كُنت أحتضِر، وعلى وجهي نَثر شحيح مِن الضُرّ
جائِرة هِي الحياة إذ ت**ِر أجنِحتنا بانتِشاء، ثُمّ تُراقبُ خطانا تجنَح وتترنّح بينما نسعى إلى التكيّفِ وما كتبته لنا مِن بأس، نتقهقر حينًا، وننهار حينًا، نُدمِع حينًا، ونتقطّع حينًا، كُنّا مِن آل السّماء، فكيفَ فُقِع عُلانا، وقُمِع غِنانا، وانقلبنا خائبين، منفيّين إلى الغبراء!
يومَ اقتصَّت الم**ّةُ والديّ مِن مرجِ الدّنيا النّضِر، تسابقت أوتارُه إلى التيبُّس، وتداعَت أصباغُه بفُتور سويَّا وسيقانَ الحاضِر، فجُدران رحمي ضمرت وانكمشت، وأنا ما أزال في جوهرِها، أغذّي وجداني مِن عاطِفتِها الدّافِئة، ليصِحّ وجودي.
لقد تكفَّن جوّي الّذي أجادَ مُلاطَفة الألوان بالورقِ الّذي لطالَما احتوى خواطِره الرّائِقة، واستعمرته روابٍ سود مِن الأوزار، كريهةُ المرسم، غمّت عن بصري الأنوار، فمزّق قلبي المغص، أمرَّت لِساني الغُصص، وأبهت روحي النّقص
إنّي كيان تبنّاه الجوى، وغارَ بين خِصامِ النّجوى والشّكوى، فما نجَد رأسُه مِن سُفلى القهرِ إلى رأسِ الهوى
وإذا ما تجاسرتُ، وتسلّقت الأسوار المرصوصة بيني وبينَ الفضاء، مُقتاتة على ما اختزنه مِزودي مِن آمال خِسئت إلى الحضيض، لم ألبث وأن استسلمت عن اقتِطاف نجمة الغاية مِن شجرِتِها المُحرّمَة عليّ دون الجميع، رغم نقائي مُقارنة بهم
كُنت أتمضمض بعلقَمِ الذكّرى، وأبصق دِماء روحي رويدًا رويدًا، حتّى خويتُ منّي
ولكن كُلّما قبّل الشّحوب محيّاي، وتطاولت أذرعه ابتِغاء اقتِناص خصوري، طرحته على مُلاءة الرّفض واعتليته فغدوتُ أكثَر مِنه شموخًا، وكُلّما مزّقت الوحدة مُقلتيّ وأبكتهُما، رتقتُ تمزّقها بالجفاء، وانصرفتُ عن الشّكوى، كما ينصرِم الزّمَن بغير رادِع
خشيتُ أن أمدّ يديّ وأتمادى في اغتِراف الدّفء مِن حُضن أحدهم، فأنحَلّ فيه وأميع كالمسحوقِ في الماعون، بغير قدرةٍ على الرّجوعِ إلى ما عجنته لي مِن صلابة. خشيت لو أنّي اتّخذتُ مِن فُؤادِ أحدِهم مضجعًا، صار لي في يومٍ من الأيّام مرتعًا
أمّا الملاءات الّتي فرشتُها على مُحيّاي، سويًّا وسجيّتي، فرادِعات تحول بيني وبين الجميع، حيثُ تسمو مُقلتيّ عدستان زجاجيّتان الكُلّ يعجزُ عن تخطّيهما، والجريانِ في مضماريهِما نحوَ فُؤادي؛ فإن ما غزاهُ أحد، أمِنتا إلى الأبَد، أمِنتا هُبوب النّزوات، ولهيب البكوات
ما يحفّ جفنيّ، ما ينبري مِن شفتيّ ويدبّ على نبري، ما يُؤطّر عينيّ وما يُسطّر كلِمي، كُلّها أسلِحة جنّدتُها لتنفير النّاس وحمايتي مِنهم، حتّى أتلافى رغبةَ البعض بالغوصِ في أعماقي الدّهماء. رغم ذلِك لا أزال أشدّ إليّ البعض مِن ذوي الّذوقِ المعاق!
استمعتُ إلى المُحاضرةِ الّتي ألقتها المُعلّمة على مسامِعي بضجر، تحدّثت حتّى جفّ حلقُها مِن الكلِم، حينئذٍ أعتقتني فغادرت بصمت، دون أن أستردّ ما سلبته مِنّي؛ المِقلمة الّتي هجّرتُ مُواطنيها وأحللت مساحيق التّجميل بدلًا عنهم
هويتُ بخطاي الرّتيبة على الأرضيّة ذاتِ البلاطِ الأبيض، و الأفكار تتهافت بين تلافيف دِماغي، مُعقّدة أكثَر مِنّي، الرّجُل ذو العينين الموبوءتين **ماءٍ شتويّة، زرقاء، قريرة، تُرقرِق تحتها الأبدان. كانَ ذاته، طليعة الشّؤم في حياتي
ما زايدتُ في الحديثِ معه إلّا ليصفعني بهويّتَه في نهايةِ المطاف، اسمَه أو أيّ معلومة أخرى تُسهّل عليّ العثور عليه لاحِقًا، لكنّي عبثًا كُنت أحاوِل؛ لا يبانُ كالطّود فحسب، بل تبيّنَ أنّ ثغرَه لا يتزعزع، وإن تشظّت أعصابُه سُخطًا
لا عجَب أنّ ذاكِرته لم تألفني، فقد كُنت طِفلةً صغيرةً آنذاكَ، حتّى أنا بالكادِ ميّزته، فأصّيصه عينُه، لكنّ ورودَه شاحِبة، كأنّها مهملة مُنذ الأزَل، رأيتُه فكما لو أنَّ التّحريفَ قد مسّ بشخصِه، حدّ أن مراه ونقَش غيرهُ عليه، والخشونَة كبرت فيه، والقسوةُ استكبرت
ولِم العجب، أوليس هذا مآلُ الجنود إذ تطوّق خواتِم السّلطة أصابِعهم!
يُقال أنّ الكرِش إمارةُ الغِنى والتّرف، وبما أنّ لا كرِش له، فمظهرُه الكلاسيكيّ الّذي يُعادِل وزنُه ملايين الدّولارات كافٍ لأجزِم أنّ حياتَه رسولٌ مِن الجنَّة له، دونَ ذِكر شعره، من يخال نفسه؟ مُحارِب مِن مملكة الجوسون مثلًا؟
في مُروري كُنت لافتِةً كالشّذى، ما إن أشيعَ حتّى تضيعَ أبصارُ الجميع، ليسَ لأنّي الأعظَم فِتنة على الإطلاق، بل لأنّ سُمعةً زكيّة تفوحُ مِنّي.
الطُّلاب هُنا يدينونني بإغواء مُدير المدرسة، بل وحتّى إعارته ليالِيّ، يُبرّرونَ الجُرمَ الّذي ينسبونه إليّ بِحِفظي لمكاني رغم فظاظتي وسلاطة لِساني. أناسٌ حمقى، لا يجيدون سِوى الثّرثرة، وبِناء الأكاذيب انطِلاقًا مِن طوبةِ حقيقة، لملء فراغاتِهم
عُدت إلى الصفّ مِن حيثُ أتيتُ سابِقًا، لقد انتهت الفسحة، والالتِحاق علينا واجِب، كانَ الطّلاب مُوزّعين على بعضِ الطّاوِلات في شكل تكتّلات تضُمّ حُفنةً مِنهم باسم الصّداقة، والمكان يعجّ بلجبهم وضوضائِهم. أحيانًا أحسد مجالسَهم
مِن البابِ إلى طاوِلتي الواقِعة في ذاتِ خطّه مركونةً بجوارِ النّافذة، سرت باستِقامة، أخرجت مِن طوقِ تنّورتي أحمر شِفاه ومرآة، ثُمّ عقفتُ جسدي جلوسًا، وجرّعتُ شفتيّ نسبةً مِن الاحمِرار، أُرمِّم الحَوَل الّذي ألَمّ بهِما بتركيز
" لا يستقيم يومي إلّا باعوِجاجِك"
توقّفت عن تحريك أحمَر الشّفاه لا إراديًّا، ما إن سمعتُ صوته
هذا الدّخيل، غِرٌّ في شفرةِ المُراهقة، أبيضُ الخِلقة، أدهم الخُلق، ذو أنفٍ انحِداريّ، شِفاه مُدبّبة، وشعر أشقر، فارِه المنكبين، فارِع الطّول، مُترف القلب والجيبِ، مُرفّه عن تسوُّل العاطِفة والاهتِمام، له الكثير مِمّا يجعَله يوزّعُها برعونة... بانغ تشان
ما تكبّدتُ في سبيلِ الإشرافِ عليه بِنت عين، بل واصلتُ طوافي بملامِحي المخطوطةِ على المرآة كطرقٍ لا تُشبه خارطَتي البتّة.
أمّا هُو فما اكترث بتجاهُلي له
" أتعلمين... ينغز التوجُّس دواخِلي إن لم أشهدكِ تُحدثين الهرَج والمرج في المدرسة، يكادُ الأمر يصير روتينا حميدًا، شُهرتك تفوّقت على شُهرة حسناء الثّانويّة "
أضاف وهُو يُبعثر ذراعيه بدراميّة
" المُشاغِبة الّتي لا تُطرَد مهما بغَت "
ما كان الانسِحابُ بكرامةٍ مُدرجًا في مُعجِمِ تصرّفاتِه، هُو لحوح، سيُطلق ويُطلق حتّى أنطِق
" ما المسألة هذِه المرّة؟ "
مِن أقاصي التبرُّم جاءَه عِباد ثغري، بينما أنامِلي نافذةٌ في شعري، تُسَلِّك بعضا مِن اشتِباكاتِه
" شُؤوني لا تمتّ لكَ بصلة، فلتكبح فُضولَك عنّي إن كُنت تخشى عليكَ مِن أن تتحوَّل إلى لحمٍ مُدخّنٍ بسُخطي "
خلَدت يدُه إلى حِجر طاوِلتي الشّاغِرة إلّا مِن ظِلالَ الأوراق، أوراق الشّجرة الّتي تُوازي نافِذتي. عبر ضواحِي لحظي الأيمَن الواقِع على حُدودِه، لمحتُ توازُن ثغرِه الدّامِي يختلّ لعُقلةٍ مِن الزّمَن، قبل أن يُذيعَ سُخريتَه جِهارًا
" شراستُك هذِه ستُمزّقُكِ يومًا ما "
مثّلتُ الصّمَم، رغمَ إيقانِ كلينا بأنّي لقِفت كُلّ ما قالَه، فأذنيّ سانِحتين، ليسَ ككلّ مرّة أُشحّمُهما فيها بزخمٍ مِن الموسيقى. كببتُ المرآة بالطّاوِلة، بجوارِ غِطاء أحمر الشِّفاه المُخمليّ، والّذي سفّرتُه إلى موطِنه، ثُمّ نصبتُهما بقُربِها
اقتفى كُلّ خطوةٍ أدّتها يداي باهتِمام، وبينما أنا أستعِد للخشوع في منظرِ الفلك الأزرق، هرعَ يقتطِع تذكرةً له فيّ، كأنّه يجهل أنّ طائِرتي تطوفُ الفراغَ، محظورةً مِن شحنِ ركّاب
" إنّها مساحيق التّجميل، مرّة أخرى. "
غامَر بالمَساس بذقنِي حيثُ أفرشَه أنامِله وأعلاه، ثُمّ تكفّلَ إبهامُه بإقلالِي إليه، هُو مِن القِلة اللّذين يُنزّهونني في أعينِهم مِن حينٍ لآخر
" لستِ بحاجةٍ لتطويق عينيك بالأ**د حتّى تُشتّتي الجميع مِن حولك، إنّهما سوداوين بالفِطرة، ونظراتُك أنصالِ الخناجِر تُؤدّي فروضها على أكملِ وجه "
ما كانتا سوداوين بالفِطرة، ففي إحدى الأحقابِ المُكرمةِ بالحبّ، تألّقت جواريهِما الكنس، تميسُ بخُيلاء، لكنّ قيدَ المأساةِ خنقها حتّى الموت، وضاع بريقُها إلى الأبد بينما يختبِئ مِن الحياة
ربّما أصابَه صمتي بحُمّى الغُرور إذ هذى وُهو يتوشّح ابتِسامةً ماكِرة، وحاجِبه الأيسر ناهِد.
" ألا تكلّين مِن استجلاب المشاكِل لنفسِك... يا صعبة المنال الخاصّة بي؟ "
ظلّ يُخضخِضني بغير استِكانة، وص*رِي تعمُّه الغازات، بقُدرةٍ إلــهيّة ظلّت معصومةً مِن الانفِجار بي، إن فتحتُ ثغري فسينبثِق مِنّي الحميد، والدونيّ
انتزعتُ وجهِي مِن ظِلال سيطرتِه، وشاحنتُه بنظراتٍ طاغيةٍ في الغضب، غير عابِئة بما قد ألحقه بمشاعِره، هُو الّذي اصطفى العبَث معي
" وألا تكِلّ أنتَ مِن السّير حافيًا مِن الكبرياء وركلِ الترّهات هُنا وهُناك عن أنّا نتواعَد؟ يكفي أنّي لُقمة سائِغة بموائِد الكُلّ، النّكهات الّتي تُضفيها لا تزيدهم إلّا شراهة "
نفضَ آثار الانحِناء عن ظهرهِ الّذي غدا أفقيًّا لا تشوبُه طيّة، وما برزَ على أفقِه أيّ ارتِجاج نتيجةً للهجتي الفظّة والمُذلّة لهُ، بالع**، كان وجهُه مُنجَّدًا بالثِّقة
" لقد غدوتِ الإبرة الوحيدة القادرة على رقع كِبريائِي، استِسلامي عنكِ سيُكلّفني هزيمة تاريخيّة، وسوف يحطّني بمحطّ الأبله. "
تكدّست في قالبي زفرة، نفثها فمِي خارجه يُوفّر لي المساحةً المُثلى حتّى أتنفّس، وأطعِم فجوات الحِنق الّتي أسقمت دواخِلي، وأخذت تختلِس سلامة عقلي.
في تِلك الأثناء مال نحوي مُعتديا على مِساحتي الشخصّية الّتي أحتكِرُها لي، إحدى يديه مُنبطِحة على الطاوِلة، والأخرى تُعانِق رأس كُرسيّي، أي أنّي غدوتُ مُنزويةً فيه
" إن كُنت تشتهين التخلُّص مِنّي بهذه الشِدّة فلتُقرضيني بعضا مِن وقتِك، يُمكنُنا صُنع مشهد وحيد يُلجِم الأفواه، مِن بعدها نفترِق بغير خِلاف "
ردّى صوته بدرجات حريصًا على إبقاء الموضوع بيننا
" لماذا؟ أتشعرين بالإهانة؟ لقد خصّصتِ للمُدير حصّة مِنك، فلِم تستصعبين التبرُّع لي بالقليل؟ ألستُ متفوّقًا عليه في كافّة الجوانِب؟ "
لطالما نبذتُ ما تُنجِبه أفواهُ قلبي مِن نغص وألم، لكنّه هذِه المرّة نفذ إليّ في غفلةٍ مِنّي، حينئذٍ كُنت مُنهمكةً في إماطةِ غضبي بسدّ كفيّ، وكُلّما حمّلتُهما أكثر مِن استطاعتِهما ارتعشتا..
هانَت نظراتِي لوهلة، لكنّها قامت ورضّت موطِن نظراتِه الّتي ما شهِدتُ لها هزّةَ رأفة
" هل انحطّت قيمتي ورخصت إلى هذا القدر ليُراوِدني كُلّ صعلوكٍ أتعثّر بِه عن وقتي؟ "
غضضتُ طرفي خِزيًا، وضعضعتُ ثغري قهرًا، استلزَم منّي لاستِرجاع زَمام برودي، وإنعاش عداوتي للحياة -ليسَ حتّى **ب مودّةِ قاطنيها-سفك العديد مِن الآهات بداخلي.
أتراءى لهُم عتيّة كهرمٍ مُعجِز، لكنّي عاجِزة، يكفي لهدمي انتِزاع الطّوبة الّتي إليها تستنِد أعباء أخواتِها، كُلّي رِياء، ولا أحد قد يرتوي بحقيقتي
نظرتُ إليه بثباتٍ مُجدّدًا وقُلت:
" أنا أفضِّل الرّجل الأكبَر سِنّا، أيُّها المُراهِق "
اختلجَ عُباب وجهه لجُرعةٍ مِن الوقت، ما لبِث أن تدارَك ن**تَه وغمَز
" العُمر ليسَ مِقياسًا للخِبرة... ستُبهِرُك مهاراتي "
سبَح فِكري في مدارٍ مِن التخمينات المعطوبة، كُلّما فخّخت دربه بذريعة تلافاها.
لملمتُ شفتيّ، وأذنت لشدقيّ بالانقِباض، فكرت إلى عُمقٍ قصيّ عن كيف يسعُني **ر عود غروره حتّى اهتديتُ إلى السّبيل، ونحتُّه بلِساني أجوف
" وأجدِ بالرِّجل الوقور الّذي لا يتوسَّل وِدّ امرأة، بل يُسوِّل لها أن تمنحه إيّاه رغم الموانِع "
كانت ضربتي قاضية هذه المرّة، فما نهض الاستياء عن مُحيّاه بعدها، ولا الكلِم. كتَم خيبَته، واتّجه بصمت إلى طاوِلته بالصفّ المُجاوِر لي
رغم أنّ قسط الأحاديث الّتي أحظى بِها معه يغمُرها الشّجار غالبًا إلّا أنّه الشّخصُ الوحيد الّذي يُحاوِل استِدراجي إليه هُنا، ففي حياتِي قِلّة تُحابي الانعِدام. أنا الّتي أحقتُ قلبي بالعوائِق، ليس جميلًا بحَقّي أن أتمنّى لو يخلِق الزَّمن لي فارِسًا باسِلا يقوى عليّ
ولعلَّ جُرم العُهر الّذي ربطني بالمُدير هُو ما يقيني مِن التنمُّر. لستُ الغبرة الّتي قد تُطيّرها نفخة بالتّأكيد، لكنّي أُعفيتُ مِن بذلِ مجهودٍ إضافيّ. مُشاجراتي في هذه المدرسة سواء مع الطلبة أو الأساتذة لا تُحصى، كُلّ منقول يُقال له: الفتاةُ بالأخير، لا تُلقي لها اعتِبارًا
علاماتِي ليست بذلِك السّوء، كأنّها شُعله تهمِس لي أن أطعميني أحطابَ اهتِمامِك فأتلظّى لكِ، لكِنّي حبّذتُ المكوثَ في ظُلمات الفراغ، وادّخار أتعابي لمُجابهة هذِه الأيّامِ المُتحجّرة، والجابية. لا يوجَد من يهتِف لي، ولا مَن يحتفي بنصري، فلِم أعبأ؟
فُؤادي مُقعدٌ، إذ هوى وحُلمه بخليج الواقِع المدبّبِ بالصّخور، هُناك حيثُ ترقُد أشلاؤُه، وهُناك ضريحٌ رغباتي الّتي ما أهديتُها كلّما زُرتُها ولو وردةً بيضاء قد تعني الأمل.
لقد تفشّى اليأس مِن صلبي، فما كان لي هدفٌ أهروِل إليه كالبقيّة، أو هِوايةٌ تشغلُ بالي عن أُمنية والديّ، لم تسمَح لهُما الحياة أن يحضُرا نُضوجي ويفرضا عليّ إرادتيهما
-
عِند المساء المُتجرّد مِن بهائِه، وحيثُ لا تزال السُّحُب تطمِر سُرُجَ النّهارِ، تستحوِذ على ما تغزِله، وتضيء بِه بياضها الّذي نَصَع، عزفَ الجرس نغمتَه الرّوتينيّة المُحبّبة لدى الجميع، وما كادَ يصمتُ حتّى صفِرت القاعةُ وتلاشى الصّوت.
كوني لم أُشَرّح الحقيبةً سلفًا، ولم أُشرِّد مِنها أيّ غرض، اكتفيتُ بإيلاجِ ذراعيّ لوتريها، ثُمّ أجليتُ الصفّ مِنّي، ونضدتُ خطاي على خدّ الأرضيّة بتكاسُل.
أحيانًا يستقطِبني لحنُ الضّحك السوقيّ، أو يُفسِد اتّزان جسدي كتِف أحدهم، فيتشتّت بصري قليلًا، ويرصُد شِلّة أو ثنائِيًا، وأدوا الهُموم، وأدوّا نُسك اللّحظة، يسوؤُني منظرُهم الحسَن، لكنّي أكتفي بالضغطُ على حواشي الحقيبة بينَ كفيّ مُروّحةً عن حسدي، أخبِر نفسي أنّي آمِنةٌ بمُفردي، لا أزرع الأمل ولا أحصد الألم. هذا هُو يومي، صامتٌ، لا ينطِق إلّا كُفرًا
سرتُ بثباتٍ نحوَ محطّة الحافِلات الواقِعة في نِهاية الشّارِع، بعد المُنعطفِ تمامًا، رغم أنّ القنوطَ نحَر أعناقَ سكوني في فضاء الغيرة الأسمر؛ فكُلّما تعثّرت عيناي بالتّكتلات الأُسريّة الّتي تُقام خارِج أسوار المدرسة يوميّا، خُدِشت ذاكِرتي ونزفت آهات صامِتة، أتساءَل لِم يتحتَّم عليّ أن أكون يتيمة، لِم أنا من بينِ القلّة الّتي رُدِمت تحتَ تُرابِ الحرمان الخانِق!
ولأنّ الاستِمرارَ لُزمٌ عليّ، دُست البكوات المُتنامية على صفيحيّ الجافّين، وعبرتُ إلى ضفّة الجفاء، أنامِلي حولَ الأحزِمة تشتدّ، نظراتِي تحتدّ، وضروسي تتعاضد
دامَ قعودي في دُبر الحافِلة، مركونةً إلى اليمين كمِذياع مُهترئ لعشرِ دقائِق مُتوالية. نزلتُ في المحطّة الثّالثة، ودبّت قدماي المحصّنتين بحِذاء رياضيّ على الرّصيف المُعبّد لفترة، توقّفتُ أمام مبنًى جليل نِسبيًّا، مُشيّدٌ بالآجر الأحمر، له باب حديديّ ضيّق، تُحاذيه بوّابة واسِعة مُخصّصةٌ للسيّارات، هُنا ضريحي الأنيق ظاهِرًا، والخانِق باطنا... الميتَم
عبرتُ المدخل بتخاذُل أتمنّى ألّا أصِل، ومُذ أن لمحتُ مُجسَّمًا لرجُلٍ بدين معِدتُه الممتلئة تسبِقه يتوسّطُ الباحَة، أدركتُ أنّ مِزاجي الأخرق على وشكِ أن يُخترق. علاقتي بالمُدير سيّئة للغاية، لاسيما وأنّي شارفتُ على بلوغِ السنّ القانونيّ، أيّ أنّ عِبئي سيُشال عن كاهِليه، هُو لا يُطيق صبرًا حتّى يصرِفني، كأنّه يصرِف عليّ مِن جيبِه!
خطّطتُ لتجاوُزِه دون كلامٍ أو سلام، راجيةً ألّا يُزيل تركيزه عن السيّارةِ السّوداء الّتي أطلق مُحرّكُها شارةَ الرّحيل للتوّ. كُنت شخصًا يستذِلّ حطّ عينيه، لذلِك ألصقتُهما بواجِهة المبنى، خِلت أنّي سأُكلّل بالإعفاء مِن حديثِه الجارِح لكن، لا
" كيم ميني، هل أنتِ تتهرّبين مِنّي الآن؟ "
كلِماتُه المُطعّمة بالخُبثِ اصطادتني مِن بُحيرتي، ولأنّ وجهَه شديد المُلوحةِ عصيٌّ على البلع تمنّيتُ لو تُسيل السّماء عليّ ذريعَة تُقلِّص مِن أمدِ لِقائِنا البغيض هذا، وتُجنّبني الخوضَ في نِقاشٍ معَه، بقيتُ أتمنّى حتَّى ساويتُ قِبلتينا ببرود
سكبَ المَسكنة في عينيه مُترهّلتيّ الجفنين، مُنكمِشتيّ الحافّتين، تبوحان بكِبر سِنّه
" لقد تشبّعت علاقتُنا بالوِفاق، حتّى أنَّك كُنت المُفضّلةَ لديّ دائِمًا، فلِم أنتِ تتجنّبينني الآن؟ "
هذا الرّجُل كغُبار الطّلع، ما عاد يُلقّحُ في قلبي أيّة مشاعِر طاهِرة بعد الآن، إنّما يُصيبُني بالسّعال. بئِسًا لأيّامٍ كُنت أعدّه فيها الحامِي الّذي بعثَه الربّ ليصرِف عنّي كُلّ مُعتدٍ، كان العدوّ، أدخلتُه عُقر داري!
تطايَر الحِقد في عينيّ كأشلاءِ الرّماد غير مؤُذٍ، وليتَه كان يُؤذي
" ليسَ لأنّي خائِفةٌ مِنك بالطّبع، بل لأنّك لا تنفكّ تُعيد على مسامِعي ذاتَ الكلام كأسطوانةٍ مُعطّلة، كُلّما مُنحت الفُرصة أهدرتها بالهُراء "
هُو رجلٌ فوّتَه الموتَ يومَ قبضَ وجدانه، وما ظلّ سِوى النّبض يُسنِد جسده البالي. لم أستغرب أنّه خاطبني بصوتٍ لعوب
" الظّروف قادِرة على تطويعِ آراء النّاس، لستُ أعيد كلامي إلّا لأتحقّقَ مِمّا آل إليه فِكرك، لكنّي أرى أنَّك مُصرّة على اقتِراف الطّريق الأصعَب في هذه الحياة، بالرّغم مِن أنّ مفاتيح التّرف على بُعد تنازُلٍ طفيفٍ مِنك "
نهرتُه وقذفتُه بقليل الحياء فيما سبَق، لكنَّه ردَ عليّ بضِحكةٍ رخوة كالدّهونِ المُتساقِطة مِن بطنِه. ثمةَ فِئة مِن النّاس، خصُّها بقيمة، جريمةٌ بِحقّ الوقت، لذلِك أحاول تفاديه
قلبي تضبّب، نظري تصبّبَ حِقدًا، ولِساني هاجمه بأثخَن لكنةٍ يمتلِكُها
" فلتُلملم مفاتيحَك ولتغرُب عنّي، إن أردتُها ابتعتُ ذاتَها وربّما أحسَن مِنها مِن عند غيرِك، فالُذّبابُ يستميتُ لأجلِ السّكريّات، دون أن يعبأ لنسبة صلاحيّتِها "
حلَّقت يدُه في الفضاء، كان جليَّا أنّها ستهبِط على وجهِي، لكنّي انتزعتُه مِن مداها قبل أن تُدرِكني. لم يرُق له النّفور الّذي جاهرت به، كأنّه أطفأ توقّعاتِه المتوقِّدة، يظنّني فريسةً سهلة لأنّي يتيمة، ومقطوعةٌ مِن اهتِمام الّذين يُشارِكونَني ذات الدّماء، أعظم غاياتِي هي المأوى
وضّب يدَه الخائِبة في جيبِ سِروالِه العريض، وقال:
" لا تأتيني باكيةً يوم تضطرّين لحزمِ حقائِبك والرّحيل قسرًا مِن هُنا، فثمنُك لن يكون غاليًا كما هُو الآن "