الفصل الاول
أيقنت أن للوجع فائدةً بامتياز
تعيد ترتيب تفاصيل القصة بإيجاز
تحاول أن تصوغ الحبكة بفعل مجاز
وتتلاعب بالأحاسيس بقسوة وانتهاز
تدفعني نحوك بقوة كأنما خلا الكون من الناس
ثم تحول بيننا بعنف وبين دروبنا لا تُبقي تماس
تؤرجحني على وتر حساس بلحن نشاز
تدوي كالأعاصير وتعصف بقوة لا تُقاس
وتض*بني بصدماتها بوضوح لا يشوبه التباس
نعم، أيقنتُ يا سيدي أنها بريئة من تهمة الانحياز
كانت حيادية أرهقت بداخلي النبض والإحساس
تلقي دور البطولة عليّ وليس بها للرحمة التماس
وأين أنا من الأبطال في حرب متعددة الأجناس
ما أنا سوى طيف ليس له انعكاس
متى كنتُ حِملا للألم؟! للوجع؟ للأنين والانتكاس
ما كنت أدري أني سأقف أمام النوائب محبوس الأنفاس
فلم أتنبأ بفراقك يوما ولم أض*ب أخماسا بأسداس
أفتوني بالنوى إلا قلبي الذي يختلس رؤياكِ اختلاس
فقد اعتاد الوجع ودوما لك أعلن الإخلاص
**ت شديد ملأ الأجواء والذهول **ا ملامحهن، وحين لم تجد تولين منهن ردا قالت مؤكدة كلامها "لقد خططتُ للأمر وهناك في أرض العزايزة من يدعمني، وحتى الآن تواصلنا مع عدد لا بأس به من فتيات العائلة ونسائها وسنصل لكل من تعاني من اضطهاد المكاتيب، ما بين فتاة ترفض الزواج من رجل لا تحبه وأخرى تسعى للطلاق لنيل حريتها، و أريدكن في ظهري لتدعمنني" قالت عزيزة برعب "تولين، هل أخبرت أحدا أنك حية؟" هزت رأسها تطمئنها وقالت "لا تقلقي، تولين العزايزي ستظل شبحا لا وجود له إلا إذا تطلب الأمر، وأرجو منكن مساندتي فأنا فعلت كل هذا من أجلكن" صاحت أسمهان برعب "ماذا فعلت؟ هل تظنين نفسك قادرةً على فعل ما عجز عنه الرجال؟ لو علم أبي سيقتلنا جميعا" قالت تولين بغضب "إذا كنتِ تخافين من الموت فلتظلي حبيسة هذه الجدران وأنت زوجةٌ لرجل كان يسهرُ مع أخرياتٍ غيرك بكل حماس رغم أنه يدرك أن له زوجةً جميلةً تنتظره وربما يتآكلها القلق لأنه تأخر، بينما هو يصول ويجول ويعيش حياته الماجنة كيفما شاء، لم أعهدك نعامةً تدفن وجهها في الرمال كي لا تواجه صعوبات الحياة" **تت أسمهان وقد تضاعف حزنها على حالها حتى أصبحت عاجزة ً عن التفكير، فلم ترحمها تولين وهي تقول "أنت حتى لا تستطيعين أن تطلبي الطلاق كأي امرأة حرة تملك من الكرامة ما يجعلها لا ترضى بالخيانة، ستظلين معلقةً وهو سيتزوج أخرى ويصاحب أخريات وتظلين أنت سجينة خياناته" سقطت دمعة حزن من أعين أسمهان ول**نها قد أُلجم عن الحديث فلم تحتمل سمراء ضغط تولين عليها فصرخت "تولين يكفي" التفتت لها تولين بأعين مليئة بالغضب وقالت "لا ،لا يكفي، انظري لتلك الضعيفة التي فقدت طفلها وتلقت طعنة الغدر من زوجها ولم تجد أحدا يقف بوجهه ويأخذ حقها، حتى إخوتها ي**تون **ت العالِم بخفايا الأمور لأنه لا طلاق لنساء العزايزة، وأقصى ما تستطيع فعله هو الابتعاد عن زوجها فترة حتى تهدأ الأمور، ثم يعود هو ليحوم حولها وهي بكل سذاجة سترضخ لتأثيره، فأنا متأكدة أنكن تعلمن مثلي تماما أن بلقيس تعشق صفي ومها مر من الوقت سيستطيع أن يفرض سيطرته عليها مجددا" انهارت بلقيس تبكي بقوة فضمتها سمراء تربت على كتفها وتقول بصوت واهن "تولين، هذا ليس الوقت المناسب لهذا الحديث" قالت تولين بقوة "إذا ً متى يحين الوقت المناسب؟ حين يأتيك خبر هروب عزيزة مع أسد؟ فهي لن تستطيع إيقاف جنونه فإن لم تذهب برضاها سيأخذها عنوةً، أخبريني متى تريدينني أن أتحدث؟ حين يفقد ليل الأمل منك ويتملكه اليأس ويفكر مع نفسه قليلا ويبحث عن سبب واحد يجعله يضيع أعوام عمره التي تخطت الثلاثين فلا يجد؟ هذا إن لم يكن وجوده هنا يأسا من نوعٍ ما أو محاولةً أخيرة، فكما علمتُ لقد استمات ليعود لكنف العائلة ودفع أموالا طائلة وقد خطب له الشيخ بنفسه عروسا جميلة، هل يمكنك أن تخبريني لماذا لم يستمِت لأجلك؟ هل يمكنك لومه إذا رضخ للشيخ وتزوج؟ أجيبيني" صرخت سمراء بغضب "لا أستطيع أن أفعل شيء وأنا مكبلة بالمكاتيب، لكنني أيضا لن أستطيع أن أقف في وجه عمي وشيوخ العائلة، هذا مستحيل" كان الجميع قد استُنزف من المواجهة فقالت تولين "صدقيني سأحاول أن تكون المواجهة مع الشيخ جعفر فقط، سأحاول بكل ما أستطيع أن أضغط عليه لأضمن حريتكن وسعادتكن ولا أطلب سوى دعمكن" قالت عزيزة "كيف ستضغطين على شيخ العزايزة؟" نظرت لهن تولين نظرةً أودعت فيها كل الحب الذي تكنه لهن، لم تكن نظرة حب فقط ولكنها نظرة بها عزم غريب وسخرية مرعبة كأنها تخطو نحو الحرب دون أن تهتم بالعواقب وقالت "لا تشغلن أنفسكن بي، كل شيء مُخَطط له بإذن الله ولكنني أريد موافقتكن على السفر معي لأرض العزايزة" قالت بلقيس الصامتة منذ بداية النقاش بصوت مختنق "لن يوافق أحد من الشباب" قالت تولين "وأنا لا أنتظر موافقة أحد سواكن، ضعْن أيد*كن بيدي وأنا سأتصرف في كل شيء" مدت يدها ولكن لم تتحرك واحدة منهن وظللن ينظرن ليدها بفزع وتوتر فسحبت يدها وهي تقول "سأعطيكن بعض الوقت لتأخذن قراركن، ولكن لتتأكد كل واحدة منكن أنني أمد يدي لها لتخرج من سجن العادات المجحفة المخالفة للدين التي وُضعت به لسنوات، لتكون إنسانةً حرةً وليست أسيرة ظلم رجل وعائلة" تحركت تولين نحو الباب وبدون تفكير تحركت كنزي خلفها، فأوقفهما صوت أسمهان وهي تقول "لماذا تفعلين هذا؟ ما هي مصلحتك من فضّ المكاتيب؟ أنت هكذا ستؤذين نفسك" التفتت تولين لها بأعين خاوية وقالت "ربما أخبرك يوما ما عن مصلحتي، لكن حاولْن أن تفكرن بمصلحتكن الآن فالوقت يجري والجميع يغرق" خرجت تولين مع كنزي وأغلقت الباب خلفهما لتدور الغرفة بالأربع فتيات وتتقاذفهن الأفكار من كل اتجاه، فهمست بلقيس بصوت مرتجف "هل ما كان يحدث حقيقة؟" فلم تتلقَ إجابة غير **ت شائك معقد ليس له حل
خوفي من فقدك قادني للّامنطقية في التفكير، فلا تتعجب إن شعرت أنني أعاني الجنون، إن شعرت أنني أتخبط بشدة، فما عاد هناك بقايا عقل تمنعني من أن أصرخ و أنثر حرب أفكاري بوجهك
أطلّ الصباح ومازالت سمراء تجلس شاردةً وعقلها يعمل بقوة لا تُعقل، تحاول أن تفكر فيما قالته تولين، جنونٌ مطبق .. تعلم ..لكن به لمحة حياة، فالحرية حياة، ولا تجد سببا واحدا يجعلها تختار الخضوع أكثر من هذا، تخشى القادم، أيام ستمر كلمح البصر قبل أن تجد نفسها تُزف كعروسٍ إلى أرض العزايزة، هل ما تطلبه منها تولين أسوأ؟ لا، تمردها على ما يحدث قمة ال*قل لكن الخوف أن يكون هذا التمرد زوبعة في فنجان وسيسيطر عليها شيخ العزايزة ويجرهن لمصير أسوأ من المكاتيب، فلا تمرد بدون عقاب.
وقفت وعقلها مشتت ما بين المواجهة والخوف من ال*قاب، طرقات هادئة على باب غرفتها جعلتها تقترب من الباب وتفتحه لتجد إحدى العاملات بالقصر تقول لها "السيدة أسمهان تنتظرك في الأسفل" فقالت لها سمراء "أخبريها أنني سأنزل حالا" تحركت سمراء تلقي نظرةً أخيرة على حجابها ثم سحبت بضعة ملفات من فوق فراشها، خرجت من الغرفة فموعد حضور السيد فيلوبتير المفاجئ جعل بشر يطلب حضورها و أسمهان للاهتمام ببعض الأوراق التي تخص المشروع الجديد، نزلت السلم فوجدت عزيزة تصعده وهي تحمل صينيةً عليها مشروب ساخن، فقالت لها "هل خرج بشر؟" ردت عليها عزيزة بملامح بائسة "لا أظنه بات ليلته هنا، هل ستتأخرين في الشركة؟" أكملت سمراء نزول السلم وهي تقول "لا أعلم، لا تتركي بلقيس بمفردها واطلبي من تولين أن تهتم بالأطفال حتى عودتي" جاءهما صوت أسمهان التي تنزل من الطابق الثالث وهي تقول "الأطفال بخير، دعينا نرحل، لقد تأخرنا" قالت لها سمراء "كنت أظنك بالخارج، ماذا كنت تفعلين في الأعلى؟" قالت أسمهان وهي تعدل وضع حقيبة حاسوبها على كتفها "كنت أطمئن على الأطفال، تولين الصغيرة درجة حرارتها مرتفعة قليلا" هزت سمراء رأسها بيأس وهي تقترب من السيارة وتقول "تلك الش*ية لا تهدأ إلا حين تمرض، لا تخبري بشر" جلست أسمهان خلف عجلة القيادة وقالت "الأمر بسيط، لقد أعطيتها خافضا للحرارة وستكون بخير، فوصول فيلو المفاجئ قلب موازين الجميع، ألم يقل في آخر محادثة له مع بشر أن أمامه أسبوعا؟" قالت سمراء بامتعاض "لا أرتاح لهذا الرجل ، دعينا ننهي عملنا ونعود فأنا لم أنم منذ الأمس" انطلقت أسمهان خارج بوابة القصر و أصابعها الطويلة الملتفة حول عجلة القيادة ترتجف بحركة خفية دليلا على ض*بات قلبها المتوتر من مقابلة الخائن، أما سمراء فكان هناك سؤال عالق بين غابات فكرها الكثيفة، سؤال يؤرقها بشدة، سؤال أيقظته تولين بالأمس في نفسها ولم يهدأ منذ ذلك الحين
بمجرد وصول الفتاتين تفاجأتا باجتماع عاجل قد أمر به بشر ما جعل وتيرة العمل في الشركة بسرعة الصاروخ استعدادا للتوسع القادم، أسرعت الفتاتان نحو غرفة الاجتماعات وتقدمت أسمهان لتفتح الباب فوجدت الجميع يجلسون وعلى وجوههم نظرة جدية أخبرتها أن بشر يمارس تسلط رب العمل بكل جبروته، خطت داخل الغرفة ووقفت في مكان قصي لتنضم لها سمراء فغرفة الاجتماع كانت كقاعة المحاضرات لا يوجد بها مقعد فارغ، هذا غير الواقفين الذين انضموا للاجتماع متأخرين مثلهما، كانت ض*بات قلب أسمهان تكاد توقفه عن العمل وشعورها أن منذر يشاركها مكانا واحدا لأول مرة منذ ما حدث يشتتها ويجعلها ممزقة ما بين غضب وقهر واشتياق، لماذا لم تكن تستطيع السيطرة على انفعالاتها كما العادة؟ و لكن كيف يُقارن الصامد بالمُستَنزَف؟ شاركت في الاجتماع والدقائق تمر والساعات تمر وحين انتهى الاجتماع تحركت بأرجل تدك الأرض غضبا نحو مكتبها، دخلت المكتب وألقت حاسوبها على أول مقعد يقا**ها، ثم جلست تبكي بقوة على **ر قلبها الذي تشعر أنه لن يُجبر أبدا، طرقة متوترة ….مترددة على الباب جعلتها تمسح دموعها بسرعة وترفع رأسها بقوة، ليطل منذر أمامها يغلق باب المكتب خلفه ويقف ب**ت ينظر لها بأعين حزينة لا يدري من أين يبدأ ولا يعرف ماذا يقول، فوقفت تنظر له وقد شبَّ حاجز الكرامة بينهما كجدار لن تسمح له بتخطيه، فلملمت بقايا كرامتها لتكون صاحبة الكلمة الأولى وتبدأ الحديث وتقول بثبات "ماذا تريد؟" تقدم منذر خطوة تبعها بأخرى حائرة مهزوزة وقال "أريد أن نتحدث" قالت أسمهان بجمود "عن ماذا؟" جمودها كان كقبضة تعتصر قلب منذر الذي اشتاق لها في ليالي البعد شوقا لم يكن يتخيل أنه يحمله بين أضلعه، فنظر لها والشوق يسري في نظراته وقال "أريد أن نتحدث عما حدث يا أسمهان، لقد خضعت لرغبتك ورغبة بشر وتركت لك الوقت والمساحة لتهدئي لكن لم يعد بإمكاني ال**ود أكثر، عليكِ أن تفهمي أن ما حدث وما رأيتِه كان مجرد خطأ غير مقصود، أنا أعلم أنني مخطئ لكن صدقيني أنا لم أخنك أبدا بل لم أفكر حتى في خيانتك، أنا أحبك و سأفعل أي شيء لتسامحيني" **ت ينتظرها أن ترد عليه أو تعلق على ما قاله لكنها ظلت تنظر له بنفس الجمود، فأكمل قائلا "أعلم أنه لم يكن عليّ أن أخفي عنك شيئا، لم يكن عليّ أن أقترب من هذا العالم فهو برّاق لدرجة تجعل الإنسان كالمغيب ينجذب له ولا يدري أنه يغرق، أسمهان أرجوك ِ سامحيني ودعينا ننسى ما حدث" قالت له بسخرية مقيتة جعلتها تكره نفسها التي تتصنع القوة وتكرهه لأنه **رها "هل حقا ترى الأمر بهذه السهولة؟" اقترب منذر أكتر وقال بلهفة "لا يا أسمهان، أي شيء يؤلمك ليس بالهين صدقيني، لكننا سنتخطاه أعدك سنتخطاه، يمكنك اعتبار ما حدث كبوة نزوة، أو يمكنك ألا تعطي له مسمى وتنسيه تماما و أعدك أن أكون على قدر ثقتك وحبك" اقتربت هي أيضا منه ولكن بخطوات محت المسافة بينهما تماما وقالت "المشكلة أنني أخبرتك أكثر من مرة إنني لا أغفر لا أنسى ولا أستطيع تقبل الخيانة، كنت لك كما لم أتخيل أن أكون، ظللت لسنواتٍ أتباهى بقوتي لتأتي أنت وت**رني، أتعلم؟ حين جلست مع نفسي وفكرت فيما حدث وفيما فعلته اكتشفتُ أنني السبب، أنا من أحنيت رأسي لتدهسه بحذائك الذي كان يرافقك في ليالي مجونك بع**ي تماما، كنت أنتظرك والأفكار تتقاذفني ما بين قلق وشك وأظل أتلظى بناري حتى عودتك، سكوتي أتاح لك الفرصة لتتمادى في **ري، قد ترى أنك لم تخني لكن ليس كل الخيانات تحتاج فراشا يا زوجي العزيز، فقد خنتني بألف طريقة، وها أنت تقف أمامي تبرئ نفسك كحملٍ وقع بين براثن ذئب، لكن صدقني زوجتك ليست بذات القلب الأبيض الذي تتخيله، أنا لن أسامحك أبدا ما حييت، لن أنسى أنك فعلت بي هذا، لن أتجاوز و أتخطى و أعبر فوق كرامتي لأجلك، فلتنسَ أن أرخص نفسي لك بعفوٍ لا تستحقه فحين أتذكر تلك الصور المقززة أظل أفكر متى قصرتُ بحقك أو أهملتك لأستحق ما فعلته، لأجدك كل مرة خائنا بلا سبب وهذا كان أقسى من الخيانة نفسها، ألّا تجد نفسي بداخلك أي صدى لتقف بينك وبين الخيانة، أنا لم أكن بداخلك حين فعلت كل هذا، فلا تطلب مني أن أبقى معك الآن، لقد ابتعدتَ بإرادتك و من يبتعد عني خطوة أبتعد عنه أميالا" همس منذر بعذاب يشعل حشاشة قلبه الملتاع "أسمهان" قالت بنبرة قاطعة "اخرج من فضلك" هز منذر رأسه برفض وهم بالاقتراب أكثر لكنّ سمراء التي فتحت الباب لتقول "أسمهان، انظري لهذا الفا** إنه " قطعت حديثها حين لمحت أخاها يقف أمام أسمهان التي تقف كتمثالٍ يصد هجوم نظرات منذر، فقالت بسخرية "هل قاطعتُ شيئا ما؟" فقالت أسمهان وهي تتحرك لتعود خلف المكتب "قاطعتِ رحيل أخيك، لا شيء مهم" امتدت يد منذر لتحتضن كف أسمهان بحب لا يحتاج لبيانه فهو يعشقها رغم ما فعل وهي تعلم ولكن كرامتها كحاجزٍ يأبى أن يتزعزع وقال "أسمهان أنا أحبك، لا تفعلي هذا بنا أرجوك" لو يعلم أنه ينفخ في جمرات قلبها لتشتعل أكثر، لو يعلم أنه يزيد الوجع وينثر فوق الجرح ملحا يلهبه، سحبت أسمهان كفها من دفء كفه ليتهاوى قلبه بجوار قلبها تحت أقدامها وهي تقول "ارحل يا منذر، فليس لوجودك هنا أي داعي" أغمض عينيه بحسره وظل للحظات يسحب أنفاسه المحملة بعبقها قبل أن ينسحب يجر وراءه ذيول هزيمته و هو مطعون من نفسه ومنها، لكنه لن يستسلم، لن ييأس وإن كان كل ما رآه منها لا يدعو سوى إلى القنوط والخوف من القادم
مر اليوم طويلا على الجميع، بشر كان في حالة لا توصف، غضبه أرعب الجميع، ومن حوله الشباب يتحركون بآلية تُظهر أن ما يمرون به يسيطر عليهم، الوجوه مكفهرة والأرواح من**رة وفي العيون نظرة حسرة وضياع، أقامت سمراء اجتماعا مطولا للفريق القانوني استمر لساعتين أو أكثر اطلعت به على سير الوضع في غيابها، طرقات هادئة تبعها دخول أسمهان غرفة الاجتماع لتقول لسمراء "آسفة للمقاطعة لكن ارحمي الشباب فلم يتبقَ في الشركة سواهم" رد معاذ قائلا "أشعر أنني لم أعد أستطيع رفع رأسي، الرحمة" التفتت له سمراء وقالت "معاذ أعلم أنني ألقي بثقل العمل عليك هذه الفترة لكنها فترة وستمر" قال لها معاذ بمجاملة فدائما ما أشاد بقوتها "لا تحملي همَّ شيء، الأمور ستسير كما تريدين وأفضل" وقفت سمراء وقد تمكن منها الإرهاق وبدأ عقلها يتوقف من شدة الفكر وعيون الوحش تلاحقها طوال اليوم طوال الوقت وقالت "حسنا يا شباب سنكتفي بهذا القدر، أراكم على خير" لملمت سمراء أوراقها فيما تنفس جميع من في الغرفة الصعداء وبدؤوا بالانسحاب، سارت سمراء بجوار أسمهان وهي تقول "أين بشر؟" ردت عليها أسمهان "سيبقى مع الشباب لانتظار وصول فيلو فطائرته لم تصل بعد" وصلت سمراء للسيارة فقالت أسمهان "قودي أنت ِ" التفّت سمراء حول السيارة وجلست خلف عجلة القيادة وانطلقت
قادت سمراء السيارة تكاد لا ترى ما أمامها والأفكار كمنشارٍ ينخر برأسها، وال**ت الكئيب يملأ السيارة إلا من صوت ضعيف خارج من مذياعها فمدت أسمهان يدها ترفع الصوت ليسري صوت عذب بكلمات
أخذتهما الكلمات لربوع حلم ضائع هامتا به وعبّرتا عن هيامهما بال**ت، كانت الأمنيات كأشباح تحيطهما والآلام كمقصلةٍ تنحر أعناقهما مع كل كلمة، كانت الكلمات تشق الص*ر وتعبر، تدهس العمر الماضي وتبحر، الحزن لم يكن وصفا كافيا لحالتهما….أفاقت سمراء من شرودها فجأة على دراجة نارية تقطع طريقها، فوضعت أقدامها على الفرامل بقوة ليرتد جسدها و أسمهان داخل السيارة بعنف، صرخت أسمهان "من هذا المجنون؟ سأرميه في السجن، كاد يقتلنا" نظرت سمراء تتحقق مما تراه ولا تصدق، منذ متى لم تره هكذا بدراجته النارية وسترته الجلدية؟ ينقصه شعره الطويل لتكتمل الصورة أو ربما لن تكتمل أبدا، ربما جاء ليخبرها بهذا، جاء ليخبرها أن للحكاية نهاية، كانت تعدو في غابات أفكارها وهي تشاهد أسمهان التي ترجلت من السيارة واقتربت منه تحدثه بحدة، كانت تفكر لو أن هذا ما أتى به فعلا فسيكون قَدِم لنحر قلبها، أصبحت أقدامها كما الهلام واشتدت برودة جسدها لدرجة جعلتها ترتجف فعلا، لكنها تمسكت بجمودها الخارجي لعله يكون الشيء الوحيد الذي تحافظ به على كرامتها، سحبتها أسمهان من فجوة أفكارها وهي تقول "سمراء، اذهبي لذلك المجنون واعرفي ماذا يريد أفضل لك وله، الغ*ي كان سيقتلنا" نظرت لها سمراء وقالت "لا أريد أن أتحدث مع أحد، دعينا نرحل" نظرت لها أسمهان بحزن ثم التفتت لليل وهزت رأسها بحركة معناها لا فائدة من وجودك، ثم ركبت السيارة بجوار سمراء التي لم تلمح ذلك الذي طوى المسافة بينه وبين السيارة بخطوتين وفتح الباب وقال "سمراء، من فضلك أريد أن نتحدث" مدت سمراء يدها تسحب الباب وهي تقول "وأنا لا أريد" زفر ليل وقد علم أن هناك نوبة عنادٍ تتملكها وقال "سمراء، توقفي عن العناد، يجب أن نتحدث" لم تنظر له وهي تعود لتسحب الباب و أسمهان تشاهد ما يحدث ب**ت، حين شعر ليل أنها لن تستجيب لمطلبه مد يده يسحبها من ذراعها خارج السيارة، ترجلت سمراء من السيارة وهي تقول بغضب "ماذا تفعل؟ اترك ذراعي" شعر ليل أنها ليست بخير فنظر لها بقوة نظرة شملت ملامحها وقال باستفسار حاد " ماذا يحدث لك؟" دفعته للخلف وقالت "لا شيء، اترك ذراعي" ترك ليل ذراعها وقال "تركتُ ذراعك هل يمكننا التحدث الآن؟" فقالت سمراء بغضب "لا لا يمكننا، فلست أنت من تقرر متى تقطع طريقي ومتى تختفي، متى تعود بالأمل ومتى تمد يدك لتقطعه، أنا لن أدعك تتحكم بي بعد الآن" قال لها محاولا التحكم بأعصابه التي تتدمر واحدة تلو الأخرى من صدها وجمودها وبعدها عنه "سمراء، متى تحكمت بك أو فرضت عليك أمرا؟ دوما ما كنت تائها تتقاذفني الأيام من هنا لهناك، أي شيء حدث في الماضي أنت تعلمين أنه لم يكن لي يد به، ثم هذا ليس موضوعنا الآن، أنا أريد أن أوضح لك أنني لم أخذلك، لقد فعلت لأجلك الكثير، عملت ليلا نهارا، كنت لا أهدأ ولا أستريح لسنوات فقط لأستطيع أن أعبر أرض العزايزة لأجلك، لا تقللي من تعبي، لا ت**ريني أكثر من ذلك" صرخت به بعنف "بل فعلت كل هذا لأجل نفسك، لا تَمُنَّ عليّ بما فعلت، أنت الآن أصبحت من العزايزة، رجل أعمال يملك حصانة ودعم العائلة وخلال أيام سيحصل على النسب، ماذا تريد أكثر من ذلك؟" هدر فيها بعنف "ما هذا الذي تقولينه؟ هل أنت واعية لحديثك؟" قالت له بقوة "نعم واعية أنك أتيت لتخبرني أنك المغلوب على أمره العاجز أمام المكاتيب، وأنه ليس هناك حلّ سوى أن تتزوج العروس التي اختارها لك الشيخ، كنت أظن أيها الخائن أنني أهم عندك من العائلة ومن كل شيء، كنت أريدك أن تدخل أرض العزايزة لأجلي لا لأجلك أيها الأناني الخائن، اغرب عن وجهي" ذهول وقهر اكتنف ليل الذي طحن ضروسه ببعضها وقال "أقسم إن لم تتكلمي مثل البشر وتتوقفي عن جنونك وتنهي هذيانك سأتصرف معك تصرفا لم أفكر أن يص*ر مني نحوك أبدا" دفعته بغلظة وقالت "ماذا ستفعل؟ أخبرني، فأنا أصبحت أتوقع منك أي شيء" رفع ليل يده بالهواء وقال "سأعطيك صفعةً تعيد لك عقلك" صدمة شديدة اكتنفت سمراء التي نظرت ليد ليل المرتفعة وقالت "ستصفعني أنا؟" هدر بغضب "إذا تطلب الامر لن أتأخر أبدا وسأعيدك لسمراء التي أعرفها، أنا أحتاج أن تقفي بجواري الآن، لا أن تغوصي في جنون ليس له أي داعي وتتركيني" دمعة واحدة فرت من أعين القوية لت**ر الوحش وتجعله كهلا يحتَضر أمامها، دمعة أخبرته أن ما بها ليس جنونا بل أكبر وأشد، سمراؤه تتداعى من الداخل لتعود كما كانت بعد آخر فراق بينهما، الحمقاء تظن أنه سيتخلى عنها، أين ذهبت الثقة؟ صرخ بها "لماذا لا تثقين بي؟" همست بخفوت "ألا يكفيك كل مرة تركتني بها خلفك لتخبرك أن الثقة بداخلي كانت تتلاشى بعد كل وداع؟ ثقتي بنفسي وبك كانت تهتز والخوف يملأ روحي ويجعلني بقايا أنثى تائهة من بعدك، أضيع أهيم وأن**ر، وأظل سنوات أرمم روحي لكن تظل هناك شروخٌ لا تلتئم، وهذه المرة ال**ر أحالني شظايا فلا ينفعني ترميم لأن المشكلة لم تعد مجرد شروخ" عذاب تفجر بينهما فرغم كل ما عاناه في حياته كان يعلم أنها بظهره، كان يعلم أنها تثق به وتنتظره، كان يشعر أنه إنسان لأنها تحبه، كان رجلا لا يملك في الكون سوى أنثى تحبه، والآن ماذا بقي؟ ما الذي سيسعى خلفه؟ قال بان**ار "أتتكلمين عن الفراق يا سمراء؟ أتتحدثين عن الوجع والشروخ؟ إذا ً انظري لي، لقد اتخذتك مرساي ووطني وحين أفارقك أهيم وتصيبني ض*بات الحياة من كل اتجاه لتمزقني و أنحني لأتلقى الض*بات بظهري بكل خضوع، وحين أجد الوقت أعدو إليك بوجه حافظتُ على ملامحه كما هي لأجلك لا لأجلي فما حدث لي كان بإمكانه أن يغير خارطة قلبي وعقلي ويلعب بملامحي، دوما ما كنت أرحل مغصوبا تاركا خلفي أميرة في قصر وسط عائلة كالوحوش لن يسمحوا للهواء أن يقترب منها، لكن يبدو أن الأميرة لم تفكر لحظة لماذا تتركني حين ترحل، من منا الأناني يا سمراء؟ لم يكن ينقصني **رك أنت ِ أيضا" ظلت تنظر له وعقلها اللعين لا يسعفها بأي رد، لا يساعدها لتتخطى عذاب روحها الذي يتآكلها منذ ما حدث بينهما، نظر لوجهها الحزين وقال لها "ارحلي يا سمراء ارحلي" شعرت بقلبها ينتفض كطير مذبوح في ص*رها لكنها وجدت أن الهروب أفضل حل لها الآن، ليس الهروب منه فقط ولكن من أفكارها ومخاوفها أيضا، ركبت السيارة وبدون تفكير انطلقت تهرب منه ومن نفسها فهي مقتنعة أن كل شيء يرحل ويعود إلا ليل، فهو في قلبها محتل ثابت لا يتزعزع
لا يسعني سوى أن أغرق فمنذ زمن تيقنت أن لا يد ستمتد لي لتمنعني من السقوط، لا أحد سيخشى عليّ من الطوفان إن ابتلعني ولا أحد سيبكي على رحيلي يوما، فلا تأتِ الآن لتُسقِطي صرح ظنوني فوق رأسي وتخبريني أن هناك في الحياة من قد يهتم
يجلس في الطائرة يؤرجح كأسه يمينا ويسارا فيص*ر الثلج ضجيجا يبدو لأذنه كلحنٍ لا يمل منه، ارتشف قليلا من مشروبه ثم نظر إلى الساعة ليجد أن بينه وبين الوصول عشرين دقيقة، كشر عن أنيابه بابتسامة تكرهها الذهبية التي تسكن بيته وغصبا عنه شعر بالضيق يزاحم ص*ره المتهم بالحماس لما هو مقدم عليه لأنه لم يرها أو يودعها قبل أن يرحل، كانت عيناه تبحثان عنها بلهفة كأنها أصبحت ركنا أساسيا من منزله يرتاح حين يطمئن عليه، وتذكر آخر لقاء بينهما حين وجدها تحمل كتابا وتقرأ منه بصوت عذب جعله لا يدرك هل تقرأ أم تغني أم تترنم بترانيم تريح الص*ر، ظل يستمع إليها حتى انتهت ورفعت رأسها تنظر له وتقول "أتمنى أن يطرد ذكر الله شياطين أفكارك، لقد أصبحت مرعوبة من البقاء هنا أكثر وأدعو الله أن أرحل في أسرع وقت" لم يدرك ماذا تقول فقد كانت تتكلم باللغة العربية التي ألفها من كثرة سماعه لها وقال "أظن أن ما بيدك كتاب مقدس لذلك أنا مطمئن أنك لن تسيئي الحديث عني وأنت تحملينه" قبلت الكتاب أمام عينيه وقالت "لا تقلق، أنا فقط أدعو الله أن أرحل من هنا" كلماتها البسيطة جعلت جزءا قصيا بداخله يشعر ب*عور لم يظهر إطلاقا منذ سنوات طويلة، شعر بالحزن أن هناك من لا يطيق البقاء معه في مكان واحد لهذا الحد، كأنه كما كانت تخبره والدته دائما كائن لا يطاق ومثير للنفور
فتحرك يوليها ظهره وهو يتخلص من سترة بدلته ويقول "أنا حزين لأن ألطف وجوهي لا تعجبك، أتمنى لو كنا نستطيع أن نتعرف أكثر" وقفت أمامه ولأول مرة يلمح الحزن بعينيها وقالت "ألطف وجوهك هذا أسوأ من كل أحلامي، وقلة تعارفنا أفضل لي حتى موعد رحيلي" التفت لها ويده بدون شعور تفتح أزرار قميصه بلا مبالاة وقال "أنت غريبة جدا" تحركت مغادرة وهي تقول "صدقني، لستُ أغرب منك" ظل يراقب رحيلها بأعين لا تدرك عن طريقة تفكيرها شيئا، وقد خلع قميصه الذي حارب ليظل فوق ص*ره مادامت تقف أمامه، حكم من أحكامها التي صارت جزءا من حياته أفاق فيلو على صوت الطيار يبلغه بالوصول فنفض عن رأسه التفكير الغريب بها والذي يجعل بداخله أشياء صغيرة غريبة لا يتذكرها تتفاعل وتنتج عنها أشياء أكبر مجرد وجودها بداخله مرفوض مرفوض
داخل مكتبها، تقف كارما أمام مرآة ضخمة بيضوية الشكل، إطارها الذهبي براق لدرجة تسرق الأنظار ومرصعة بأحجار تتلألأ بشكل خرافي، تنظر لنفسها بغرور، تدور حول نفسها لتملأ عينيها بمنظرها الجديد الذي عملت عليه لفترة، جسدها الذي زاد ف*نةً وشعرها الذي استطال وقُص بعناية ليصبح مبهرا ككل شيء بها، فهذه المرة ليست ككل مرة، هذه المرة لا يوجد أخطاء قد تعيدها لنقطة الصفر، فهذه المرة ستخترق دائرة العزايزة وتتحرك نحو حبيبها بخطا ثابتة قوية لتثبت له أنها له وأنه لها مهما حدث، استحضر عقلها ملامح بشر التي اشتاقتها لتشعر أن قلبها يرتجف بجنون في حضرته، وتشعر أنها حقا حين تراه أو يذكر اسمه تتلاشى به، تتمنى لو بقيت بين أحضانه، فهو شغفها ولعنتها مذ شبت عن الطوق وعلمت كيف تهتز مشاعر الأنثى لرؤية رجل، كيف ترتجف إن مر عطره الذي يظل عالقا بالحنايا شاغلا الفكر ليالي طويلة، داؤها أنها لا ترى رجلا سواه، لا تشعر بكيانها إلا حين ينظر إليها، تجري خلفه بكل عزمها تلاحقه تطارده تحيك الخطط والمكائد ولا تهتز برأسها شعرة مادام في النهاية كل تفعله يمهد الطريق إليه. فُتِح الباب بدون سابق إنذار لتلتفت بغضب حاولت تحجيمه حين رأت فيلو يقف ببدلة سوداء شديدة الأناقة بدون ربطة عنق و أزرار قميصه مفتوحةً عارضةً ص*ره العضلي بسخاء فيشملها بنظرة ذئبية و**ة ويقول "ما هذا الجمال؟ استعدادك لقدومي مبهر جدا، لو كنت أعلم أنك ستكونين بهذا الجمال لعجلت بقدومي" حاولت كارما أن تكون باردةً أمام نظراته التي ترهبها وقالت "أهلا سيد فيلو، تفضل" أطلق فيلو ضحكة مدوية وقال " أتفضل؟ إلى أين؟ بل أنت ستأتين معي، هيا لا أريد أن نتأخر" نظرت له كارما بشك وقالت "نتأخر على ماذا؟" اقترب منها فيلو أكثر وقال بصوت ترك في نفسها توجسا لا تدرك له سببا "نتأخر على حفلنا، أقصد عن الحفل الذي سأخبر به بشر وإخوته عن شراكتنا يا جميلتي" فرحة عارمة أعمت عينيها عن الصياد الذي يسحب فريسته بكل تمكن وتحت أعين الجميع لتكون فريسةً ذاهبةً بإرادتها إلى الصياد، تحركت كارما تسحب حقيبتها ذات العلامة التجارية العالمية وهي تقول بلهفة "أين سيكون الحفل؟" نظر لها فيلو بوقاحة وقال "في مكان خاص جدا، سيعجبك بالتأكيد" لم يكن بداخلها من الوعي ما يجعلها ترى ما هي منقادة له، بل خرجت بجوار رجل الأعمال الوسيم وتحت أنظار جميع العاملين لديها وعلى وجهها ابتسامة رضا تخبر الجميع أنها ذاهبة وبملء إرادتها
مكتب بشر كان مكتظا بمن ينتظر وصول فيلو بفارغ الصبر، هز بشر كرسيه من خلف المكتب يمينا ويسارا وعيونه شاردة في سقف الغرفة حيث خيالها يخ*ف كل تركيزه، وأمامه أسد يقطع ورقةً إلى مئة قطعة ليُخرج ما به من غضب يقا**ه نزار الذي ينظر للوجوه من حوله باستغراب وحيرة وخلفه أريكة طويلة يجلس عليها منذر مطأطئ الرأس شاحب الوجه وبجواره صفي بهيئة فقدت رونقها كما الأموات وبيده هاتفه يحاول أن يتواصل مع بلقيس بأي طريقة ولكن إخوته وإخوتها لا يسمحون له وهذا يقتله، خلفهم وتحديدا أمام النافذة يقف عاصي شاردا في زرقة السماء التي تذكره بعيون بنت الشيخ رنين هاتف المكتب جذب انتباه الجميع فرفعه بشر ليقول "أهلا فيلو، لماذا تأخرت؟ ننتظرك منذ مدة" رد عليه فيلو الذي يجلس بجوار كارما داخل سيارة فارهة وقال ونظراته تغزوها "سأرسل لك عنوانا أريدك أن تأتي إليه أنت والشباب" قال بشر بحيرة "ألن تأتي إلى الشركة؟" فقال فيلو بصوت مرح "لا، سنتحدث حين تصل، لا تنسَ أحدا، أريدكم جميعا" قال بشر باستفسار "هلّا أوضحتَ لي السبب؟" ضحك فيلو وقال "لا تُكثِر من الأسئلة يا صديقي، وإذا كنتَ قلِقا على العمل فصدقني سننجزه وفي مكان مريح للأعصاب، لا تتأخر" أغلق فيلو الهاتف فنظر له بشر بذهول ثم وقف وقال "هيا بنا" قال له نزار "إلى أين؟" قال بشر بحيرة "لا أعلم، فيلو لم يرسل لي الموقع بعد، يريدنا جميعا" طرقات قاطعت حديثهم تبعها دخول ليل متجهم الوجه، فقال أسد "جئت في وقتك، كنت سأهاتفك" نظر ليل للشباب وقال "خير! إلى أين؟ أليس لد*كم اجتماع؟" اقترب عاصي من الباب وقال "من الواضح أنه أصبح اجتماعا خارجيا" تحرك أسد نحو ليل وقال "هيا بنا" نظر له بحيرة وقال "إلى أين؟" دفعه أسد وهو يقول "ستأتي معنا يا رجل" انسحب الشباب واحدا تلو الآخر وكلٌّ يجر أقدامه بصعوبة بالغة فالقلبُ أثْقَلَ الجسدَ ولم يكن أحد منهم يدري أنهم ذاهبون إلى نقطة بداية النهاية
إذا أردتَ أن تكون شرير الحكاية فاعلم أنك الخاسر بلا شكّ، فأحيانا تكون دقائق من الحقد كفيلة بتدمير كل ما لديك..
بخطا واثقة يملؤها التفاخر والكِبر ترجلت كارما من السيارة لتسير بجوار فيلو الذي يخطو نحو الباب الخلفي للنادي الليلي كصياد يجر غزاله للمذ*ح، وهي غير واعية سوى لثورة مشاعر تطلق المفرقعات كأن أعياد قلبها عادت لتُقام على شرف لقاء الغالي، انتظرها فيلو أن تتساءل عن سبب دخولهما من الباب الخلفي أو أن تتوجس مما يجري لكنها كانت منساقةً لفخه بطاعة عمياء أطلقت في ص*ره شعورا بالحماس لالتهام الفريسة، شخصيتها بدأت تثير استغرابه وغفلتها عما يحيكه باتت تحيّره لذلك قال وهي تخطو بجواره في ممر النادي الخلفي "ألا تريدين أن تعرفي ماذا سيحدث؟ ولماذا دخلنا من الباب الخلفي؟" التفتت له بثقة وجمالها الذي اجتهدت لتبرزه زاد من حماسه وقالت "مؤكد لكي لا يرانا أحد، سنفاجئ الجميع بشراكتنا، أحببتُ الفكرة كثيرا ومتشوقة لأرى رد فعل بشر، أظنه سيتجهم ثم سيثور وبعدها سيرضخ للأمر الواقع لأبدأ دوري بأن أجعله يراني كما أنا، إنسانة تستحق الحب" التفت لها فيلو بذهول وقال "أنت إنسانة تستحق الحب!" انفجر فيلو ضاحكا وهو يقول "ما هذه الثقة؟" وقفت كارما أمامه تقول بانفعال "ماذا يحدث الآن؟ هل قررت أن تسخر مني؟ سيد فيلو، لقد طلبتُ منك في السابق أن يكون هناك احترام متبادل بيننا، لذلك من فضلك توقف عن الضحك وأخبرني ماذا سيحدث" نظر فيلو لباب غرفة أ**د في نهاية الممر وتحرك نحوه وهو يقول "لن نتحدث ونحن نقف هنا، تفضلي" نظرت كارما للممر الخالي وقالت "أين سنجلس؟" تحرك فيلو نحو باب الغرفة وقال "في هذه الغرفة حتى يصل ضيوفنا" تحركت كارما نحو الغرفة تقول بحنق "أرجو منك الالتزام باتفاقنا، أنت حصلت على ما تريد وأنا أريد أن أحصل على جانبي من هذه الصفقة، والمبلغ الذي أرسلت لي رسالة به سيكون في حسابك بمجرد أن نمضي ال*قود" بحركة خاطفة أغلق فيلو الباب بالمفتاح من الداخل تحت أعين كارما التي قالت بفزع "ماذا تفعل؟ لماذا تغلق الباب؟" فقال ببرود "لا أريد لأحد أن يقاطعنا" قالت بغضب "نحن نتحدث، ما المشكلة لو قاطعنا أحد؟ افتح الباب" تحرك فيلو نحو مقعد ضخم وجلس عليه واضعا ذراعيه على ذراعي الكرسي كأنه ملك وقال "هناك أحاديث لا يجب أن تُقاطع أبدا، يجب أن تظل مستمرة إلى حد الاكتفاء منها" الحذر والتوجس مما يحدث بدآ يطرقان عقلها، رعشة خوف ورهبة هزت عظامها، لكنها تماسكت وقالت "وما هو هذا الحديث المهم الذي لا تريد لأحد أن يقاطعه؟" تحولت عيناه لكتلتين من القتامة وقال بصوت هز عروش ثباتها "هل لد*ك خطايا تريدين الاعتراف بها؟ هل لد*ك ذنوب تريدين التخلص منها؟" هربت الدماء من وجه كارما التي قالت برعب والمشهد أمامها لم يعد يقبل الشك "افتح الباب، وإلا سأصرخ وأفتعل لك فضيحة لا تُنسى وأتبعها بدعوة قضائية تقضي عليك أيها المجنون، افتح هذا الباب" ضحكة صاخبة أخرى خرجت من جوفه لكنها كانت مخيفةً هذه المرة لأبعد حد، راقبته وهو يتخلص من سترة بدلته ويتبعها بالقميص فتحركت برعب نحو الباب لتصرخ وتطرقه بعنف وهي تقول "افتحوا الباب، أغيثوني" لكن ما من مجيب، سحب فيلو بابا خفيا كان يبدو كجزء من الحائط وهو يقول بابتسامة "هيا بنا إلى غرفة الاعتراف خاصتي، لقد جهزتُها لك لتناسب خطاياك، اليوم ستتحررين من كل ذنوبك وتصبحين كمثل من ظلمتِهم فتتساوى الرؤوس وتشعرين بفداحة ما فعلتِ، ستُبدين ندمك وتصرخين بذنوبك و تتمنين الخلاص حتى تتطهر روحك" فزع لا يقارنه فزع جعلها تصرخ بشدة وهي تطرق على الباب وتطلب النجدة لكن خطوات فيلو نحوها كانت تخبرها أنها سقطت في فخ ليس له قرار، شعرت به يرفعها عن الأرض ولم يكن لديها سوى صوتها، فظلت تصرخ وتحرك جسدها بعنف تحاول أن تتخلص من قبضته وهو يحملها وينزل بها سلالم مظلمة كأنه يسحبها لفوهة الجحيم، لحظات مميتة كانت تعيشها مع ذلك الذئب وعقلها المريض يستحضر صورة بشر، تستنجد به مما يحدث، إضاءة حمراء مزعجة ملأت الأجواء من حولها فبدأت عيناها في رحلة استكشافية لتنتقل لنوع آخر من الفزع وهي ترى الغرفة التي أصبحت بها، إنها غرفة ت***ب عُلِّقت أدواته على جدرانها، وفي منتصف الغرفة سرير أحمر دائري ضخم عليه أصفاد حديدية من كل اتجاه، يتوسطه سوط كبير جعلها تستميت في الصراخ لكن دون جدوى، دفعها فيلو على السرير بقوة آلمتها فحاولت أن تتحرك هاربةً لكنه سحب يدها بعنف ليكبلها وهي ترجوه باكيةً "أرجوك اتركني، لماذا تفعل بي هذا؟ أنا لم أؤذيك، أرجوك"