- " سأختصر لك الأمر فارس اخي ، يوم رحلنا جميعا ، يوم تخرجك يعنى ، كنا نؤيد سولاف في قرارها ، الذى كانت قد ناقشته معنا سرا ، بمجرد أن ص*ر حكم المحكمة بإسترجاع جزء من الميراث ، حينها كانت سولاف قد قررت أن ترحل عنك ، وتوهمك بأنها غير عائدة حتى تخضع لإجراء جراحة فى عينيها ، نسبة نجاحها لا تتجاوز العشرون بالمئة ، ولكنها فكرت بأنها ان نجحت ستعود لك ، وحتما ستسامحها وتبدآن من جديد ، وإن لم تنجح فإنها ستختفى من حياتك إلى الأبد ، "بدأت دموعى بالتساقط وأنا أهمس :
- " وبعد ؟ هل فشلت الجراحة ؟ هل تأذت صغيرتى ؟ "
- " لا فارس اخي ، الجراحة لم تتم بسبب وضع سولاف الصحى ، "
- " ما به وضعها الصحى ؟ "
- " جسدها لا يحتمل التخدير ، لأن سولاف ، لأن سولاف ، "
صرخت بعنف :
- " لأن سولاف مااااااذاااااا ؟ "
- " لأنها حامل ، سولاف حامل فى الأسبوع التاسع من الحمل الآن ، "
لحظتها لم أعد واثق فى حدة سمعى ، ولا فى سلامة قواى ال*قلية ، كنت أذرف الدموع ، وأتخيل شكل صغيرتى ببطن منتفخ ، وبرضيع في حضنها ، وبطفل ينادينى أبى ، كنت أبكى وأضحك في وقت واحد ،
- " صغيرتى ، صغيرتى أنا حامل ؟ "
- " وهذا ما جاء بى إلى هنا ، عندما عرفت سولاف بحملها كانت الدنيا لا تسعها سعادة ، رغم صعوبة وضعها ، كانت تبكى وتردد بأن قطعة من فارس فى تنمو داخلى ، وأنه هدية الله لها ليؤنس وحدتها ، ويخفف من شوقها إليك ، ولكن والدتها كان لها رأى آخر ، "
- " ماذا ؟ ماذا فعلت بها ؟ هل أساءت لسولاف أو الطفل "
- " لا لم تفعل ، فقط طلبت منها أن تختار بين إنزال الطفل لأنها لن تنجح في تربيته وحيدة ، أو أن تحتفظ به ولكنها تقبل بعرض الجد مجددا ، فبذلك تضمن والد لطفلها ، وفى الوقت ذاته عودة بقية ميراث والدها ، "
لحظتها شعرت بغثيان ، ورغبة في الطيران إلى حيث تكون والدتها ، حتى أفصل رأسها عن جسدها ، ولكنى فقط نطقت بجملة واحدة :
- " وماذا قررت سولاف ؟ "
- " رفضت أن يلمسها أحد ، رفضت أن تنزل طفلك ، وهددت بالانتحار إن عرضوا عليها أمر جسور مجددا ، ولكن والدتها لا تتركها بسلام فارس ، إنها تعايرها وتعذبها بكلامها الجارح ، وأن زواجها منك لم يجلب عليهم إلا المصائب ، "
- " والآن ، ماهو الوضع الآن ؟ "
- " لا أخفيك سرا ، إن وضع سولاف سىء جدا ، لقد توقفت المسكينة عن تناول الطعام ، لدرجة تدهورت معها صحتها ولأنى وسليم بدأنا نقلق على صحتها وصحة الجنين ، فقد قمنا بالأمس بإدخالها إلى مصح ، دون إستئذان الخالة نريمان ، إنها هناك الآن ، فى مشفى صغير بإحدى قرى أدانا حيث قررنا الرحيل ، "
- " وهل قررت سولاف الاحتفاظ بالطفل من أجلى ؟ "
- " بل من أجل أن تمنحه لك بعد ولادتها ، تقول بأنها ستمنحه لك ولكن ، "
- " ماذا لارا ، تكلمى فيما تشكين ؟ "
- " يدور برأسى أمر مخيف ، هو ما جعلنى أقرر أن آتى إليك رغم عدم علم سليم بحضورى ، إدعيت بأنى آتية لزيارة عائلتى ، "
- " ماذا يدور في رأسك ؟ "
- " أظن بأن سولاف تنوى إجراء العملية بعد الولادة ، فإن نجحت وعاد بصرها ، عادت إليك بطفلها وإن لم تنجح ستهبك الطفل ، وإما ستختفى أو أنها تنوى أن تنهى حياتها فارس ، "
حينها قبضت على ذراعيها بقوة صارخ بها :
- " أتوسل إليك ، أستحلفك بأغلى ما لد*ك ، أن تأخذينى إليها الآن ، "
- " ولهذا أنا هنا فارس آبى ، هيا بنا ، ولكن لا تفزع عندما تراها ، لأنها قد أصبحت نصف سولاف في غيابك ، "
- "انتظرينى هنا ، خمس دقائق وننطلق ، "
ثم غادرت حجرة الجلوس ، لأعود إليها مسرعا وأعانقها وأشكرها بعيون دامعة ، وقلب يخفق فى جنون شوقا إلى صغيرته ،
وأخيرا وصلنا بعد طول سفر ، وأخير حانت اللحظة التي انتظرتها لسبعين يوم ، وثمان ساعات ، وعشرين دقيقة ، ولولا الخجل لكتبت حتى عدد الثوانى ، ولكن ما أن دخلت تلك الغرفة الباردة ، فى ذلك المشفى البائس ، الردىء الإمكانيات ، وما أن وقع بصرى على ذلك الجسد الصغير ، النائم بسلام بذلك الفراش البالى ، ذلك الجسد الهزيل الذى لا أستبدله بكنوز الكون جميعها ، حتى وجدتنى قد نسيت الزمان والمكان ، وتغاضيت عن كل كلمات العتاب والملام التى جهزتها لسليم ، الذى خذلنى وخان ثقتى بمساندته لأخته ، في قرارها الظالم ، لأنى ما أن دخلت ووجدته جالس على كرسى قرب فراش صغيرتي ، يراقبها بحب وقلق وحزن حتى غفرت له فورا ، وشعرت بأنه كان يحرسها من أجلى ، ويرعاها لى حتى أعود واستلم مهمتى من جديد ، تجاهلت نظراته المصدومة لدخولى المفاجىء ، وانتقلت بنظرى إلى ملاكى النائم بسكينة ، بملامحها البريئة الحزينة ، وهى تلف بذراعيها أسفل بطنها ، وكأنها تعانق روحى الساكنة بداخلها ، وكأنها تخاف أن ي**قوها منها أثناء نومها ، فتفقد بذلك آخر خيط يربط بين روحينا ، كانت حبيبتى تضم بذراعيها أمانتى ، التى خبأتها في أحشاءها في لحظات عشق خالدة ، محفورة بداخلى كما هى محفورة بداخلها وإلى الأبد ، أشرت لسليم بأن ي**ت ، واقتربت من فراشها ، أتأملها بعيون قد بللتها الدموع ، وبمجرد أن مسحت على شعرها بأناملى ، حتى استفاقت فورا لدرجة أفزعتنى وأربكت داخلى ، وجدتها تحاول الجلوس وهى تسحب الغطاء فوق جسدها ، بتشوش واضح ، بدأت تتنفس بصعوبة وهمست بصوت لا يكاد يسمع :
- " سليم ؟ ، سليم أين أنت ، ؟ "
يا إلهى حبيبتي كم اشتقت إلى هذا الصوت ، وهذه البحة المغرية التى تجرى شحنات من الكهرباء في جسدى الآن ،
أشرت له بأن يجيبها فقال :
- " أنا هنا يا أختى ، لا تخافى ، "
إضطربت أكثر وسألت بريبة :
- " وهل ، هل نحن وحدنا في الغرفة ؟ "
ف**ت سليم ، فقالت هى بصوت موجوع :
- " سليم ، هل حقا تراه يعصف الشوق بالإنسان إلى هذا الحد يا أخى ؟ "
- " ماذا تعنين سولاف ؟ "
- " إلى حد أن تحس بلمساته ، وتشم عطره ، وتستشعر أنفاسه معك في الغرفة ، سليم ، جسدى تخدر وكأنى أحس بفارس ، أحس بقربه ، لربما لأنى كنت أراه فى حلمى ، أو هل تراه يبحث عنى الآن ، وقلبى أحس بذلك ، أو آه ، لربما كان يبحث عن غيرى الآن ليبدأ من جديد ، من يدرى ، "
أراد سليم الرد عليها بشىء ما ، ولكنى طلبت منه بإشارة من رأسى أن ي**ت ، وعندها قالت صغيرتى وهى تمد يدها في الهواء :
- " سليم ساعدنى لأنزل عن السرير ، أرغب في السير في الرواق قليلا ، أحس بنفسى يضيق في هذه الحجرة ، "
وعندها أشرت لسليم لأن يتركنا وحدنا ، ثم قمت بالإقتراب منها و بإمساك يدها المرفوعة فى الهواء ، شابكا أناملها الرقيقة بأصابعى المشتاقة بجنون ، لملمس جلدها ، وعندها بدأت حبيبتى ترتجف رغما عنها ، أرادت قول شىء ولكن سماعها لوقع خطوات سليم المبتعدة ، وصوت إغلاق الباب خلفه ، قد بدآ في تأكيد شكوكها ، وعندها همست مصدومة وهى تتلمس خاتم زواجنا بإصبعى :
- " سليم هذا ، هذا ، ليس ، أنت ، "
وعندها أطلقت لأنفاسى العنان ، لأبوح لها بصوت تخنقه الدموع :
- " لست هو أجل ، لست سليم ، بل أنا فارس ، فارس الذى ، لا يمكنه مناداة غيرك ب " صغيرتى " ، ولا يرغب بمعانقة سواك يوما تحت المطر ، "
- " أنت ، هنا ، فارس ، أنت ، هنا ، "
- " أجل سولاف ، فارس الذى أحرقتى قلبه برحيلك هنا ، "
سحبت يدها بعنف من يدى ، وهى تحاول إغلاق أذنيها صائحة باكية :
- " لا تخدعنى أرجوك ، أهو خيالى ؟ لاتعيدنى إلى نقطة الصفر مجددا ، بعد أن بدأت أعتاد وحدتى ، فارس ؟ أنت هنا حقا ؟ "
- " أنا هنا يا صغيرة فارس التى مات فارس وإنتهى فى غيابها ، أنا هنا لأنى لم أعتد يوما على وحدتى ، ولم أتقبل غيابك ساعة واحدة ، أعيدى لى يدك صغيرتى لكى تعود روحى إلى جسدى ، سولاف أنا أموت شوقا رغم ما فعلته بى ، "
مدت يديها لتضعها على وجهى ، تحسست ذقنى الذى طال ودموعى التى إنسابت أنهارا ، وهمست بندم وهى تتلمس ذراعي :
- " هل آذيتك بغيابى كثيرا فارس ؟ هل إفتقدنتى إلى هذه الدرجة ؟ تبدو متعبا ، مرهقا ، وقد فقدت من وزنك الكثير ، هل آلمتك سولاف يا روحها ؟ "
- " أجل ، لقد آلمتنى كثيرا ، وخذلتنى ، ولست أدرى إن كنت سأسامحها بسهولة على ت***بها لى ، ولكنى لا أعرف الآن سوى شىء واحد ، بأن لا حياة لى فى بعدها ، حتى وإن كنت مجروحا وغاضبا منها لأبعد حد ، "
ألصقت أنفها بعنقى تستنشقه بقوة ، وكأنها لا تصدق عودتى بعد وقالت باكية :
- " دعوت الله كل يوم ألا يضعفك الشوق ، وتأتى لتبحث عنى ، ولكني كنت كلما نمت حلمت بعطرك ، ووقع أقدامك وهمس صوتك وحرارة أنفاسك ، إنه الإدمان فارس ، إنه إدمانى عليك ، لقد تعذبت فى غيابك أضعاف عذابك فارس ، فأغفر لى ما فعلت ، ولكن ، مهلا ، كيف عرفت بمكانى وكيف وجدتنى ؟ "
- " زارتنى ملاك رحمة ، رأفت بحالى بينما أنت وسليم لم تفعلا ، "
- " أتقصد لارا ؟ "
- " أجل ، هى من جاء بى إلى هنا ، و لقد حكت لى الكثير ، و كذلك عن ، "
عندها وضعت يدها لا إراديا على بطنها ، فسمعتنى أقول لها بتأثر :
- " أجل صغيرتى ، لقد أخبرتنى بأنك تخبئين لى كنزا في أحشاءك ، جميلة تشبهك ولا شك ، "
ولحظتها إنفجرت سولاف في بكاء حار ، وهى تعانقنى بقوة حتى كادت تخنقنى وهتفت :
- " سامحنى حبيبى ، سامحنى فأنا أردتك أن تعلم قبل الجميع ، أردت الركض إليك ومعانقتك ، وإخبارك بأن حلمك قد تحقق ، وبأنك ستصبح أبا من صغيرتك ، التى أثبت لها حبك مرارا ، ولكنها ، "
- " ولكنها استسلمت لسلبيتها وضعفها ، أوهمتنى طوال الوقت بأنها قوية ، فإذا بها جبنت ، في أول مفترق طرق تضعنا فيه الحياة ، "
- " لا تقسو علي ، لست كذلك ، أنا فقط أردت لك الكمال لأنك تستحق الأفضل ، "
- " ومن أخبرك بأنى لم أكن أشعر بالكمال في قربك ؟ وكيف تقررين عنى ما هو الأفضل لى ؟ لماذا كنت أنانية بسلبية في رحيلك ، ولم تتعلمى الأنانية الإيجابية عوضا عن ذلك ؟ الأنانية الإيجابية فى بقاءك قربى ، وكفاحك لتثبتى للعالم بأن العجز هو عجز النفوس ، وضعفها وليس في عجز الحواس ؟ "
أطرقت عندها برأسها وقالت بألم :
- " ربما لأنى أعانى من عجز النفوس كذلك فارس ، "
- " لماذا تفكرين هكذا ؟ "
- " لأنى لم أكبر كطفلة سليمة المشاعر ، أنا طفلة نشأت وسط أهل وأقارب أكدوا لها في كل يوم ، بأنها مختلفة عنهم ، سواء بإبداء الشفقة أو النبذ ، ومهما حاولت الإندماج بهم كانوا يصرون على صدها وفصلها عنهم ، ورغم أنى لم استسلم لمشاعر الرثاء على النفس ، والشعور بالإضطهاد إلا أن والدتى ساهمت في تغذية تلك المشاعر السلبية بداخلى ، وبشدة ، هل تصدقنى إن أخبرتك بأنها لم تعانقنى يوما ، منذ أن فقدت البصر ، نسيت حتى رائحة حضنها فارس ، وهل تعلم بأنك الأول الذى سميتنى ب " صغيرتى " ؟ لقد كانت والدتى غاضبة ساخطة ، بأن القدر قد فرض عليها طفلة ضريرة ، فوق كل ما عندها من هموم ، لم تقلها يوما فى وجهى ولكن تصرفاتها معى هى التى كانت تقولى لى ، أنت ما كان ينقصنا ، إهتمت ربما بنظافتى وجوعى و عطشى ومدرستى ، ولكنها أهملتنى عاطفيا بشكل رهيب قاسى جدا "
عانقتها بقوة ماسحا على ظهرها وأنا أقول لها :
- " سامحينى سولاف ، سامحينى صغيرتى لأنى لم أسمعك سابقا ، ولم أسألك الحديث عن همومك ومخاوفك وماضيك ، لقد كنت أراك قوية صامدة ، فخلت أنك لا تعانين هموما دفينة ، لقد كنت أنانيا معك ، "
- " بل أنا من لم تكن راغبة في الحديث فلا تلم نفسك ، أردت أن تكون كل ذكرياتى معك جميلة ، متكاملة ومثالية دون تجريد نفسى أمامك وإظهار ضعفى ، "
- " ولكنك وعدتنى سابقا ، بأن أكون الوحيد الذى يطلع على داخلك والذى ستطلبين دعمه ومساندته ، "