بئر الحنان الجزء الاول

1965 Words
***الجزءالأول******** بئر الحنان **************** حارة ضيقة يتص*رها جامع صغير ،تتراص البيوت ملتصقة ببعضها وكأنها تتكئ على بعضها البعض خشية الانهيار، يفوح منها رائحة هواء رث اختنق بين جدرانها فلم يجد سبيلا للتنفس ، الظلام الحالك يخيم عليها ويضم سكانها ببوتقة من الفقر جمعتهم في ليلة شتاء باردة ، آوى الجميع إلى بيوتهم يلتمسون شيئا من الدفء وبعضا من الحساء الساخن وغالبا ما يكون ( شوربة عدس) - فهو الطعام الرسمي للفقراء في الشتاء -، يقتل هذا الليل دوي صرخات آتية من سلم أحد البيوت مصحوبا بسيل من الشتائم ، يخرج من فم سيدة كبيرة السن إلى حد ما جعلها لا تتورع من التلفظ بألفاظ نابية أو ربما ضاق ص*رها وفرغ صبرها فلم تعد تدري ما تقول ولم تعد تشعر بأن صوتها تخلل تلك النوافذ المغلقة على أوجاع سكانها فمنهم من أخفى ألمه ومنهم من خر ساجدا متورعا يطلب من ربه سعة الرزق أو تمام الصحة و باب الله مفتوح دائما لمن يطلبه ، لكن هذه السيدة ضاق بها الحال واعتصرها الخوف فانطلقت من فمها الشتائم كقذائف الهاون الموجهه ، -: إلى أين أنت ذاهبة ؟ كل ليلة تخرجين متلصصة ولا يعلم أحد إلى أين تذهبين ولا نراك إلا عند عودتك بتلك الملابس الفاضحة من أين أتيت بها تكلمي؟،الفتاة لا تجيب وتظل تصرخ بصوت غريب وكأن ل**نها ملتوٍ فلا يفهم من صراخها شيء وكأنها تلقي بتعويذة ، كلما بدأت الأمم في فك طلاسمها ذادت في السباب ولاسبيل أن تخجل أو ت**ت ليضع كل الجيران آذانهم خلف نوافذهم والأم تقذفها بأفظع الشتائم وتسبها بسيل من صفات العاهرات ولا تأبه لمن يسمع ، والفتاة لازالت تصرخ حتى جذبتها الأم لداخل المنزل ليعم الهدوء وال**ت الحارة التي لم يخرج أحد من سكانها لينقذ الفتاة من يد أمها ....لماذا؟ لأن هذا المشهد يتكرر كثيرا ، أحيانا بعد أن تعود الفتاة وأحيانا قبل أن تخرج مثل ما حدث اليوم ، تنطبق النوافذ كلها في لحظة واحدة وكأنها أُغلقت من تلقاء نفسها، يدخل كل واحد لحجرته ليكون الحديث عن الفتاة هو حديث السمر لدى أهل الحارة ، فأكثرهم من يقول أنها سيئة السمعة فمنذ أن مات والدها منذ سنة وهي انحرفت ، لكن البعض له رأي آخر الفتاة (ملموسة) وعفريتها يدعوها للخروج ليلا بتلك الملابس الخليعة لتقا**ه وهذا يتضح من تلك التعاويذ والطلاسم التي تخرج من فمها بهذا الصوت الذي يشبه خوار ثور يعذب ليدير ساقية ؛ كان هذا رأي (أم محمود) التي كانت تتمنى أن تزوج (حنان )لابنها ولكن كان هذا منذ عام ؛ أما الآن (حنان) متزوجة تجتر خيبة الأمل وقد شحب وجهها وأصبحت شبحا لفتاة بعد أن لمسها الجان واستوطن جسدها ، لم تتورع (أم محمود ) في إشاعة هذه الشائعة على الفتاة في كل بيوت الحارة فليس لها عمل سوى الانتقال بين بيت تلك وتلك لنقل الأخبار والتلذذ بأكل لحمهن بالنميمة وخاصة بعد أن رفضت (أم حنان) ابنها (محمود) لأنه عاطل بلا عمل مما جعلها تتناول سيرة الفتاة وكأنها معيوبة وأن ابنها لم يرض بتلك الزيجة المشبوهة ، وهناك رأي آخر ؛ أن الفتاة التي تزوجت لمدة شهر واحد وسافر زوجها وتركها ببيت والدتها الأرملة وأخواتها الصغار أصيبت بمرض نفسي ويجب ذهابها للطبيب ؛ وكان هذا هو الرأي الصائب من وجهة نظر الحاجة (نفيسة) جارة (أم حنان) التي قررت أن تتبرع بنصيحتها لتذهب الأم بابنتها لطبيب نفسي قالتها وهي تتناول طعامها كما تمضغ فتات الخبز المتبقي من أولادها على طبلية العشاء ، فيما جلس زوجها يستمع وهو يرتشف الشاي موقنا برأي زوجته الصائب فالحاجة (نفيسة) وإن كانت مازالت في الأربعين من عمرها إلا أنها ذات رأي يعمل له الجميع بالحارة ألف حساب فهي السيدة الوحيدة المتعلمة بينهن حتى وان كانت حاصلة على الشهادة الاعدادية إلا أنها الوحيدة المتعلمة بتلك الحارة، وفعلا في صباح اليوم التالي طرقت الحاجة (نفيسة ) باب بيت الحاجة ( نبوية أم حنان) ففتحت لها وهي شبه نائمة، فلقد أنهكها الصراخ والعويل وتشنجت يديها من جذب ابنتها لتدخل البيت وهي كمن مسها جان وتملكتها قوته فأصبحت بقوة خمسة رجال ،هذا ما أخبرت به الحاجة ( نبوية) جارتها الحاجة ( نفيسة) وهما يرتشفان كوبين من الشاي وحينها أخبرتها أن تذهب بها لطبيب نفسي ، كانت تتحدث بثقة وكأنها وضعت يدها على موضع المرض وشخصت الحالة و الحاجة (نبوية ) مستسلمة لسماعها تهز رأسها أسفا على حال ابنتها بين فنية وأخرى ،وفيما هما تتحدثان طُرق الباب فإذا بأم ( محمود) الجارة التي أعربت عن رغبتها بإسداء النصح هي الأخرى وأن الحل من وجهة نظرها عمل زار لإخراج الجني الذي لبس الفتاة وهنا دار صراع بين الحاجة (نفيسة) التي تتكلم بلغة العلم وترجح الذهاب للطبيب النفسي وبين الحاجة (أم محمود ) التي ترجح عمل زار وذ*ح خروف على جسد الفتاة ليخرج منه الجني اللعوب ، تعالت أصوات السيدتين وكل منهما تتهم الأخرى بالجهل والتخريف و(أم حنان ) مشتتة بينهما وتتمنى أن يتركاها لمصيبتها وتعود كل منهما لبيتها ولا تحشرا نفسيهما بما ليس لهما به شأن ، فجأة قطع شجارهما صراخ (حنان ) فساد ال**ت ووقفت كل منهما شاخصة بنظرها نحو باب الحجرة خائفة من رد فعل الفتاة ، فالتي تخشى جنونها تخاف أن تمد يدها عليها وليس على المجنون حرج ، والتي تخشى الجني الذي يلبسها تخاف أن يصيبها الجني بأذى ، ولكن كل منهما وقفت متسمرة وكأن الطير يأكل من فوق رأسيهما ؛ خرجت (حنان ) ب*عر أشعث وعينين جاحظتين لونتهما بالحمرة سهرة الأمس على السلم وبصوت بح من كثرة الصراخ بدا كصوت الأشباح صرخت فيهما أخرجا من البيت أخرجا ؛لا أريد سماع صوتيكما أيتها العجوزتان المخرفتان ؛ كانت كل واحدة منهما تدفع الأخرى للخارج في هلع يشوبه صراخ مكتوم وكل منهما تضع حجابها على رأسها بعشوائية وتمسك بحذائها وما أن أغلق الباب خلفهيما حتى نزلا الدرج بسرعة الصاروخ كل منهما تصرخ وتتلفظ بكلمات متداخلة غير مفهوم وياللعجب ، دبت فيهما صحة شباب بمضمار السباق تركضان بلا كلل ولم تشتك واحدة من آلام الركبة أو وجع الظهر ، وفرتا كمن يفر من أسد ، بينما هدأت الأم ابنتها وأجلستها لتناول الطعام لتنام بعده قليلا ودموعها تسللت لوجنتيها عاجزة مستسلمة لفيض بلا مصب ، وحديث جارتيها يلوك رأسها ولا تعلم من فيهن الأعلم بحالة ابنتها ولمن تلجأ للطبيب أم لكودية الزار والعرافات فاستسلمت للحزن وضمت الصغيرة التي هدأت بص*ر أمها كرضيع أعمي يبحث عن ثدي أمه ليمتص منه الأمان؛ كان هناك من يقف أسفل المنزل محاولا فهم ما يحدث وما سبب الصراخ شاخصا نظره لأعلى منتظرا نزول السيدتان اللتان لم تكفا عن الصراخ إلى أن وصلا لنهاية السلم ؛إنه المعلم (سيد) رجل في العقد الرابع غير متزوج ، اشتهر بعمل الخير ومساعدة الجيران ولعل كان عنده الحل لتلك المشكلة ؛ وما إن خرجت الحاجة (نفيسة ) من الباب الخارجي لمنزل جارتها حتى تلقفها المعلم (سيد ) كي لا تسقط وأجلسها على كرسي صغير على باب دكانه القديم الذي ورثه عن أبيه كما ورث المهنة البائدة وهي مهنة الإسكافي ، ولأنها مهنة لا تدر عليه الكثير من المال فهو متبرع لحل مشاكل أهل الحارة لذلك كان حديثه مع الحاجة ( نفيسة ) عبارة عن استفسار للأصوات التي يسمعها تص*ر من بيت (أم حنان ) وعن حديث أهل الحارة عن الجني الذي يلبس جسد (حنان ) ويجعلها تخرج كل ليلة مرتدية تلك الملابس الخليعة ولا أحد يعلم إلى أين تذهب ومن تقابل؟ ، بادرته الحاجة ( نفيسة ) بالدفاع عن سمعة البنت وأنها مسكينة ، فموت والدها جعل أمها تزوجها ومازالت في الثامنة عشر من عمرها من رجل يكبرها بعشرين عاما يعمل بالخليج ، ومالبث أن سافر بعد شهر من الزواج وتركها ، فلا هي بنت حكمها في يد أمها ولا هي زوجة حكمها في يد زوجها ؛ هذا ما قالته الحاجة (نفيسة ) منوهة بثقة عن مرض نفسي أصاب (حنان ) نتيجة الحرمان العاطفي وأن الحل عند الطبيب النفسي ولا شك في ذلك ، شربت الحاجة (نفيسة ) كوب الليمون لتهدأ وتخرج ما في جوفها من أسرار ثم استأذنت من المعلم (سيد) وذهبت لتحضر الغداء قبل أن يحضر زوجها ويكون عليها الدور بالصراخ إثر ض*ب زوجها لها وتكون علكة الحارة ليوم كامل ، جلس المعلم (سيد ) يفكر ماذا لو صعد وطرق باب الحاجة (أم حنان ) وعرض عليها أن يأخذ ابنتها للطبيب هل ستقبل؟، ربما تقبل وربما تحرجه ،وماذا لو أحرجته فهو متعود على هذا من أهل الحارة فمنهم من يقبل مساعدته ومنهم من يرفض وأخيرا قرر الصعود؛ فتحت له (أم حنان ) وبنظرة مندهشة ردت عليه السلام فأراد ان يزيل دهشتها فقال :أتيت ومعي الحل لمشكلة (حنان ) فهل تسمحين لي بالدخول، وافقت وأشارت إليه بالجلوس على الأريكة المتهالكة المتص*رة الصالة وأسرعت تغلق باب غرفة (حنان ) بالمفتاح حتى لا تخرج عليهما كما فعلت منذ قليل فالمنزل حجرتان ؛ حجرة لأولادها الخمسة وحجرة لـ(حنان ) تزوجت بها ، وبعد سفر زوجها شاركتها الأم الحجرة وصالة صغيرة تعد غرفة معيشة لاستقبال الضيوف وتناول الطعام ومشاهدة التلفاز ، كانت عينا المعلم (سيد ) تتفقد المكان بسرعة ورائحة العفن تخرج من الجدران فلا منفذ للهواء بالصالة وأردية الأرائك الممزقة تدل على قسوة الحياة ، جلست (أم حنان) إلى جوار المعلم (سيد ) تتهامس حتى لا تسمع (حنان ) الحديث ولكن حديثه لم يأت بجديد فهو نفس حديث الحاجة ( نفيسة ) عن الطبيب فما كان من (أم حنان) إلا أن تصرح له بقلة المال لانعدام مورد الرزق بعد وفاة الزوج وأنها أجَّرت محل البقالة الذي كان زوجها يملكه وما يأتي منه لا يكفي الا الطعام القليل ، ففي رقبتها ستة أبناء وحتى هذا الإيجار سيقطع عن قريب فالمستأجر قرر تركه أول الشهر وما من مورد لديهم غيره ، وزوج ابنتها ما إن سافرحتى انقطعت أخباره ولا تعرف له عنوان، واشتكت له عدم وجود رجل جعل منها ومن بنتها لقمة سائغة بأفواه القاطنين بالحارة ؛ وما زاد الطين بلة مرض ابنتها ،أصَّرالمعلم ( سيد ) أن يصطحبها للطبيب النفسي كما أنه سيحل موضوع دكان البقالة ، استسلمت (أم حنان ) للمنقذ الوحيد الذي أتى بعصاه السحرية ليحل كل مشاكلها فكانت أمنيتها الوحيدة وجود رجل تلقي على عاتقه كل مشاكلها ومشاكل أولادها ويكون قادرا على حملها دون تأفف أو ضجر ، كان المعلم (سيد) من هذه النوعية التي تفني وقتها في إسعاد من حوله وحل مشاكلهم دون مقابل، تن*دت الأم بدلال وبداخلها شعور بأنه أتى من أجلها فمازالت بقايا مشاعر الأنثى تستوطن جسد الأرملة الخمسينية ولا مانع ان تتزوج من شاب يصغرها بعدة سنوات فيعيد لها الإحساس بالشباب ويكون رجل البيت ، فبدأت تتغنج أمامه وتتكلم بنبرات فيها غنة ولمعت عيناها كأنما لونهما العسل وافترشت المرواد ليل بهما ، أغلقت الباب خلفه ومن ثم نفضت الحزن الأ**د من ملابسها وفتحت صندوق الملابس القديم الذي غطته اكوام الأتتربة ونسج فوقها عنكبوت بيته ودفن به منذ زمن، أزاحت الأتربة من فوقه بكفها الخشن الذي لم تلمسه الحناء منذ زمن وافترش بالتجاعيد التي اخترقت الاصابع تسابق الزمن ؛ أخرجت ثيابها المزركشة بالألوان ونفضت عنها غبار الزمن ، وقفت في مواجهة المرآة تنظر لنفسها وكأنها ترى نفسها لأول مرة منذ سنوات طويلة ، فمرض زوجها لسنوات طويلة وبقاؤه بالفراش أنساها أنها امرأة ولم يهتم رجل بها منذ مات زوجها، مر عام وآن الأوان أن تخلع هذا الثوب الأ**د البالي وتعود لارتداء ملابسها الملونة وتخضيب تلك الأصصابع والكفوف وقررت أن تذهب للحمام البلدي حتى يتلون كعبيها باللون الوردي وتزيل سنوات من فوق جسدها؛ وبينما تنظر للمرآة ممسكة بالثوب الأحمر ملامسا جسدها وقد شردت وعادت ترى نفسها مازالت شابة وتستحق أن تجرب حظها مع المعلم (سيد) ليصبح رجل البيت ويهتم بصغارها ؛ إذا بدقات عنيفة وصراخ صادر من حجرة (حنان) فبعد أن ودعت المعلم (سيد) نسيت أن تفتح الباب لابنتها التي أصابها الجنون وصارت تصرخ وتبكي وتنادي أمها متوسلة أن تفتح لها الباب ؛ ركضت (أم حنان ) صوب الباب لتفتح للصغيرة التي صارت كمن فقد شيء ما بالصالة وعيناها تدوران بالمكان كبوصلة تحدد الاتتجاه وفجأة سألت أمها عن هذا الصوت الذي سمعته ومن هذا الرجل؟، هدأتها أمها وأخبرتها عن زيارة المعلم (سيد ) ورغبته أن يأخذها للطبيب فابتسمت الصغيرة بعينين دامعتين وبنظرة تنم عن الرضا ارتمت في حضن الأم والأم تمسح على شعرها وتهمس : أرسله الله لنا ليساعدنا وابتسامه هادئة تلهو على شفتيها ؛ بينما يجلس المعلم (سيد) أمام دكانه ممسكا بالنرجيلة ويتناول كوبا من الشاي سمع بكاءً وعويلا بأول الحارة قفز واقفا برقبة مشرئبة يتطلع لمص*ر الصراخ فإذا بامرأة غريبة عن الحارة ترتدي عباءة سوداء وحولها أربعة من الصبية ؛ أكبرهم لم يتجاوز الثانية عشر من عمره ، والصغير ممسكا بطرف العباءة والجميع يبكي، تطوع المعلم (سيد ) باصطحاب السيدة وأولادها لمحله وأحضر لهم الماء وعصير الليمون لتهدأ هي وأولادها وتتكلم ليعرف مشكلتها فهو حلال المشاكل بالحارة إلى اللقاء في الجزء الثاني دلال أحمد الدلال
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD