١
منبه الساعة ضحية كل ساهر بات الليل ضيفه!!
رأسها محشور بالوسادة، منبه الساعة يشكل نوتة موسيقية لحلمها الرائق.
انفصل رنين المنبه لتقاطعه نغمة الرسائل التي تبدو كنداء عصفور، وشاطرت زقزقة العصافير النغمة الافتراضية للهاتف، مما جعلها تدخل بموجة متخالطة الأصوات، وبدا النشاز يظهر بوضوح لأذني العازفة الخبيرة الغائبة عن الوعي!!
بمزاج عكر استيقظت، استقبلت القبلة وصلت الضحى وبعد إتمامها الصلاة، امتدت يدها للطاولة الصغيرة قرب سريرها استلت ملاحظة من كُتيب الملاحظات الملونة وكتبت عنوان يومها على الجدار الخاص بتدوين الملاحظات اليومية في زاوية عمدت بثها كل مشاعرها
-سنغدو رفاتاً ويبقى الأثر ..
قبل سنوات ثبتت أقدامها في البلد برفقة عائلتها الصغيرة المكونة من والدتها وخالها وزوجته وبناته، تزوجت أحداهن وارتحلت عنهم في محافظةٍ أخرى وهي الآن تعيش بالقرب من خالها منفصلة عنه بغرفتين تجاوره السكن!
طرقات الباب عطلّها عن إعداد قهوتها، كان خالها وعائلته الذين مرّوا بها أولاً قبل توجههم لمحافظة السلط لعيادة ابنتهم هناك استقبلتهم ببشاشة وهتفت:
-لا تخافوا هاي أنا روبي بس توني صحيت من النوم ..
ضحك خالها وضمها إليه :
-والله قمر بكل حالاتك
انتشت بقوله وغاضت حنين ابنة خالها التي كشرت وأردفت تعليقها:
-لازم أخدنا صورتك وضفناها لمبتسمون رغم الإعاقة
-يا خالو أجبر بخاطرها وأحكيلها قمر متلي لا توكلها الغيرة!
متبرمة بلهجة مستخفة تسأل حنين..
-من شو أغار بس فهميني؟ من شعراتك اللي طالعات شبه الأنتين؟؟
وبكيد مدروس بعناية فائقة ..
-شعراتي الناس بتموت لتعمل متل تمويجتهم!
ركلة جزاء مسددة بجدارة وحنين لا تضيع حقها فتبحث الفوز على الدوام طال تراشقهما بالجمل المغيظة حتى أنهى القول خالها:
-عندك شي اليوم، ولا كالعادة ملحوقة؟
تأسفت ملامحها وأخبرته بأنها لا تستطع الهروب من عملها:
-بدنا نروح على ميس اليوم، رن علي كنان وقلي يا جدو اشتقتلك ..
وبحروف حانية توشحت بالشوق أكمل ..
-أكل قلبي هالحيوان وما قدرت أنام وصورته بين عيوني!
بعينيه أشار نحو حنين ورحاب الواقفات :
-وما كذبوا خبر بنات خالك وخلوني أسري سروة من الصبح
تحثه بابتسامة مشجعة:
-ليش لأ روح وغير جو وانبسط إلك فترة هالك حالك ..
تغضن جبينه :
-وأنتِ مو حابة تغيري جو معنا ..
تأتي إجابتها كاذبة، لكنها تود أن يرفه عن نفسه في أحضان ابنته عوضاً عن أحضان السيارات ومحل تصليح السيارات ..
-أنا مبسوطة وبدبر حالي .
تقدمت زوجة خالها :
-كل شي بدك إياه بمكانه ومعك نسخة من المفتاح ..
وأضافت :
-صحيح في أكل موجود في حال جعتي بس سخنيه
تبسمت :
-طيّب، يسلم إيد*ك يا حنونة .
أشعل خالها سيجارته، نفث تبغها وقال بضيق:
-لا تمري اليوم على صفا، بدي أمرلها أنا والبنات قبل ما بنطلع وبطمنك عليها ..
وصفا والدتها التي سُجيت بلا حراك منذ سنوات حتى أحالوها لأحد دور الرعاية عاجزين عن تكفل مصاريف علاجها..
غشى الحزن وجهها وهزت رأسها له، استعدوا مودعين إياها مع نصائح خالها المعتادة ودعواته، فاستقبلتها بمحبة وطلبت منهم المكوث أكثر:
-ادخلوا جوا لسى ما شربت قهوتي، نشربها سوى!
-شربت شاي حبيبتي وفطرتنا ناني قبل لا نطلع ..
-بابا ما بشرب قهوة، بشرب شاي تقيل مو من جماعة القهوة والثقافة تبعتك.
تقولها حنين بمدة ل**ن مهرولة على السلالم تهرب من رد لاذع ولم تستطع عروبة أن تجيبها إلا ب
-سلمولي ع ميس وبوسولي الكتاكيت وانبسطوا.
ناظرت نفسها مجدداً بمنامة متغايرة القطع والألوان وسألت نفسها ..
-كيف طلعت عليهم بهالمنظر؟؟
ضغطت زر تشغيل المذياع الذي ضبطت تردد موجاته على إحدى محطات بلدها الأم، جزيئيات من ثوان و صدح صوت المذيع الذي ترعرعت طفولتها على صوته المليء بالحب، يرثي حال البلد التي أحبتها بصوته كما تبكيها الآن بصوته!! متسائلة بألم أيبكي الصوت، وينعى الوطن بأوتار وحبال صوتية؟
تعايشت على الأنباء المليئة بلون الدم، بإعلام بات يتفنن في الوجع، يخبرك صباح الخير على طريقته ب انفجارات ومركبات مفخخة، وقائمة تضم شباب اشتاقوا
لضم الأرض وتذوق التراب المعبق بالمسك فعاجلوا الحياة بموتهم، الوعد يا شمس! ظلام البلاد طال مكوثه، اصدحي بشروقك!
جمرة استحكمت داخلها، ولا خير أفضل من الموسيقى لها؛ ثورة بمفهوم آخر تحاكي المشاعر العاصفة حينها، قلبت زر القناة ، منتشية بم**ر مارسيل...
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
أجلّت الحديث مع بارعة التي بعثت إليها برسالة ضرورية لمهاتفتها، خللت أناملها في خصلاتها المتشابكة، وبتقييم سريع لمنظرها والفنجان في يدها زارت مدونتها الشخصية، ونثرت صباحها على الملأ.
الاسم :عروبة ..
عربية الهوية وطنية الهوى!
الوظيفة: مدققة خاصة لدار نشر بلا شهادة!
لم تنتظر بارعة اتصالها، عاجلتها بمكالمة جاء صوتها فيها صارخاً بسباب تعرفه والكثير منه تجهل، حدثتها بلهجتها علّها تستعطفها والعطف محال..
-قبل ما تبهدليني أسمعي
دعكت جبينها بالسبابة والوسطى وفي نيتها كذبة :
- ما شفت التلفون، أنشغلت بتدقيق "قرطبة" سهرت عليه ومن شوي تركته.
و بارعة خير من يعرفها و فشلها في الكذب فشهقت توبخها..
-روبي، بلا منه الكذب تبعك، أنت فاشلة عفكرة!
لم تستغرب تص**حات بارعة المعتادة عليها ..
-عموماً ما رنيت عشان سواد عيونك، معي خبر لو تعرفيه رح تيجي زحف للدار يا روحي!
تفتحت عيناها بدهشة :
-وشو هالإشي اللي رح يخليني أجي زحف عليكم، أنا بالسيارة قاعدة أجي وبالعافية ومع ألف تنبيه.
التماع المكر غلف الموجة الصوتية، بشكل أ** أذنيها ونبضاتها تتوجس ترقباً..
-أحزري مين كان عنا اليوم؟؟
أبصرت الساعة المعلقة لم تتجاوز التاسعة ومن سيزور الدار شبه المهجورة صباحاً؟
-مين؟ ليكونه "ناهض عزيز" مثلاً؟؟
تهتف باستخفاف، وصوت حماسي يشبه مفرقعات العيد
-هو بذاته يا روبي..
تستقيم بالعواطف وتميل .. وفي ميلها لكاتب يبسط أفكارها في كتبه دون علمه، ينادي لما يأمل وله تسعى، مختطفاً إياها في هالته ولجديده عطشى، لم تملك سوى القفز حينها، باغتتها الصدمة فسألت مستنكرة.
-مستحيل!!
وبارعة تؤكد ..
-"ناهض عزيز" كان أول زبون نوّر الدار اليوم..
الجو مشحون بالجنون، ذراته تلبستها وحلقّت حولها ..
-أحكيلي إنها مزحة بالله عليك؟؟
-بشو أحلف إنو كان هون
بلهفة تقطع على بارعة الحديث ينساب الكلام منها بسرعة متخبطة
- كيف ما بتحكيلي بوقتها؟
ترفع أناملها نحو فمها تقضم طرف إبهامها مستمرة بحديثها:
-أنت أكتر حدا بيعرف شو نفسي أشوفه وبمكانته عندي!..
بين الاحتمال والمحال في رؤيته مجهول الهوية يخرج خيار العدم من اللاشيء، يباغت ضوضاء العدمية لهفة تقتات على الأمل
-طيب شكله؟ ما عرفتيه ، سبق وشفناه!! وجهه مألوف ولا شو!
تصرخ بارعة لضبط مكابح الاندفاع بصوت يوازي علوه هذيان الأخيرة..
-لك أهدي، ما شفناه أساساً، كان مع أباد قبل ما نوصل...
أخرستها المفاجأة ببثها لون ببهوت:
-بس هيك!!
-كان موجود بعد التمانية، هاد يلي عرفته، نص ساعة وألاقيك مزروعة عندي بالمكتب.
هذا يوم حظها بلا منازع، تحظى بعناق الحروف التي نسجها، بل وتكون بين يديها تنقحها بذاتها تتعرف عليه، والنسخة الأولى معها شيء لم تجمح به أحلامها الكثيرة!
توقفت أمام خزانتها تملكتها الحيرة في انتقائها بما يناسب اللقاء ورؤيته ولو كان اللقاء متمثلاً بحروف مخطوطة على ورق.
لطالما لم تعترف بشخصنة الكُتّاب، بل كانت على الدوام تلتقي بحروفهم وتجري معها النزالات!
حسناً لربما أعاده الطريق، وجاء مجدداً للدار وتقابل عينيه ولو بنظرة خاطفة..
تفصحت هيئتها التي بُدلت كثيراً لتستقر أخيراً على سروال واسع بلون أ**د، وسترة رسمية تماثله اللون، و**رت الأ**دين بلطخة عسل لحجابها الذي ربطته بعقدة أنيقة، ثم ربتت على طقمها بحسرة مقلبةً عينيها بشغب لطيف..
-وعد شرف، ما رح ألمس الدهان ولا الفحم رح تضل بلونك الطبيعي
أتمت زينتها، وخطت خارج المنزل وعلى عتبة بابها اتصلت بدار الرعاية اطمأنت على وضع والدتها ونهبت الطريق تعاجل موعدها.
ساعة ونصف أو أكثر بقليل كانت تشرع بوابة الدار لاحظت سيارة يستقلها اثنان رمقتها باستكشاف فلم تتعرف إلا أباد وحين لاحظته يستقر ببصره نحوها أشاحت بوجهها وعجلت بمشيتها نحو الباب تتقدم بخطواتها نحو مكتب بارعة..
-ما تأخرت يا بيرو يا الله شو حاسة بطاقة!
وببادرة لم يسبق لها أن فعلتها زرعت على كلا وجنتي بارعة قبلتين مشبعتين حباً ولا ترحم دهشتها ثم ربعت يديها واستندت بحافة المكتب وبحماس حقيقي:
-أحكيلي كل شيء بالتفصيل لو سمحت..
قلبت بارعة عينيها تشوح بالقلم بيدها:
-ما في تفاصيل بالمناسبة اجى بكير كان مع أباد اللي قللنا هاد مدير أعماله، ووقع ال*قد معه وبس..
كشرت بفمها
-وبس..
أومأت بارعة، فتقدمتها ووجهها تملؤه التساؤلات المترقبة:
-شفتيه؟؟
نفخت بارعة بضيق:
-قلتلك لأ.
واستطردت كمن تذكر شيئاً ما.
-شفته وهوي عاطي ضهره..
حدجتها بريبة مستكشفة ..
-وكيف كان؟
بغيظ تتساءل، وصبرها زاده قليل ..
-مشان الله جاوبيني، رح أموت وأنا ملهوفة ع تفصيلة صغيرة عنه
-كان لابس أ**د، وطويل هاد يلي لحقت ألمحه
ضيقت عينيها وأسهبت في الوصف:
-وصح شي تاني هيك بتحسيه مهيوب.!! وهلأ لو سمحت طيري من وشي (وجهي)وبطلي تزعجيني.
ومن ثم أشرت بعينيها لغرفة أباد
-رح نلتقي بغنيمة الموسم..
فرقعت بيديها تعيد تلك الساهمة في الفراغ بابتسامة بلهاء واضحة مرتسمة على وجهها والضياع يلون ملامحها بالأحلام المراهقة ..لم تتأخر بارعة التي تضيق عينيها تمعن النظر فيها تتساءل بخبث
-حس الأناقة عندك اليوم مرتفع كتير؟؟
وتجيب ببساطة لا تعرف للتلوي طريقاً
-كأني كنت رح أنول شرف مراجعة كتابه، أقل واجب بعمله...
وختمت جملتها تشير إلى طقمها الأنيق تمس ياقته بفخر مفتعل..
-طالعة بتجنني، بس رجاءً لا تضيفيه لقائمة الإعدام !
-طمني بالك محطتي بعد الدار دار الثقافة بدي أراجعهم عشان البازار الثقافي السنوي للجاليات العربية
ناظرتها بارعة متفاجئة..
-حددوا موعده؟؟
أومأت الأخيرة برأسها وهي تنهض وتنفض طقمها من تجاعيد وهمية..
-إيووه الأربعاء الجاي، فحضري حالك، وهلأ رايحة أشوف أباد وادعيلي ما أرتكب جريمة فيه إزا ما كزب وخبى أكياس القهوة متل عادته!
-رح أنكت المكتب نكت لأطلعها وحياتك.
قهقهت بارعة بصوت مرتفع ولم تستطع الإجابة، فشوحت بكفها لها وهي تخرج من عندها "نلتقي" وأتبعتها بغمزة شغب.
الاسم: بارعة ..
مبهرة كدمشق، وفي ملامحها بأس ورثته من تدمر!
الوظيفة : رئيسة تحرير في دار نشر للمجموعات القصصية