك يديه بتوتر و لم ينتبه إلى الحاج توفيق الذي كان يرمقه بفخر فرغم أنه طفل و أيضا مشرد لا يمتلك سوى ملابسه التي لم تعد تصلح للاستعمال حتى إلا أنه لديه عزة نفس و كبرياء و صدق لم يرهم في رجال كثيرون. وقف من مكانه و هو يشير له ان يتبعه بعد أن وضع بعض الأموال على الطاولة. سار جبل وراءه و هو يتوقع أنه سوف يدله على عمله لكن هذا الرجل الطيب فاجأه بكرمه مرة أخرى عندما قال له: -دلوقتي هنروح عند عمك فاروق عشان ننقي شوية هدوم ليك و بعدها هاخدك لخالتك خديجة دي هتفرح اوي لما تشوفك. قطب جبل حاجبيه بقلق و قد بدأ قلبه يدق بسرعة لكنه مع ذلك تبعه ب**ت حتى وصلا إلى محل كبير للملابس. توقف في عتبة الباب و لم يستطع الدخول خوفا من أن يتم طرده لكن توفيق إنتبه له و نادى عليه قائلا: -تعالى يا جبل. أتاه الصبي ليكمل الحاج حديثه مع صاحب المحل: -هو داه الولد اللي قلتلك عليه عنده إثناشر سنة و عاوزك بقى تجهزلي خمس ست بنطلونات على كام تي شيرت و قمصان بسرعة عشان مستعجل اوي. أشار المعلم فاورق صاحب المحل إلى أحد العمال عنده ليقوم بما أخبره به توفيق و هو يرمق جبل باستنكار قائلا بفضول: -هو مين داه يا حاج. ربت توفيق على ظهر جبل ليقدمه له و كأنه إبنه الحقيقي: -داه جبل...و مين هو بالضبط هتبقى تعرفها بعدين. دفع توفيق جبل برفق يحثه على الخروج من المحل فهو يعلم جيدا فضول المعلم فاروق الذي لا يرتاح أبدا حتى يعرف كل ما يجري حوله في الحارة لذلك فضل الانسحاب قبل أن يتفوه بأي حماقات لأنه متأكد من أنه لو اخبره عن هوية جبل و ما يريد فعله فلن يتردد في نعته المتشرد و اللقيط و هو لا يريد أن يجرحه أكثر فيكفي ما واجهه من عذاب و معاناة حتى الآن. ظل واقفا عدة دقائق قبل أن يخرج صبي المعلم فاروق و هو يحمل في يده أكياسا ناوله إياها لكنه أمره أن يعطيها لجبل الذي إلتقطها على الفور بحماس ظنا منه أن هذا أول عمل سيكلفه به. تحدث توفيق و هو يخرج من جيبه رزمة من المال: -حسابك كام؟ هتف الاخر و هو لازال ينظر إلى جبل: -ألفين و مائة. بدأ توفيق يعد المال حتى تحصل على المبلغ المنشود ناوله إلى العامل ثم أعاد الباقي إلى جيبه و إلتفت إلى الصغير الذي كان ينتظر أوامره كما تعود عندما يوكل إليه أحد الأعمال ليقول له: -دلوقتي هنروح. أخذ منه بعض الأكياس حتى يخفف عنه و هو يضيف بحنو: -بيتك الجديد.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD