كان جبل يسير بجانب المعلم توفيق و هو
يلتفت حوله متأملا الدكاكين و المباني،
لا يدري لما شعر
بالأمان و هو يسير معه خاصة أنه لاحظ
أن الجميع هنا يعرفونه و يحيونه باحترام تام،
لكن رغم ذلك فإن غريزة الحماية بداخله لم تمنعه من إلقاء نظرات دقيقة إلى تلك الأماكن الخفية
أمام أبواب العمارات و على الارصفة
حيث يقف أطفال العصابات و المشردون
ينتهزون أي فرصة للقيام بأنشطتهم حتى
لكنه وجدها خالية
ليتابع طريقه مقررا أنه سوف يؤجل التفكير
في هواجسه لاحقا.
إنتبه أن الحاج قد توقف أمام بناية
تتكون من خمس طوابق ثم سمعه يحدثه:
-داه بيتي، بيت الحاج توفيق عبدالسلام الهاني
لو تهت إبقى إسأل أي حد و هو هيدلك.
أومأ له جبل و هو يتفرس هذه العمارة
الكبيرة و يفكر بداخله هل هذا الرجل
غني إلى هذا الحد حتى يمتلك منزلا
كهذا... خرج من أفكاره البريئة على صوت
توفيق الذي غاب بالداخل
ليتبعه مهرولا و يصعد وراءه الدرج و هو
يستمع لبقية كلامه حيث بدأ الاخر يتحدث
و يسرد عليه تاريخ عائلته:
-أنا ساكن هنا مع أخويا منصور و أخويا
الثاني عمران، منصور بقى هو اللي شاغل الدور
الخامس شقته اللي مقابلة الدرج على طول
و في شقة كمان في نفس الدور عشان
إبنه جسار و أما فريد فشقته اللي في الدور
الرابع هو و علي إبن أخويا عمران.
ننزل بقى للدور الثالث هتلاقي فيها
شقة عمران، ساكن فيها مع مراته و بنته
شذى و الشقة اللي جنبه دي
بتاعة أخويا الرابع رضوان هو ساكن في
أمريكا بيدرس هناك بقاله سنين،
أصله بيدرس طب عشان كده
مش بييجي دايما و الدور الثاني فيه شقتي.
تنفس الهواء بقوة ثم نفثه بصوت عال و هو
يكمل و كأنه يحدث رجلا كبيرا و ليس
صبيا لم يتجاوز عمره الثانية عشر إلتقاه
منذ سويعات قليلة:
-الشقة اللي جنبي كنت مجهزها عشان
لو ربنا رزقني بأولاد، على العموم الظاهر
إنها هتكون من نصيبك إن شاء الله.
لم يفهم جبل كلامه و لم يهتم فكل
ما كان يشغله الآن هو ماذا يوجد خلف
هذا الباب الكبير الذي فتح للتو.
ناداه الرجل الطيب ليدخل و هو ينادي:
-يا حاجة خديجة، إنت فين؟
لم تمر لحظات قليلة حتى وقعت عينا جبل
على سيدة تبدو في الأربعينات من عمرها
هيأتها بسيطة تشبه والدته الراحلة ترتدي
عباءة منزلية باللون الأخضر المريح
و شعرها مثبت إلى الخلف في شكل
كعكة مهملة.
كانت تمسك بيدها منشفة خاصة بالمطبخ
و يبدو أن كانت تعد الطعام فرائحة
السمك المشوي كانت تملأ الشقة توتر
جبل و شعر بالخجل من نظراتها المصوبة
نحوه، أخفض رأسه على الفور بينما أشارت خديجة
نحو زوجها تسأله عن هوية هذا الصبي
فهي لأول مرة تراه كما أن شكله يوحي
بأنه احد المشردين الذين تراهم في الشوارع
لم يتردد الحاج توفيق ليروي فضول زوجته
ليلتف إلى جبل معرفا:
-داه جبل، محمود الرفاعي، أمه توفت من
مدة قصيرة و صاحب العمارة طرده و بقى
في الشارع و هو ملوش حد حتى أبوه
مش بيسأل عنه و ميعرفوش أصلا،
مهانش عليا أسيبه لكلاب السكك اللي
برا تنهش
فيه عشان كده قررت اجيبه عشان يسكن
معانا.
لم تعترض خديجة على كلام زوجها فهي
تعرفه يمتلك من الحكمة ما يجعله يميز
بين معادن الناس و يبدو أن لهذا الطفل
حكاية خاصة جعلت الحاج توفيق
يختاره من بين الجميع حتى يجلبه إلى
منزله و هو الذي ساعد من قبل الكثيرين
مثله، لكن فضولها الشديد غلبها لتقترب
منه حتى تأخذ منه البرنس الذي خلعه
و تهمس له:
-بس ليه إخترت الولد داه بالذات.
هتف توفيق و هو يسير نحو الاريكة
ليرمي ثقله عليها:
-هبقى أحكيلك بعدين كل حاجة، بس
دلوقتي الولد محتاج يستحمى و يغير
هدومه تعالى يا جبل حط الأكياس هنا
عشان نختار منها حاجة تلبسها.
أطاعه جبل بينما سارت خديجة نحو
أحد الأبواب ثم غابت وراءه.
ليلا كان جبل يجلس معهم على طاولة
الطعام التي كانت تحتوي على أصناف
كثيرة من المؤكولات لا تقل عن تلك التي
أكلها في ذلك المطعم، الحاجة خديجة
لم تنفك تملأ له طبقه و تحثه على الاكل
قائلة بحنو:
-كل يا حبيبي متت**فش أنا عاوزاك
تخلص الطبق داه كله، لا إستنى شوية
أما حطلك شوية زر و إلا إنت بتحب المكرونة.
أومأ لها جبل بالموافقة حتى يساير حماسها
بينما في داخله كان يقول لها أن الأمر سيان
عنده بل سيرضى حتى بنصف رغيف يابس
المهم أن لا ينام جائعا... لتضع له طبقا
إضافيا أمامه مما جعل الحاج توفيق
ينفجر ضاحكا و هو يقول:
-لا بقى انا إبتديث أغير من الواد داه، شكله
ناوي ياخذ مكاني عندك .
ضحكت خديجة و هي تضع له بعض الطعام
في طبقه الفارغ كما تعودت ان تفعل دائما:
-حقك عليا يا حاج بس إنت شايف جبل
مش راضي ياكل يمكن أكلي معجبوش.
إنتفض جبل بخوف ليتحدث مبررا بقلق
فهو آخر ما كان يريده هو جعل هذه السيدة
الطيبة تغضب منه:
-لا لا الأكل حلو... حتى أحلى من أكل المطعم
انا بس كنت محتار هاكل إيه، أنا آسف متزعلوش
مني.
تبادلت خديجة و زوجها نظرات متأسفة فهي
لم تقصد أن تضايقه بل كانت تمزح معه فقط
لكن يبدو أن الصغير قد عانى الكثير
في الخارج و قد بدا ذلك واضحا من خلال
صوته الحزين و نظراته المن**رة، تحدثت و هي تربت على وجنته بحنان:
-يا حبيبي إحنا كنا بنهزر معاك و مش زعلانين
كل على قد ما تقدر و متغصبش نفسك على
حاجة إنت مش عايزها و لو جعت بالليل
هتلاقي الاكل في المطبخ...إتفقنا.
أومأ لها جبل بطاعة:
-حاضر.
ثم اخذ الملعقة و بدأ يأكل من طبق الأرز
و هو يتذكر كيف كانت والدته تعده له في
الماضي.
في تلك الليلة نام جبل ملئ جفنيه
على سريره المريح رغم أنه إستيقظ
أكثر من مرة بسبب تلك الكوابيس
التي أرقت منامه حيث كان يحلم
بنفسه يعود إلى الشارع مرة أخرى
و عصابة المعلم "أبو شامة" تقبض
عليه.
صباح اليوم التالي أخذه الحاج توفيق
ليعرفه على إخوته و باقي عائلته الكبيرة
و أعلمه أنه قرر تبنيه و الاحتفاظ به
ليعيش معه و هذا ما جعل قلبه الصغير
يكاد يتوقف عن النبض لقد قضى ذلك
اليوم و هو يبكي و يحتضنه معبرا له
له عن إمتنانه.
علم بعدها أن شقيقيه عمران و منصور
عارضا بشدة قرار أخيهما بحجة أن الورث
سيذهب لشخص غريب مما جعل توفيق
يغضب منهم كثيرا رغم علمه بطمعهما و جشعهما
إلا أنه لم يكن يدرك أن قلوبهم سوداء
لهذا الحد حتى يمنعوه من الحصول على
إبن.
عاش جبل وسط تلك العائلة و تعلم أصول العمل
من والده الجديد حيث كان يذهب إلى مدرسته
صباحا و ينضم إليه في المحلات مساء
حتى يساعده على العمل، رغم ان توفيق
رفض و طلب منه أن يهتم فقط بدراسته
إلا أن جبل أصر على قراره و بالفعل مرت السنوات
و أثبت أنه يستحق تلك الثقة التي منحها له.
رغم معاملة اعمامه و أولاده السيئة له
و إصرارهم على طرده إلى الشارع الذي جاء
منه إلا أنه لم يستسلم بل تمسك في تلك الفرصة
التي منحت له.
لم يتقبله سوى والده و والدته الحاجة خديجة
تلك السيدة التي كانت تعامله و كأنه طفلها
الحقيقي حتى بلغ الثامنة عشر من
عمره و طلب من والده أن يسمح له بالإنتقال
إلى الشقة المجاورة وافقت على مضض.
تن*د جبل و هو يضع يده على قلبه بعد أن
أفاق من ذكرياته التي عادت به إلى
سنوات طويلة إلى الوراء بعد أن أنهى دراسته
الجامعية و تحصل على الماجستير في الهندسة
الإلكترونية، و إستطاع أيضا بفضل ذكاءه و حسن
إدارته من فتح محلات أخرى و حاز على إعجاب
الجميع حتى أعمامه الذين كانوا دائما يوبخون
أولادهم و يقارنونهم به مما زاد كره جسار
و علي له كثيرا.
فتح عينيه و توسعت تلقائيا عندما وقع
نظره على شذاه، شذى عبدالسلام الهاني
تلك الصغيرة إبنة عمه عمران ذات العينين
الزمرديتين التي سحرته منذ أول نظرة.
كانت صبية صغيرة بضفائر ترتدي فستانا
ورديا و حذاء أبيض تمسك بيد والدتها
و تتبع والدها و شقيقها عندما دلفت شقتهم
بعد أن دعاهم الحاج توفيق حتى يخبرهم
بقراره...كانت تمسك بيدها قطعا من الحلوى
إبتسمت له و ناولته بعضا منها ع**
إخوتها الذين رمقوه بعدائية و نفور حتى إبنة
عمه الأخرى سمية لم تتقبل وجوده إلا
عندما كبر و أصبحت تنظر له كعريس
مناسب كما تفعل باقي فتيات الحارة
رغم علمهم أنه قلبه ملك لشذاه التي
أصبحت كحلم بعيد بالنسبة له، صغيرته
التي تشبه أميرة حقيقية هاربة من كتاب
الحكايات.
غمغم متلذذا بإسمها الجميل بين
شفتيه و هو يحارب النعاس الذي تمكن
منه قبل أن ينتفض فجأة مزفرا بتعب
فهو لم يتم منذ يومين بسبب تلك الصفقة
التي أشرف على إستيلامها بنفسه، خلخل
أنامله داخل خصلات شعره ثم إستقام
ليجلس في مكانه محدقا بأرضية الغرفة
بشرود و هو يفكر جديا في إيجاد حل
جذري لهذه المشكلة.
فمنذ ستة سنوات عندما بلغت الثامنة عشر
من عمرها أخبر والده بحبه لها و كم سعد توفيق
بهذا الخبر خاصة و أنه لاحظ أيضا ان إبنة
شقيقه تبادله نفس المشاعر لكن المشكلة
الحقيقية كانت في جسار إبن منصور هو أيضا
يحب شذى و قد فاتح عمه في موضوعها
و وافق و منذ ذلك الوقت بدأت المشاكل.
مر أسبوع عصيب جدا على زين الذي لم يذق فيه
طعم الراحة منذ ليال طويلة، سافر لإيطاليا بسرية
تامة دون أن يخبر أحدا عله يفلح في إيجاد
حل لتلك المصيبة التي وقعت على رأسه دون جدوى
فالشركات الإيطالية أثبتت له بالحجة و البرهان
أن بضاعته مغشوشة و ألزمته كذلك بدفع الشرط
الجزائي الذي ينص على دفع تعويضات مالية
فاقت السبعون
مليون أورو ليضطر زين إلى بيع جميع ممتلكاته
في إيطاليا و فرنسا و عدة بلدان أخرى.
قبل أن يعود خائب الوفاض لمصر و هو يكاد يجن
حيث تفاجئ بانتشار بخبر إلغاء تعاقده مع تلك الشركات كانتشار النار في الهشيم.
و أعلن في السوق عن إفلاسه ليعلم زين أن هناك شخصا
ما يسعى للقضاء عليه لكن للأسف لم يستطع
معرفة هويته بسبب غرقه في المصائب المتلاحقة
التي أبت أن ترحمه، فعالم الأعمال يشبه الغابة
المليئة بالوحوش الصراع فيه لا يهدأ و لا يتوقف و القوي هناك يأكل الضعيف.
لا أحد يرحم أو يساعد لذلك كان سقوط
زين سريعا حيث تكالب عليه الجميع الممولين ،أصحاب البنوك و الشركات الأخرى
العملاء المستثمرين، الجميع عندما رأوا بأن مركبه بدأ ينهار أخذوا في القفز واحدا تلو الاخر حتى
ينجوا بأنفسهم، ليجد زين نفسه وحيدا
في وسط العاصفة لا يعلم طريق
الخروج أو الرجوع، جميع شركاته إنهارت
دفعة واحدة و ما جعل الوضع يتأزم اكثر هو
عدم وجود سيولة كافية لتسديد الديون
و الالتزامات تجاه العملاء بعد أن تفاجئ
زين بخلو رصيده البنكي الذي تم سحبه
من قبل خطيبته التي جعلته يوقع على
أوراق مفادها التنازل لها عن مبلغ كبير جدا
يعادل أرصدته في البنوك داخل مصر و خارجها
أيضا.
سرعة الأحداث الجنونية منعته حتى
أن يشعر بالصدمة أو الحزن.
وليد إبن عمه و خطيبته ميرهان التي إختارها من
بين جميع بنات العالم، مساعده طارق حتى
سكرتيرته سناء و مدير حسابات شركته، كذلك بعض الحرس
الذين كانوا يعملون في الفيلا الجميع
تم شراءهم ليقوم كل فرد منهم بدوره المناسب
لإسقاط إمبراطورية الشافعي .
نزل زين من سيارة التا**ي أمام فيلته ثم
أعطى بعض الجنيهات للسائق الذي غادر
من فوره، ليقف زين أمام باب الفيلا الخالية
فلم يتبق أحد فيها سوى والدته، حتى العمال و الخدم الذين لطالما عاملهم معاملة الاهل خذلوه و لم
يقفوا معه في محنته.
لكن لا يلومهم فهم أيضا مضطرون للبحث
عن عمل آخر فهم لديهم أطفال و عوائل يعملون
من أجلها، فتح الباب ثم دلف بخطوات
مترددة و دقات قلبه تسبقه، لا يعلم كيف
سيواجه والدته و يخبرها بأنه لم يستطع
الحفاظ على أمانة والده التي تركها له و أنه فقد
كل شيئ حتى منزلهم هذا لديه مهلة بثمانية
و أربعون ساعة حتى يخلوا المكان، حرفيا
لم يعد يمتلك شيئا سوى ثيابه التي يرتديها.
قرع باب الفيلا الذي سرعان ما فتح لتظهر
من وراءه والدته التي كانت تنتظر عودته على أحر من الجمر، جذبته من ذراعه لتدخله داخل الفيلا
هاتفة بلهفة:
-حمد الله على السلامة يا زين أخيرا جيت يا حبيبي، أنا بقالي أسبوع بحاله مستنياك و بتصل بيك على تلفونك مش
بترد عليا، قربت اموت من القلق عليك يا إبني.
حاوط كتفيها بذراعيه ثم ألقى بنفسه بين
أحضانها و هو يشهق بالبكاء كطفل
صغير متمتما بكلمات
متقطعة:
-سامحيني، يا أمي، ابوس إيدك سامحيني
أنا مقدرتش أحافظ على أمانة بابا اللي
سابهالي.
شعر بتصلب جسد والدته التي شهقت
بذعر و هي تبعده عنها هامسة بصوت يكاد
لا يسمع:
-يعني الكلام اللي بيقولو داه صح، إحنا فلسنا
و مبقاش حيلتنا حاجة.
تراجع إلى الخلف بخطوات بطيئة و هو يمسح
دموعه خافضا رأسه إلى الاسفل خجلا منها
و لم ينتبه لتلك التي **ى الشحوب وجهها
حتى أصبح يحاكي الأموات و مع ذلك سمعها
تنبس بصوت شعر بوجعها ليغمض عينيه
بعدم تحمل:
-هنروح فين؟ و هنعيش إزاي؟
شعر بغصة تتشكل في حلقه بسبب
أسئلتها العفوية التي ضاعفت إحساسه
بالعجز و قلة حيلته التي يشعر بها
لأول مرة في حياته و التي إنقلبت في لمح
البصر، متى، كيف و لماذا، لازال لا يعلم فهم لم
يتركوا له حتى فرصة لإسترجاع أنفاسه
المسلوبة في ذلك السباق الذي خسره
منذ البداية و خسر معه كل ما يملك.
لو كان وحده لكان أهون لكن معه والدته
و التي لايزال لا يعلم مالذي سيفعله بخصوصها.
لم يكن أمامه حل سوى طمئنتها بكلمات واهية
و وعود كاذبة ليهتف بصوت متحشرج:
-إطمني يا أمي، أنا لسه عندي شوية فلوس
مخببهم على جنب هندبر بيهم أمورنا لغاية
ما ربنا يف*جها.
كان يتحدث بارتباك متجنبا النظر في عينيها
مباشرة لتعلم بسهولة أنه يكذب، فهذه عادته
منذ أن كان طفلا صغيرا.
شهقت بصوت عال و هي تحاول أخذ أنفاسها
المسلوبة بعد أن شعرت باختناقها و عجزها
عن التنفس، توسعت عيناها و برزت حتى
كادت تخرج من محجربهما ثم ترنحت
بسبب إرتخاء جميع عضلات جسدها التي
أصبحت غير قادرة على صلب طولها.
صرخ بهلع و هو يتلقفها بين ذراعيه
و يحملها ليضعها على الاريكة، قلبه
يكاد يتوقف في مكانه عن النبض من شدة
رعبه ان يخسرها، أمه الحنونة الوحيدة التي
تبقت له بعد أن خذله الجميع.
مسد على وجهها و هو يشاهدها بعجز
تصارع الموت و لم يكن في وسعه سوى
البكاء، إستجداها أن تتمسك بالحياة و أن
لا ترحل من أجله:
-ارجوكي يا أمي حاولي تتنفسي كويس
إنت مينفعش تسيبيني انا، إحنا لسه عندنا
فلوس مخسرناش كل حاجة صدقيني
و حتى اللي خسرناه انا هرجعه، إبنك
راجل يا أمي و هيقدر يرجع كل حاجة
راحت منه إديني بس شوية وقت.
وقف من مكانه و هو يبحث عن أي شيئ
يساعده لكن عقله في تلك اللحظة كان عاجزا
عن التفكير من هول الصدمة و هو يتخيل انه
من الممكن أن يفقدها هي أيضا كما
فقد ثروته و كل شيئ يمتلك، لكنه لن يتحمل،
كل شيئ من الممكن إستعادته إلا هي، كيف
سيعيش بدونها و كيف سيسامح نفسه إن حصل
لها أي مكروه.
وقع بصره على كوب من الماء فوق المنضدة
ليلتقطه و يفرغ القليل منه في راحة يده
ثم بلل وجهها برفق و هو لا زال يناديها
و يترجاها أن تستيقظ.
إرتخت أطرافه و توسعت عيناه التي
إستحال بياضها إلى اللون الأحمر الدموي
و هو يراها مستكينة في مكانها لا حول ولا قوة
لها، جامدة لا تتحرك.
سقط على ركبتيه التي إرتطمت بالأرض
و إنحنى بجسده عليها رغم رفع أنامله
حتى يتحسس وجهها الشاحب من جديد.
و كأن الزمن و العالم توقفا من حوله، حتى
الأشياء لم تكن ظاهرة له، فكل ما يراه
الان أمامه، هي فقط ، والدته.
حرك ل**نه بثقل و هو يتمتم دون أن يدري
إن كان صوته واضحا ام أنه لم يتجاوز
حدود شفتيه:
-أمي....فوقي، انا بكلمك.
إلتفت حوله من جديد و هو يصرخ هذه
المرة بصوت عال و ينادي بأسماء الخدم
الذين كانوا يعملون هنا لعل أحدهم يجيبه
و قد نسى من هول صدمته أن الفيلا
فارغة و أن الجميع غادروا، فقط هو و والدته من تبقيا فيها.
جن جنونه بعد أن مرت عدة ثوان بدت له
طويلة و مع ذلك لم يجبه احد ليقف بترنح
على قدميه و يهرع بخطوات متعثرة نحو
باب الفيلا مستأنفا صراخه من جديد على
حرسه.
-يا علي..يا حسين، إنتوا فين حد يكلم
الإسعاف أمي بتموت يا كامل.
إلتفت وراءه و هو يكاد يختنق بأنفاسه
اللاهثة بينما كان ص*ره يهبط و يعلو،
جسده كان يرتعش برعب لدرجة أنه قد
تعثر عدة مرات و سقط في طريق عودته
نحوها، لم يصدق أخيرا عندما جاءه الف*ج
على شكل حارس وفي لم يستطع المغادرة
كباقي زملاءه الذين ما إن علموا بخبر إفلاس
صاحب عملهم حتى تفرقوا دون أن يكلفوا
أنفسهم البقاء و لو ليوم إضافي للإطمئنان عليه
رغم أنه كان يعاملهم و كأن أصدقاءه و ليس
كعاملين لديهم.
لكن هكذا هي الدنيا تظهر لنا الصديق الوفي
وقت الشدائد، دلف ظافر عزالدين و هو شاب في
الثلاثين من عمره إلتحق بالعمل عند زين
منذ ثلاث سنوات تقريبا طويل القامة عريض
المنكبين بشرته خمرية و عيونه سوداء حادة
هو الوحيد من بين زملائه من كان يأتي كل
يوم للإطمئنان على السيدة صفية التي
بقيت لوحدها في الفيلا بعد سفر زين.
كان يعبر الحديقة باتجاه باب الفيلا الذي تفاجئ
بأن مفتوح، ظن أن هناك خطب ما و قد صدق
حدسه عندما سمع صوت صراخ زين.
أكمل طريقه ركضا نحو الداخل ليجد
تلك السيدة الطيبة ملقاة على الاريكة
كجثة هامدة بلا روح بينما كان زين يبكي
و يصرخ و يحاول إفاقتها و يبدو أنه لازال
تحت تأثير الصدمة، تمالك نفسه على الفور
فلا وقت لديه الان ليستل هاتفه و يتصل
بالاسعاف و يؤكد عليهم الحضور فورا
ثم هرع نحو زين ليبعده قليلا و يأخذ
ذراعها حتى يتفقد نبضها و الذي وجده
ضعيفا.
توسعت عيناه و هو يرى ظافر أمامه
كغريق شارف على الموت لكنه فجأة رأى طوق
نجاة أمامه أعاد له الامل في النجاة ليتعلق به على الفور، تمسك به يتوسله بعيون دامعة:
-أرجوك يا ظافر كلم الإسعاف، أمي بتموت
أنا السبب أنا اللي خليتها كده.
ربت ظافر على ذراعه بمواساة و هو يطمئنه:
-متخافش صفية هانم هتبقى كويسة
و الإسعاف زمانهم على وصول، حضرتك
لازم تشد حيلك عشان تعرف هتعمل إيه؟
أغلق زين عينيه بيأس و تهدلت أكتافه
بعجز و هو يتمتم بضياع:
-مش عارف هعمل إيه؟ أنا خسرت كل حاجة
الشركات و الفلوس و العربيات، حتى الفيلا
دي مبقتش ملكي بس أنا مش عايز أي
حاجة دلوقتي غير إن أمي تبقى كويسة.
أومأ له ظافر و هو يطمئنه حتى سمعا صوت
سيارة الإسعاف التي قدمت لياخذو صفية
نحو المستشفى على الفور.
داخل اروقة أحد المستشفيات الحكومية
كان زين يجلس على أحد الكراسي البالية
و بجانبه ظافر الذي أصر على مرافقته،
يحدق بشرود من يراه يعتقد أنه يعد بلاط
الأرضية لكنه في الحقيقة كان يحاول
التفكير و إيجاد حل سريع حتى يسدد ثمن
تكاليف علاج والدته فهو في هذه اللحظة
لا يمتلك سوى بضعة مئات الجنيهات،
بعد أن طمأنه الطبيب على صحتها
و أنها فقد تعرضت إلى جلطة دماغية
أدت إلى إصابتها بشلل نصفي مؤقت سوف
تشفى منه بعد فترة قصيرة لكنهم الان
مضطرون إلى الاحتفاظ بها لديهم
تحت عناية و إشراف الأطباء حتى
يتمكنوا من مراقبة تطور حالتها و من المحتمل
أن تطول مدة بقاءها إلى أسابيع أخرى.