الفصل 3

2469 Words
حينما أدركَ عقد ازدِهاري الوداع، وعانقتُه مِن دُبرٍ ابتِغاء الرّجوع، كالبرقِ في طرفةٍ انقَشع، وما تركَ لي سوى غُبار الذّكرى بين كفيّ راكِع كيفَ انخسف كونِي وكيف اضمحَلّت كُلّ البرارِي وما ذرا مِنها سوى فراغٌ مُعدم، لستُ أدري! كأنّ وعيي غمِض لوهلة، أو ربّما عُصِب لئلّا يشهدَ الفاجِعة لُطفًا به، وإذ عادَ كان الإعصار قد لاكَ كُلّ ما رفعتُه مِن اللّاشيء، وأحالني إلى ما وراء الصّفر! وجدتُني في العدَم أهوي بغير اتّساق، كنفضاتِ الودق، لا تتدفّق مِن جفن واحِدة، بل مِن أجفانٍ عدّة، هِي ذاتُها الخروم الّتي طفحت في سمائِي، بعدما كانت أصقاعُها مُتآلفةً على وِفاق، زرقاء مِن أعماقِ الصّفاء، لا تهوى الادّعاء، كما صارت الآن لا أصعَب من البداية إلّا مُحاولة البدء مِن جديد، ببدنٍ في عِداد التعب، تعبٍ لم يُثَب عليه، يُضارِع العودةَ بالزّمَن، ومسامٍ ما كاد يبرد عرقُ إنجازِها السّابِق حتّى بلّلتها دموعُ الرّثاء، أعين ما نالت رمقَ نوم، وسواعِد تشتهي الرّقود على فخِذ الرّاحَة، لا تُريد المزيد على شَفرِ الفلاح، شُطرت نِصفين، كُلٌّ تردّى في قاع مُناف، كأنّي ما كُنت واثِبًا إلّا على أعالي شفرةٍ مِن جِنس الويح، وبدَل أن يُكَرّمَ صمودي بينما أقطعُها وهِي تُقطّعُني بإنصافِ، أشاحَت الحياةُ لي أظهُرها بإجحاف، وأوشحته حيَّة الويل باستِماتةٍ غسلتُ ص*ري مِن آثارِ الماضي، مِن الذّكرياتِ الموجِعة الّتي تفور فيه كالحميم، فتكويه وتحفِره، ولكِنّي ما أكادُ أملأ فراغاتي بالنّسيان حتّى تمتصّها، كما يمتصّ التُّراب الماء، طاهِرًا كان أو عكِرًا، فحتّى وإن سلختُ لحمي بأظافِر النّسيان سأظلُّ أذكُر وما بينَ أمسٍ عنيد، وغَدٍ و***د ضاعت الرّغبة الّتي لطالما عانقت أضلُعي، وخُصِيَ فُؤادي مِن كُلّ جميلةٍ لطالما لاطَفت زُغبه، وأضحكت خفقاتِه بصدق، فلم يتمكّن مِن إرضاءِ ذاتِه، على سرير السّعادة، وكما تلذّذت بإيلامِه الان**ارات تلذّذ بالإيلام - لا أحبّ الهُدوء، لأنّه يجعلُني أفكّر، وهُو كُلّ ما يشغلُ محيطي خِلال هذِه اللّحظاتِ الدّهماء في عِزّ صُبحٍ وضّاء. كُنت قد استبدلتُ ثيابي المدنيّة ببذلتي العسكريّة، ذاتِ الدهان الأخضر الزيتيّ، والّتي يُحلّي كتفيّ سُترتها أربعُ نجوم خرساء، تحكي عن أمجادي! وإلى حافّةِ النافذةِ الّتي سكنتُ قُبالَتها لأتفرَّج على عُرس النّهار الصّامِت، يسكن كوب أبيض، مليء بالقهوةِ المُركّزَة، شأن أفكاري، في مِثل هذا الفراغ القاسي بين إصبعيّ يدي اليُسرى؛ السبّابة والوُسطى، تندسُّ لُفافةٌ خبيثةٌ مِن التبغ. كُنت أُلثِّم شفتها باحتِياج، ثُمّ أطرحُ دُخانها في تنهيدةِ خيبة خابِية، وكُلّما أخفضتُ يدي الّتي تُقايِض السّلام بالمرض، رطّبتُ حلقِي برشفةِ قهوة أمّا ورائي فيستقرُّ مكتبِي بعتادِه الكئيب، مُرتّب ككُلّ ما يوجَد هُنا، عدَاي أنا ودواخِلي المُبعثرة، ربّما لا تُشبهُني سوى حيطان هذِه الحُجرة المُعتمة حينما فرِغت السيجارة مِن نفعِها الضّار أودعتُها المِنفضة، ولم أُشعِل أخرى رغم أنّي لستُ مِمّن يكتفون بلُفافةٍ واحِدة فقط، فالعاشِرة قد أقبلت أخيرًا، وفي جعبتِها بدايةٌ قديمة، ما جاءت يومًا بجديد. غادرتُ مكتبي متّجِهًا إلى ساحةِ تدريب الجنود، بخُطى وقورة، ورأسٍ آنِف، كُلّ كتيبة تحتَ رِعاية رائدٍ مُعيّن، ولكِن لا ضيرَ مِن القيام مُداهمةٍ بغيضة " تيقّظوا أيُّها الجُنود وأوقِدوا هِممكُم قليلًا، قد يمُرّ الجنرال بيون بأيّ لحظة، إن رآكُم تتخاذلون فلن يكتفي بتوبيخِكم، تعلمونَ جيّدًا كم أنّ عقوباتِه مُنهِكة! " كان تشانيول مَن صاحَ بلهجةٍ صارِمة، كأنّ الموتَ على وشكِ الوصول، رغم أنّ أثري لم يظهر بعدُ في آفاقِ بصرِه، كيف قد يلمحُني وما بيننا جِدار سميك؟ لطالما استغلّ اسمي في ترهيب الجنود، ليُجير أكبَر عدد مِنهم مِن عِقابي إن أنا رصدتُهم يتهاوَنون، لكِنّ حيلتَه غدت بالية، ككِذبة الرّاعي الّتي أودت بِه إلى الهلاك. حالما أف*جَ المبنى عن هيئتي، تجسّدت كتائِب الجنود نُصبَ عينيّ، يجرّون أقدامَهم على ضِفافِ الحلبةِ التُرابيّة بتثاؤُبٍ، كأنّ كواهِلهم تسِق تعبَ يومٍ بهِت، وهُو ما يفتأ في وضحِه! مرآهُم أجرى الاستياء في أوداجي، وحَرّض القاسِي المُتربِّع بداخلي على استِغلالِ مكانتِه والتأمُّر. وعلى بينٍ مُعتبرٍ مِن مضجعِ الرّائِد تشانيول افتضحتُ سِريّةَ وجودي هُنا، بعِتاب " اللّين عدُوّ الانضِباط أيّها الرّائِد، عليكَ أن تكونَ أكثر حزمًا حتّى ينصاعوا لأوامِرك بكلمة" كان قد استكمَل التِفاتَه إليّ بمُحيّى مُتضرّج باليأس، وقال: " عليك بهم، فقلبي الصّغير لا يسَعُ الأذيّة " مُذ أنّهم ما يزالونَ على ذاتِ الوتيرةِ السّالِفة فذلِك يعني أنّهُم لم ينتبهوا لقُدومي، وهُو ما جعَل قنابِل فمي ناسِفةً بِما تحمِله الكلِمة مِن معنى! " اتركوا الأرض " والآن على الجميعِ إيجاد موطِئ آخر لأقدامِهم، عدا الأرض توتّرت أجسادُهم واختلّ توازُنها، بمُجرّدِ ما اخترق صوتي سيمفونيّة أنفاسِهم المُتواتِرة، والّتي عاثَ فيها الجريُ فسادًا، وأصواتَ دقّ أرجُلهم لحُبيباتِ التُّراب هبطَ السّكون اضطراريّا في أوصالِ البعض كأنّه الشّلل، واقتفوا آثاري الّتي تناثَرت في آذانِهم وصولًا إلى نبعِها، مُؤكِّدين ظنونَهم الخبيثة، فأصابَهم ما أصابَ غيرَهم سابِقًا، وراحوا يقفزون كالجراد بحثًا عن برٍّ يقيهم بطش العِقاب كلمتان مِنّي اقتدرت أن تُشتّت مائة جُنديّ في هذا الميدان الشّاسِع، سعيًا وراءَ النّجاة، حيثُ تزاحموا وتنازعوا حولَ المنافِذ ذاتِ قابليّة الاستيعابِ المحدودة، صعِدت الأغلبيّة الشّبكةَ الحديديّة المشيّدةِ بين السّاحة وثكنةِ السّلاح، حُفنةٌ مِنهم احتشدت فوقَ سورِ الحنفيات، كالغِربان فوقَ الأسلاك، في حين تسلّقَت فِئةٌ قليلةٌ مسافةً مِن الأشجارَ وبالطّبع ظلّت بعضُ الشّوائِب عالقةً على الأرض، لأنّ الحظّ لم يُحالِفها في الفوزِ بملاذٍ يحولُ بينها وبين ما هُو آتٍ. عقِب انتِهاء التّرشيح انعطفتُ ببصري نحوَ تشانيول الّذي غزت الضّحكات حُنجرته، ثُمّ قعَّدت البسمة ملكةً على ثغرِه " أرأيتَ كيف أنّ الصّرامَة هِي الّتي تُروّض النّاس، لا اللّطف واللّين اللّذين تنتهِجهُما؟ لتكُن مكروهًا لأنّك مُقتدر أفضَل مِن أن تكونَ محبوبًا، ومِن خلفِك تُنعتُ بالعجز " أرسل يدَه اليُمنى لتأدية التحيّة العسكريّة، بعبث " أمرُك، حضرة الجنرال " " العُشر الأخير مِن المهمّة على عاتِقك " ما استعصى عليه الاهتِداء إلى لمغزى، فحَزّ سرابيل وجهه البشوشةِ لتُناسِب قدّ الجدِيّة الّتي يقتضيها الموقِف، وأمَر بخشونة " قوموا بتمارين الضّغط خمسين مرّة " ان**ر خطّ ثغري باشمِئزاز، مِن مُغالاتِه في الحنان، رغم أنّ المكان لا يستدعيه، بل ينبُذه. وهززت رأسي ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال، أن لا نفعَ يُرجى مِنك أخليتُ لهُم المكانَ مِن طُغيانِ حُضوري، ولسعات نظراتِي النّكراء، لأنّي رجُلٌ مُهوِّلٌ، كالوعيد، يُطلِق سراحَ الذُّعر في أوردة ضعيفي الإيمان، لمُجرّدِ ذِكره أو المُرور عبرَه لكنّهم سيندبون وجوهَهم ندمًا على الذُلّ الّذي ألحقوه بأبصارِهم إذ جثّوها أمامي، إن علِموا أنّ هذا الباسِل الشديد الّذي صعَد فوقَ أنقاضِ هزيمتِه، هُو مُجرّد جبانٍ رِعديد، أنّ هذا الرّجلُ العظيم محضُ عبدٌ للألَم، يندسّ تحت سحنتِه الجليلة كثيرٌ مِن المهانات أنا كالسّراب كُلّما يقتربون أبتعد، فإن جعَلت لهم موصِلًا اكتُشِف زيفي، لذلِك رصفتُ كياني في منأى عن الكُلّ، حتّى يتسنّى لِما أنتقيه مِن حُلَل أن تخدعَهم بخطواتٍ وئيدة جُلتُ بين نواحي الحديقةِ النّضِرة الأشبهِ بمتاهة، كانت فروعُها الخضراء ساجِدةً على أسوارِها مسبّلةً كخصلاتِ حسناء، لكنَّها عارية مِن زينتِها، فالشّتاء بقسوتِه وغيرتَه أبى السّماحَ لها باستعراضِ فتنها أمام الملأ بعد وقتٍ قصير ضبط بصري خِلقةً مألوفة، رجلٌ في العقدِ السّادِس مِن العُمر، يمتلِك هالةٍ مِن الفخامة، رغم أنّ التّجاعيد تعمّ جِلده، وما عادَت حرارة الشّباب قادِرة على كيِّها. كأنّه اقتُطِف مِن بُستان الحياةِ وتُرِك ها هُنا فيها ليذبُل رويدًا. كان يمشي بثبات، لا تلهو نظراتُه هُنا وهُناك، وبيدِه اليُمنى جريدةٌ ملفوفة حولَ نفسِها، تتأرجح جيئة ورواحًا أقلعتُ إليه حتّى تقاطعت طُرقُنا عِند نِهايةِ النّافورَة، كانت تضِجّ بالماء، لكنّه فاقِدٌ لبريقِه، فلا ضوءَ ليع**ه. ومُنذ أنّنا تقابلنا في إطارِ العَمل، ألقيتُ التحيّة برسميّة، حيثُ ثنيتُ ذراعي بميلٍ تمكّنَ مِن إيصالِ طرفِها إلى رأسي " حضرةَ الفريق الأوّل، لم أدرِ أنَّك قادِم " أيقَظ ابتِسامةً مُجاملةٍ على طلعتِه الهرمة، بالكادِ أسندتها " كُنت بصدد مُداهمتِك في مكتبِك الآن " أخفضتُ الّتي لامَس بنانُها صدغي، وقد تراكمَت الغرابة على شاكِلة هضبةٍ استقرّت بين حاجبيّ، سُرعان ما فكّها لِساني مُستفسِرًا " هل مِن خطب؟ " ربّت كفّه على عضُدي بخفّة، ولا تزالُ ملامِحه مسترخيةً على صفحتِه المُنكمشة " أينبغي أن يستجدّ خطبٌ ما حتّى آتي لمُقابلة ابني في القانون؟ " تكلّفت تقاسيم وجهي نفقة الانحِناء بعدما فسخت وِفاقها والجُمود، بِناءً على أنّه يفوقُني برُتبة. وبلهجةٍ مُفعمةٍ بالتّشكيك حاججتُه " ما قصدتُ التّقليل مِن شأنِ نيّتِك، ولكنّي استغربتُ أمرَ مجيئِك مُنذ طلائِع الصّبح لتُقابلني فقط، في حين أنّك مُخوّل لاستِدعائي متى ما شِئت! " حمحمَ بخشونة، لاشكّ وأنّ كلامِي المُنمّق قد أشعره بالإطراء رغم جفافِه مِن الشّعور " علاقة القرابة الّتي تجمعُنا تجعُلني مُلزمًا على التّنازُل مِن حين لآخر " أجبتُ عليهِ ببسمةٍ ما كادت تُولد وتصيحُ حتّى شنقها شدقيّ، ذلِك لأنّي لم أتعوّد على رعرعة الضّحكات حتّى تكبُر وتشتدّ، بل بداخِلي أئِدها أيّ كان جِنسُها، ومهما كانَ الدّاعي الّذي انفلقت مِن أمشاجِه في رحِمي مُحبّبًا، فالصّمتُ أخضعني كُنت إذا ما فرضَ عليّ الموقِف التّفاعُل، زوّرتُ ما بداخلي ونسجتُ مِنه نسخةً طِبق الأصل عمّا ينبغي أن أظهِره، رغم أنّي لا أقصدُه. أحيانًا كلِماتُهم تُدغدغ أعصابي فأنفُث الغضب سُخرية، مخافة أن يرتدّ عليّ إن أنا رجمت بِالصّدق مَن لستُ بنِدّه، وأحيانًا بدافعِ ال**ل لا غير ما لبِث أن أزاحَ الصّمتَ بيننا، وأنبا رأسه بتفاخَر كأيّ شريف " لم يسبِق وأن خيّبت أملي بك، مِن بينِ جميعِ المجنّدين سواءٌ في دفعتِك أم أسلافِها لم ألتمِس في أحدٍ ذاتَ حِنكتك، ولا طموحك، ولا تزال تُثبِت لي في كُلّ مهمّة أوكِلُها إليك أنّك كُفء، وأهلٌ لثِقتي، كقائِد، وكأب " احتفيتُ بمُقتنياتِه الفاخِرة لسُمعتي كما ينبغي، رغم أنّ أعصابي كانت تترنّحُ مِن فرطِ الغضب؛ مُواكبتُه تخدشُ كبريائي، وإرضاؤُه يُهينُه، لكنّه خياري الوحيد حتّى أُعزِّز خلفيّتي كُنت متيقّنًا أنّ وراءَ هذِه المقدّمة الثنائية الطّويلة نبأ عن إنجاز آخر اقترفتُه عمدًا، أدركتُ أنّه يقصِد آخر اقتِراحٍ أسديتُه له، قبل أن يحبره على النّبر بحبور " فِكرةُ توجيه تبرّعاتِك إلى ذاتِ الميتَم الّذي تقدّمتُ لهُ بحِصّة مِن أموالي بالماضي، كانت ضارِبة... المُجتمع بطبقاتِه الثّلاث يلوكُ سيرتَها مُنذ صدور الخَبر " مَدّ الجريدة الرّاسخة بين أصابِعه لي، وحثّتني نظراتُه على تفحُّصها. أخذتُها عنه وفضضتُ خِناقها بتأنٍّ، كانت صورتي مُستقرّةً في ص*رِ الصّفحةِ الأولى، تشغلُ حيّزًا مُعتبرًا مِنها، ويُسطّرها عُنوانٌ مكتوبٌ بخطّ غليظ " هبّةٌ خيريّة مِن ذوي البدلات العسكريّة " فردتُ حاجبيّ مُبديًا إعجابي بصيغة العُنوان، مِن ثمَّ قلّبتُ صفحاتِ الجريدة حتّى صبوتُ الّتي خُطّ عليها كُلّ المقال، تسلّحتُ بالجديّة وتعمّقتُ في القراءَة " الجنِرال بيون يتبنّى بأعمالِه الخيريّة ذاتَ دار الأيتام الّتي أغدقَ عليها الفريق الأوّل بارك جين سو بكرمِه، وقد قال في تصريحٍ لهُ أنّه سيُواظِب على توظيفِ نُبله في ترميم القُلوب المحرومة ما دامَ مُقتدِرًا، كذلِك دعا إلى تمويلِها مُنذ أنّها الأشدّ إملاقًا في البلد... " كُلّ شيء مِثاليّ، إلى درجةٍ مشكوكٍ بِها... فكّرت وبينما تُلاحِق عينيّ كُل كلمةٍ بتمعُّن، أفشيتُ ما تبادَر على خُلدي سهوًا، بسخرية " ما المِثاليّة الطّاغية إلّا بُرهانٌ على لُبسٍ لن يتعرّى أبدًا، لأنّهم عُميان " لم يجِد الفريقُ الأوّل في مُناقشة وحيي انتِقاصًا مِن قدرِ وقتِه، وبإسهابٍ قال: " الصّحفيون ليسوا عميانًا، بل الأقوى بصرًا، ولكِنّ المُغالاة في التملُّق تدرّ عليهم نفعًا أعظَم مِن الّذي قد يدُرّه عليهم الانتفاض والانتِقاد، أو التّشكيك في نوايا مَن هُم أجَلّ مِنهم شأنًا، مِثل كوادِر الدّولة، فهم يُؤاجرون على مديحِهم " سكَت قليلًا ثُمّ أضافَ باستِخفاف " أمّا الشّعب فقطعانٌ مُنقادة، حيثُما انبسطت العصا ذهبت آراؤُهم، يكفي أن تكون مروجُهم مليئة بالكلأ " رغم أنّه لا يَمتّ لفُؤادي بصِلة، إلّا أنّي وقفتُ بصفّه، ودافعتُ عن وجهةِ نظره بكِبر " البعضُ يَشكّ في أنَّك مُنافِق حتّى وإن ما كُنت مُنافِقًا، لكنّه يلتزِم الصّمت، ويُنافِقُك بدورِه لأنَّه يتقاضى لقاء ذلِك مِنك أزيد مِمّا تتلقّى أنت مِنه " دشّنت البسمةُ نُزل السّخرية على ثغري " بالنّهايةِ هُم المستفيدونَ مِن نِفاقِنا، لأنّهُم الأدنى هُنا، فلِمَ قد يعترضون؟ " حينئذٍ تهيّأت تِلك الطِّفلة الجسورة في خيالي، وعلى مُحيّاها عينُ الجفوة، والاحتِقار اللّذين ذرّتهما عليّ بالأمس. لا أزالُ مُقتنعًا بأنّي أستحِقّ مِنها بعضَ الاحتِرام، لكِنّها أصدقُ مَن قابلت، وربّما الأرعن، لو كانت بالِغة لاستخرجتُ مسدّسي وانتشلتُ روحَها، محظوظةٌ هِي بصِغر سنِّها ما لبِث أن تجاوَز الموضوع ، وحطّ ربتتَه هذِه المرّة على ظهري بفخر " حتّى وأنتَ تبني نفسَك تدعمُني وتُعاضِدني " مُضحِك كيف يخال أنّي فرعٌ له، كأنَّنا مستثنيان مِن القاعِدة الّتي تلاها علينا توًّا وأيّدتُها. لكن لا يا حماي العزيز، لستُ أقتفيك لأنّي مُغرمٌ بك، ولست أُجمِّلُك، أنا أُجامِلك لا غير فالنِّفاق فنّ يُجيده الكُلّ بسطتُ ذراعي، دون أن ينعكِس شيء مِمّا اختلج ص*ري على وجهي " لنذهب إلى مكتبي " - في عينيّ، ضريحٌ باذِخ، لطِفلةٍ اغتالَها الرّشدُ باكِرًا... أفلا يرَون؟ قيل لي أنّ الانتِظار يُنفِر الحُضور، لذلِك خلعتُه عن فُؤادي، ومضيتُ فوقَ دبابير الوقتِ حافيةً، أعاني مِن عضّات الحِرمان، وأنزِف شوقًا، يترُك آثارًا يقتفيها الماضي إليّ كُلّ ليلة، فيرشّ السّهادَ بين أهدابي، لكِنّي قاوَمت عسى أن يكونَ لي والف*ج موعد قريب بِتّ أشعُر أنّي لم أحرِز أيّ تقدُّم، وأنِّي قد أوفيتُ ديونَ حسرتي أكثَر مِمّا تستحقّ، بوزنٍ ثقيل مِن الفوائِد. بكيتُ عقدًا ولفرطِ ما بكيتُ تيبّست مآقيّ، وما أزال مهبطًا للنّكبات، ولفرطِ ما صُفعتني الوجيعة بقوّة، اعوجّت رقبةُ أحلامي، وانكَسر عظمُها الآن وقد ذرفتُ كُلّ صبري على نبأ ضياعي في ليلةٍ خابية، اقتنعتُ أنّي لن أعودَ أبدًا إليّ، فقد حلّقت بي السّعادةُ على جناحيها الفارعين يومَ اجتبت طردي مِنها، دوني. حُلم اليقظة الجميل انتهى، وكابوسِ الواقِع قدرٌ مُستمرّ يلزمني بالكِفاح ولأنّ يدَّ الشّفاء ما كفكفت جروحي الدّامِعة يومًا، لم أدرِ كيفَ أهوّن على ن**اتي فُرادى، أو أحتوي شغَب أعصابي عِندما يثيرُها الحِقد، ثُمّ ينحرُها، فكُنت أسير في حُروبي الخاسِرة بغير خطّة، ولا مشورة، وما يرتئي أحدٌ أن يُعزِّزني بلُقمةِ اهتِمام ما كابدتُ لسترِه تحتَ لوحاتِ الصبيّة المُتمرّدة الّتي تصفعُ أيادي الشّفقة بجفاء، هُو أَمَةٌ ثكلت طفولتَها رغمًا عنها، وطِفلة مدفونةً بين أزقّتِها، خائِفة مِن أن يقتات عليها البشر، تطمحُ لأن تتذوّقَ عينٌ خبيرةٌ بالمواجِع-عينٌ تألفُ الألَم-ما يجري فيّ وتُعيلني عليّ لكِنّ الجميعَ اكتفوا بإصدار الأحكامِ انطِلاقًا مِن أُسسٍ باطِلة، وتفنّنوا في تطريز الانطِباعات بخيوطٍ ابتاعتها نظراتُهم مِن مظهري الدّامِس، فأخفقوا وأصابوني! كانوا إن ظنّوا بي السّوء أثبتُّه، فجسدي مسرحٌ لجريمةٍ لم تكُن، لكِنّ جميعَ الدّلائِل تُشير إلى وُقوعِها، وإلى أنّي المُتّهمُ الوحيد فيها، فقط لأنّ ملامِحي مُتضرّجةٌ بالعُهر... وما الإنكارُ إلّا مُراوغةٌ بأنظارِهم، فلأُسجن ظُلمًا إذًا؛ ليسَ لديّ ما أُدافِع به عن نفسي اليومَ وبعد رجوعي من المدرسة فوجِئتُ بالمسؤول يُخبرني أنّ عليّ مُغادرةَ الميتَم، رغم امتِداد المُهلة حتّى نِهاية الشّهر، لقد نفخَ المُدير الرّوحَ في أجسادِ تهديداتِه كما لطالَما توعَّد، وشوَّه صورتي أمام الجميع، مُدّعيًا أنّه يُنقِذ سُمعة الميتَم مِمّا قد أجلِبُه لهُ مِن عار حينها حزمتُ أمتِعتي وحملتُها بكفيّ كبريائي، علّقتُ حقيبَتي المدرسيّة على ظهري، وقرّرتُ الارتِحال بين محطّات المجهول، أيُّ مكانٍ أحسنُ مِن هُنا. هرولتُ في الممرِّ على عجلٍ، وقدماي تطرُقان الأرضيّة بقوّة مُفتعلتين غوغاءً حربُها فيّ كان الغضبُ يغشى جوّي، ويغضّ بصري عن قلقِ شريكتِي في الغُرفة، والّتي ما فتِئت تُلاحِقني، رغم انعِدام رُدودي على هواجِسِها " يا ميني، لستُ أدري كيف تفجّرت الفِتنة بينَك وبين المُدير، أو من ذا الّذي اقتَدر أن يُباعِد بينكُما، بعدما كُنت مُدلّلتَه." الذّكرياتُ الّتي أشعلتها أحرُفها حينَما اصطكّت ببعض قُرب مسامِعي، حرّضت ثغري على الارتِجافِ قهرًا، لو كانَ لحريقِ القلبِ دُخان لاختَنق كُلّ من توزّعوا في هذا الرّواق، يُراقبون ويتهامسون عليّ، ندمًا لأنّهُم أهانوني في سريرتِهم ظُلمًا زمّت الضّغينَة فمي، واستولت على خواطِري، تمنعُني مِن تأليفِ أيّ عُذرٍ قد يسُدّ جوع الفُضول الّذي أفشى عنه صمتُ رينا، عِند تِلك النّقطة تحديدًا. ولأنّها أدركت أنّ انتِظارَها باطل تخطّته ونفضت القلقِ عن حُنجرتِها " ولكن لا يُمكِنُك الانصياعُ لهذا القرارِ الجائِر، والرّحيل بلا اعتِراض هكذا، كما لو أنّكِ كُنت ترتقبينه بفارِغ الصّبر، كما لو أنّكِ راضية بمصيرٍ سابقٍ لأوانِه، وأنتِ الّتي لطالَما حاربتِ احتِقارَه المُباغِت لكِ دونًا عن الجميع كامرأة وحمى لأجلِ البقاء" ما استسلمت عن دسّ الأسئِلةً بين كلِماتِها في صيغةٍ خبريّة، كُنت قادرةً على تمييزِها. تمسُّكي بالصّمتِ جعلها تُسدّد المزيد صوبي، عسى أن تحتكّ إحداها بوترٍ حسّاس كانت مُستعجلةً كأنها في سباقٍ مصيريّ عليها بلوغ نهايتِه " انزوي وإيّاه، وأخبريه أنّكِ لن تُغادِري حتّى يحينَ الموعد، هدّديه أنّك ستُقدّمين شكوى ضِدّه، لطالَما رميتِه بأغلاطِه مِن غير خشية، لِم أنتِ الآن تتنازلين؟ " مؤنُ شفتيها نفذت تزامنًا ووصولنا إلى الباحةِ الأماميّة، هُناك حيثُ وقفتُ، لم يكُ يبعُد بيني وبين مدخل لُعبة النّجاة إلّا القليل. سكوني لوقتٍ مديد كوّمَ في نفسِ رينا سُحب أملٍ كاذِبة، ستزول دون أن تُمطر، فاستدقّ صوتُها ولانَ مُتوسّلًا "لم يسبِق وأن كُنتِ تخشين المُواجَهة، وأنتِ صاحِبة الحقّ، ستغلبينه بمُجرّد ما إن تنطِقي بمُقتضياتِ عُمرك "
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD