الفصل الأول
سمعت هزان طرقات ملحة على الباب..تثاقلت لكي تنهض و تفتح..كان تعرف جيدا هوية الطارق..لذلك تمنت أن يختفي أو أن يذهب..قبل أن تسمع منه الموشح المعتاد..فتحت و هي تجبر نفسها على الإبتسام..رجل خمسيني أصلع..يبدو الغضب جليا على ملامح وجهه..نظر إليها بإحتقار و قال بنبرة حادة " آنسة هزان..لقد مر كثير من الوقت منذ أن وعدتني بتسديد الإيجار..و أنا صدقتك كالأحمق..لم تدفعي ليرة واحدة منذ ثلاث أشهر..لقد أصبح الأمر لا يطاق..يومان فقط..آخر مهلة للدفع أعطيها لك..و بعدها..ستجدين أغراضك أمام الباب..هل فهمتي؟" هزت هزان رأسها دون أن تنطق بكلمة واحدة..تعلم أنه على حق..و لا ذنب له فيما يحدث معها..تجد نفسها في وضع مزري لا تحسد عليه..تسكن شقة مهترأة و مقرفة..في حي متواضع..و مع ذلك تعجز عن تسديد الإيجار..من يصدق أن هذه الفتاة البائسة هي إبنة رجل الأعمال الشهير أمين شامكران..ذلك الذي يملك كروم العنب و مصانع النبيذ المعروفة..لو لم تتخلى عن لقب عائلتها منذ خمس سنوات..منذ أن طردها والدها من قصره..لعرف الناس قصتها..و لأزعجوها بأسئلتهم الفضولية..تكره نفسها..و انتماءها إلى تلك العائلة التي نبذتها و أجبرتها على عيش الحياة التي تعيشها الآن..لا تريد أن تتذكر و لا أن تعرف عنهم شيئا..عائلة نفتها و نبذتها..حبيب ظلمها و لم يستمع إليها و لم يسمح لها بأن تشرح له ما حدث..و حياة تستمر في صفعها و بقوة منذ اليوم الذي ولدت فيه..نظرت هزان إلى ساعتها و شهقت بصوت عالي" ياالله..لقد تأخرت" ..حملت حقيبتها و عدلت هيأتها قليلا ثم خرجت مسرعة ..وصلت إلى المطعم الذي تعمل فيه..و ما إن فتحت الباب حتى سحبتها يد مديرتها السيدة نعمت بعنف و أدخلتها إلى المطبخ و هي تصيح" انظري ماذا يكلفنا تأخرك! كل هذه الأطباق المتسخة..هذه آخر مرة أسمح لك بالقدوم متأخرة إلى العمل..سأطردك و أرتاح منك في المرة القادمة" ضغطت هزان بأظافرها داخل كفها حتى أدمته و لم تجب..بل خلعت معطفها و انطلقت تغسل الأطباق في صمت يشبه صمت الأموات..عجزت عن منع دموعها من الإنهمار على خديها..معاناة يومية ..ذل..مهانة..احتقار..و بؤس لا ينتهي..مررت ظهر يدها على وجهها و مسحت عبراتها السخية..قطع صوت رنين هاتفها موجة بكاءها..نشفت يديها و أخذت هاتفها ذي الشاشة المحطمة من جيبها..لم تستطع رؤية اسم المتصل..أجابت فورا" ألو" قال صوت على الطرف المقابل" مرحبا آنسة هزان..أنا إيلكار جانان..محامي عائلتك..يؤسفني إخبارك أن والدك قد فارق الحياة ليلة البارحة..و أنت مدعوة لحضور مراسم الدفن و العزاء حسب وصية المرحوم..إضافة إلى ضرورة تواجدك أثناء فتح الوصية" صمتت هزان و لم تدري ماذا تقول..مشاعر مختلطة انتابتها فجأة..أمام صمتها أضاف المحامي" أعطني عنوانك و سأرسل لك سيارة تصطحبك إلى هنا"..وقفت هزان أمام السيدة إيبرو و قالت" صدقيني..أنا مضطرة للذهاب..والدي توفي البارحة و .." ضحكت المرأة بصوت عالي و قالت بسخرية" والدك ؟ و أين كان والدك منذ خمس سنوات؟ لماذا لم يأتي لزيارتك أو يساعدك؟ لماذا لم" قاطعتها" سيدة إيبرو..قد لا أعود ثانية إلى هنا..أردت أن أشكرك على كل ما قدمته لي..إلى اللقاء" نظرت إليها المرأة باستغراب و قالت" إلى اللقاء" ..بعد ساعة..توقفت سيارة مرسيدس فاخرة أمام منزل هزان..حملت هزان حقيبة صغيرة و خرجت..وقف أمامها شاب في أواخر الثلاثينات من عمره..مد يده يصافحها و هو يقول" مرحبا..أنا المحامي إيلكار جانان..سررت بمعرفتك آنسة هزان" (ايلكار..مراد يلدريم) قالت" مرحبا..يبدو أنك أصبحت أنت محامي العائلة..لقد كان السيد مدحت هو.." قاطعها" أعلم..أنا إبنه..كنت أدرس في أمريكا..و عدت منذ أربع سنوات عندما مرض والدي و قررت أن آخذ مكانه" ابتسمت هزان ثم قالت بحزن" لا أعلم ذلك..سررت بلقاءك" نظر إيلكار إلى حقيبتها و قال" هل هذه هي حقيبتك الوحيدة؟" أجابت" نعم" أخذها منها و فتح لها باب السيارة..ركبت و ركب بجانبها..صمتت قليلا ثم سألت" كيف ..؟" لم تواصل كلامها..قال" لقد عانى في السنوات الأخيرة من ذبحات ص*رية متتالية..و لم يستطع قلبه تحمل ضغط العمل و ..توفي..ليرحمه الله" هزت رأسها و لم تقل شيئا..نظرت من النافذة و سرحت بخيالها..عادت بذاكرتها إلى تلك الأيام التي كانت تعيش فيها مع أمها و أبيها و أختها نازان..أيام كانت فيها ملكة على قلب أبيها..يأخذها معه حيث يذهب..يلاعبها و يدللها..كانت الأقرب إلى قلبه..و المحبوبة من الجميع..كان والدها يجعلها تحظر معه قطف العنب و تحضير النبيذ..و يشاركها كل أسرار العمل..ينصحها و يعتني بها..لكن ذلك كله تغير في لحظة واحدة..بعد وفاة أمها بمرض عضال..تزوج والدها من سيفنش ..أرملة أقرب أصدقاءه..حازم إيجمان..و جاءت لتعيش معهم هي و ابنها الوحيد..ابنها..ياغيز إيجمان..