الفصل الأول (1) الجُزء (1)
إنّي_اقترفتُكِ
[[الفصل الأول]]
_ شآبيب _
-------------------------------------------------------
إنه الخامس والعشرين من سبتمبر الخريفي لـ سنة 2015، قاربت عقارب الساعة على السادسة مساءً أيّ لحظة غروب شمس هذا اليوم العصيب .. كانت ليلة مشمولة ذات برودة مُعتدلة .. رست السُفن في الحال، فامتلأ الميناءُ بالبحارةِ وال**برين .. شآبيبُ المطرِ داهمت الفضاء من حولهم وبدأ السحابُ يبتلع الشمسَ إلى جوفهِ وبرز قوس قزح في الأفق بشكل آخاذ .. منظرٌ يستحق المُشاهدة وعون للتأمل والتدبر في حكمة الله على أرضه.
جلست هذه صاحبة القلب المُتألم إلى صخرة، تبعد مسافات كافية عن ضجة السُفن .. لمعت العَبرات في مُقلتيها العسليتين حُزنًا على ما آلت إليه الأمور بها .. فهي "آسيا ثابت الأسواني" ابنة مدينة المنصورة عن أبٍ يعمل كمعلمٍ لغة عربية وأم شاغلها الأكبر تعليمها والعناية بها وش*يقها التوأم. ظلفت على السابع والعشرين من عُمرها ولم تُقرر الزواج بعد، لأنها أعتقدت دائمًا بأن الزواج قرارًا مصيريًا يأتي عن اقتناع تام بالطرف الآخر وهي حتى الآن لم تقتنع بأحدهم كعونٍ لها. تخرجت من كُلية "التمريض العسكري" بعد دراسة دامت خمسة أعوام برتبة "مُلازم أول احتياط" .. أثبتت ذاتها وأصبحت ذات شأن معروف ومتميز من بين قريناتها. لم تكتفِ والدتها بتأنيبها بصدد هذا الموضوع بل صاحت بها صباح هذا اليوم تُخبرها بأنها أصبحت ضمن طاقم العنوسة الذي فاته القِطار.
يُقال أن مع التجانُسِ التآنسُ؛ هكذا امتازت علاقتهما فقد عشقها ش*يقها التؤام الذي أنهى دراسته في إطار الهندسة المعمارية، لم تمنعه وظيفتهُ من البقاء دومًا إلى جوارها وخاصةً في أوقات ضعفها، فقد تآنسا بالوجدٍ الخالدٍ فوق كُل شيء.
وقف "آصف" إلى جوارها، يراقبها بنظرة حانية بينما تجلس هي في شرود تام، ورغم حالة ال**ت الرهيبة التي احتلت الأجواء بينهما، تمكن هذا المشهد من تشتيت انتباهها، فتشخصت أبصارهما له .. مجموعة من الرجال بزيّ موحدٍ من اللون الأ**د وسيارات تصطف بالقُرب من شاطيء النيل وهناك سيارة مُزينة بالورود الرقيقة تقف في زاوية مـا وسرعان ما نزلت عروس منها تتأبط ذراع زوجها وابتسامة كبيرة زينت ثغرها ثم اتجه الجميع خلفهما حتى إحدى البواخر الفخمة .. كانت الصحافة تملأ الشاطيء .. يبدو بأن حفل العُرس ينتمي لشخصٍ مهم للغاية .. ابتسمت في خفة من حلاوة المشهد أمامها وما أن انتقلت هذه الزحمة إلى داخل الباخرة حتى تن*د "آصف" تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ ثم جلس إلى الصخرة بجوارها وبنبرة هادئة قال:
_ " هتفضلي ساكتة كتير؟!"
تشكلت على ثغرها، ابتسامة واهية لم تصل إلى عينيها .. أراحت خدها على راحتها ثم نظرت إليه في شيء من التماسك وقالت:
_ " تحبني أقول أيه يا سي آصف؟!"
زفر "آصف" بضيقٍ، أومأ برأسه إيجابًا ثم أسرع بإلتقاط كفها يضغط عليه بين قبضتيه برفق قائلًا:
_ " آسيا، ممكن ما تضحكيش لمّا جواكِ يكون ضلمة؟ علشان باين أوي إن ضحكتك مش من القلب".
سالت الدموع من عينيها على أثر كلماته، فهو يعرفها حق المعرفة .. يحفظ تفاصيلها الكبيرة والصغيرة .. يُحبها جمًا ويؤلمه استسلامها .. وهنا تابعت "آسيا" بمرارة داهمت حلقها:
_ " عايزني أعمل أيه بس؟ أصرخ وأقول للناس إنّي موجوعة؟ أقول لهم إنّي عانس ماهو ماما قالت ليّ كدا؟ ماما مش عايزة تحترم رغبتي في الاختيار وكُل يوم تضغط عليّا؟ أيه يعني لمّا أوصل لـ 27 سنة ولسه ما أتجوزتش؟".
التجأت إليه تبثهُ شكواها من والدتها، كان دائم التفهُمٍ لكُل ما تبوح به نصفه الآخر، على الفور طوقها بذراعهِ وسرعان ما ائتلف معها في حُزنها ثم قال بنبرة ثابتة:
_ " أوعي يا آسيا تزعلي من أمك، هي زيّ أيّ أُم عايزة تشوف بنتها عروسة بفستان أبيض، وإنتِ طول الوقت بترفضي بدون مُبررات".
كانت قد مالت برأسها على كتفه وسرعان ما رفعتها من جديد ومضت تحرك ذراعيها حركة تنُم عن الضيق ثم شهقت بنبرة مُتبرمة:
_ " بذمتك أنا لقيت حد مُناسب وقولت لأ؟!، كُل واحد يقعد معايا يقوليّ أنا بيتوتي وهدفي تكوين أُسرة وبس ومش هقبل مراتي تشتغل .. يعني أيه الكلام دا؟! تعسف ص**ح ومق*ف .. أبويا وأمي صرفوا عليّا دم قلبهم وباعوا فدادين الأراضي علشان يدفعوا فلوس الكلية وأحقق أنا حلمي .. وبعد كُل دا واحد جاي يقولي أنا مراتي تربي العيال بس؟! .. يعني دي هتكون وظيفتي في الحياة؟ ونهاية صبري واحد ياخدني آلة لبيته؟!".
آصف برفض مُنقطع النظير:
_ " أوعي تكوني كدا، حتى لو الظروف أجبرتك، إنتِ صح يا آسيا وأنا جنبك ومش هيطولك غير اللي هيقدرك".
لا يتلفظ ل**نهُ إلا بكُل جميلٍ يُحلي مرارة الأيام وثُقلها، هو عوضٌ الله لها وسندٌ منه لضعفها .. قربت وجهها منه ثم لثمت خدهُ بحب كبير فيما أردف هو بنبرة مهتمة:
_ " أيه مواصفات الشخص اللي نفسك ترتبطي بيه يا آسيا؟!".
طرقت برأسها مرات في بطء، نظرت إليه بعينين براقتين ثم قالت بشيء من الامتنان:
_ " يكون آصف لآسيا .. يحسسني إنّي مميزة حتى لو مافيش فيّا ميزة .. عنده إيمان باختلافي .. حتى لو اختلافي مش مُبهر له .. يحبني .. فاهمني؟!".
عبث بحاجبيه متبرمًا، ثم نهض في مكانه وأسرع بجذبها معه للنهوض ثم أردف بنبرة غير مُتكلفة:
_ " إذن فخلينا نحب في بعض لحد الحلال ما يشرف".
أطلقت "آسيا" ضحكة طويلة رغم ما يكمُن في روحها، ركضا معًا في سعادة بمُحاذاة الشاطيء .. كان الطريق أسفلتيًا .. فتوقفت فجأة ونزلت ببصرها أسفل قدميها وهي تجد دبلة من اللون الذهبي ترّن بايقاع متعالٍ بجانب قدميها حتى استقرت بالأرض وتوقف الصوت تمامًا .. قطبت ما بين عينيها وقد تبادلت النظرات بينها وبين ش*يقها وبهدوء مالت حيث تقبع الدبلة ثم التقطتها بين أصابعها لتقرأ الحرف المستقر داخلها، فهو أول حرف من اسمها .. ولكن من أين جاءتها؟ ومَنْ صاحبتها؟ .. تلفتت حولها تبحث عن صاحبة الدبلة ولكن المكان قد شغر أخيرًا من الناس وبات هادئًا .. آسيا بنبرة مُرتابة:
_ " جت منين دي؟!"
آصف وهو ينظُر للدبلة طورًا وآخر حوله، وبنبرة متحيّرة تابع وهو يتوجه ببصره للأعلى حيث الكوبري الذي يعلوهما:
_ " مش عارف !!".
" على الجانب الآخر من المشهد" ..
وقف على طرف الكوبري، يستند بذراعيه على حافته، كانت كالقمر في ليلة اكتماله، لا ينقُصها من الجمال شيء ولا يختلف على نسبها وحسبها اثنان، ولكنها ذات روحٍ ثقيلة وقلب مبتورة مشاعره .. اتقدت النيران داخل جدار روحه وهو يجد من أحب تتأبط ذراع آخر غيره .. ترتدي له الأبيض رغم الوعود. صُعق من نهاية هذا الفيلم اللاذع المُرّ، لم يكُن ببطلها كما ظن بل كومبارس أدى دوره وانتهى!! .. استمر تحديقهُ إليها زمنًا طويلًا حتى ابتلعتها الباخرة وغابت عن ناظريه، حاول مليًا إقناع نفسه بأنها تتزوج من غيرهِ بابتسامة عريضة دون أدنى تأنيب ضمير منها.
كور قبضة يده بانفعال مُفرط، كذلك برزت عروق عُنقه النافرة، اغرورقت عيناهُ بالألم قبل الدموع فصر على أسنانه كي يتحكم في ثباته الانفعالي، أسرع " اياس" بوضع كفه في أحد جيبي بنطاله ثم التقط دبلتها .. لم تعُد له .. ثم إنه عليه لفظها من داخله .. لم تتحمل ظروف عمله .. فهي ابنة "اللواء طاهر المُرشد" من الطبقة الأرستقراطية .. تقدم لخطبتها .. فوافق والدها على مضض وقد أشترط عليه بأن يقدم إليه ما يطلُبه كي تكتمل هذه الزيجة في وقت قصير للغاية .. تمت الخُطبة بعد حُب دام لثلاث سنوات .. وانتهت القصة عندما أخبرتهُ " آيات" بأنه لن يستطع تأمين البيئة التي تحلم بها. فهو مُجرد " رائد شرطة" مُقارنة برجُل الأعمال الذي وعد والدها ببناء عِشًا من حريرٍ لها.
اياس عز الدين (العزاوي)، شُرطي برُتبة "رائد" تمايز في عملهِ على الآخرين في الطبع والسلوك، كما أنه يتميز بطُول الإناةِ مما يجعله من السبّاقين لنيل الترقيات .. يبلُغ من العُمرٍ اثنين وثلاثين عامًا .. يمتلك جسد شُرطي بالفعل .. فهو فارع الطول وعريض المنكبين ومن روّاد صالات الرياضة .. يتسم بملامح شرقيّة فذّة ووسامة غامضة .. هو الأخ الأكبر لش*يقة وحيدة .. والدته ربة منزل أصيلة نشأت وترعرعت في إحدى قُرى الصعيد أما والدهُ فقد توفي بعُمر يناهز الستين وقبل وفاته كان قاضيًا مُتقاعدًا.
أخرج من ص*ره زئيرًا مكتومًا، تشكل في صورة زمجرة خافتة .. رفع ذراعه عاليًا ثم طوح بالخاتم بعيدًا في **ود وملامح صلبة ثم صاح محتدًا بالغضب:
_ " اياس العزاوي ما ت**روش ست، أنا أحرق وما أتحرقش، أوجع والوجع ما يطولنيش".
تأججت النيران داخله، رغب بمواساة نفسه ببعض الجُمل والتي لن تُداويه .. التظاهر بالقوة ينجح في كُل الحالات إلا الحُب، دائم تصيُد الضعف فينا. نزل بكفه يتحسس سلاحه ثم انطلق صوب سيارته يركبها مُغادرًا المكان .. وضع الهاتف على أذنه وما أن جاءه صوت والدته حتى قال بنبرة ثابتة:
_ " عايز أشوف العروسة اللي إنتِ جايباها".
------------------------------------------------
قبض بكفه على خُصلات شعرها وسط صراخها العالٍ، أبرحها ض*بًا حتى طالتها الكدمات واكتنف الألم سائر جسدها ومن ثم قام بجرها من خصلاتها خلفه .. قدح الشرر من عينيه بصورة كبيرة بينما كان ارتياع ابنهما الذي يبلُغ من العُمر ست سنوات، شديدًا. فقد انزوى "يزيد" على نفسه في صالون البيت ومضى يبكي بحُرقة وجسد مُرتعش.
_ " حرام عليك بقى، مش طايقاك، طلقني يا سراج، أنا بكرهك .. بكرهك".
صرخت "مريم" به في ألم ضارٍ، تمقت عُنفه ولكنها لا تقوى على المُقاومة، تشبثت بإحدى قدميه ترجوه أن يتركها ولكنه سحبها جرًا حتى غرفتهما. اتجه صوب أحد الأدراج ثم أخرج منه قرصًا من الدواء، يُستخدم لمنع حدوث حالات الحمل ثم عاد إليها وهو يصرخ بصوتٍ هادرٍ بعد أن ضغط على فكها بقوة آلمتها:
_ "برشام منع الحمل دا، بيعمل ايه في دولابك؟! .. مش عايزة تخلفي مني ولا أيه؟!".
أطلقت صرخة مدوية وهو يصفعها بقوة على وجهها، نظرت إليه في ارتياب ولكنها قالت بنبرة كارهة له:
_ " طفل تاني منك؟!، كفاية يزيد، ذنبه أيه ابني يشوف أب مش سوي زيّك؟! .. أنا مش هسكت المرة دي .. هقول لاياس على كُل حاجة بتعملها فيّا .. والله لأخليه يسجنك يا مريض".
كبا لون وجهه إلى الإحمرار المُشتعل، ضغط بكفه على شعرها حتى مالت رأسها للخلف قليلًا وبضحكة مقززة قال:
_ " مش كُنتِ بتحبيني زمان، ولا كُنتِ حابه فلوسي يا روح أمك؟! .. ولمّا خسرت شركتي والفلوس خلصت قولتي تخلعي!"
ثبتت "مريم" بصرها داخل بؤبؤ عينيه مُباشرة، تنظُر إليه في تعبير مُبهم وبنبرة إيقاعها بطيء قالت باحتقار:
_ " فلوسك؟ .. هو إحنا محتاجين لفلوسك؟ .. أنا كُنت هفضل أحبك لو كُنت حسيت إن عندك ذرة دين وأخلاق أو حتى رجولة !! .. إنت معدوم من التلاتة .. الفلوس اللي خسرتها أفقدتك عقلك علشان طول عُمرك مجنون بالفلوس، عارف إنت لو معاك كنوز الدنيا كُلها مش هتعرف تشتري الرجولة".
أفقدتهُ كلماتها السيطرة على نفسه، اتجه بجسده إلى عَلاقة الملابس ثم التقط الحزام منها وإنهال على جسدها به، أخذت تتلوى أمامه من فرط الألم .. تستغيث ولا يسمعها أحدًا .. جاء الصغير على صوت صراخها .. أجهش في البكاء بصوتٍ عالٍ وهو يرى والدتهُ تُهان ض*بًا من أبٍ كان من المفترض عليه أن يكون قدوةً ولكنه كان نقمةً .. انكمش "يزيد" على نفسه وبدأ يتقهقر بخُطواته للوراء .. وكانت نتيجة خوفه مما يرى بأنه قد بلل سرواله القُطني وأضحت حالته مُزريةً.
_ " مامـــــا".
صرخ ينادي والدته التي ما أن تداركت أنه يرى ما يحدُث لها حتى تحاملت على ذراعيها ثم التقطت دورة المياة الزجاجي واقتربت من زوجها وض*بته على رأسه عدة ض*بات حتى أفقدتهُ وعيه تمامًا.
سقط أمامها أرضًا .. بات جُثةً مُتسطحة على سجادة الأرضية والتي تلوّنت بالدماء .. ارتعشت اطرافها ثم أسرعت باحتضان صغيرها .. يبكيان معــــًا.
----------------------------------------------
_ " هاشم بيه، الغدا على الطرابيزة، عايز حاجة تاني؟!"
قالتها العاملة وهي تضع الطعام على المائدة المستديرة المجاورة للفراش .. كان جالسًا في شرفة الغرفة يقرأ ورده اليومي داخل أحد دُور العجزة. أغلق المُصحف ثم التفت إليها قائلًا بنبرة هادئة:
_ " يزيد ومريم ماجوش؟!".
هزّت رأسها سلبًا في حُزن على هذا الشيخ الكبير الذي علا المشيبُ شعرهُ وملأت التجاعيدُ قسمات وجهه ناصع البياض، اِفتر ثغرهُ عن ابتسامة خفيفة بينما استأنفت العاملة بهدوء:
_ " وقت الزيارة فاضل عليه ربع ساعة ويخلص، أعتقد إنها مش هتيجي المرة دي".
انقبض ص*رهُ قليلًا، تجمعت الدموع في عينيه اللاتي ي**وهما الحُزن طوال الوقتٍ، فقد ألقاهُ ابنه "سراج" في دار العجزة مُنذ عام وقتما أفلست شركته فأعلن له بأنه لم يعُد قادرًا على تحمُله. لا يكلف نفسه عناء زيارته، أما "مريم" دائمة التردد إليه مرتين كُل أسبوع. تحضر له ما تشتهيه نفسه من الأطعمة ويقضي وقتًا مع حفيده. قلق عليهما كثيرًا ولكنه قال أخيرًا بنبرة صابرة:
_ " لعل المانع، خير".
العاملة بهدوء: " بإذن الله، يلا اتغدا، وأنا شوية وهاجي أدي لك الدوا".
--------------------------------
إنه الخامس من شهر إبريل الربيعي لـ سنة 2018، داخل منزل كبير ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية في الت**يم ولكنه يقبع بحي راقٍ وبسيط. يتكون المنزل من ستة طوابق ذات أساس راقٍ للغاية وهناك ممر يفضي إلى حديقة كبيرة المساحة.
انتهت السيدة زينب من صلاتها، أخذت تتشمم هذه الرائحة المنبعثة من المطبخ. حدقت في الفراغ بصدمة ثم نهضت من مكانها على الفور وأسرعت صوبه .. قطعًا الدجاج الموضوع بالفرن قارب على طور احتراقه .. دلفت إلى الداخل لتجد "نيهال" تقف في زاوية من المطبخ وتتصفح جوالها دون أن تستمع إلى نصائحها بشأن الطعام. أسرعت بالتقاط الحرقة ثم فتحت الفرن وأخرجت منه الصينية وقد جحظت عيناها في صدمة وهي تصيح:
_ " نيهــــال !!".
فزعت الأُخرى جراء الصوت، ابتلعت غِصة في حلقها وهي تنظر إلى الصينية التي اصطبغت كلها بالأ**د، عضت على شفتها السُفلى ثم قالت بتلعثم:
_ " آآ آسفة يا ماما زينب، أنشغلت بصحابي !".
لوت " زينب" شدقها حنقًا، ألقت الصينية بغيظ على رُخامة المطبخ ومن ثم تابعت بنبرة صارمة:
_ " ما تقوليليش يا ماما ولا زفت، هنأكل خطيبك اللي راجع من معسكر شهر وهفتان أيه؟!".
نيهال بكُل برود قالت وهي تزيح شعرها الأشقر خلف أذنيها: _ " نطلع غيرهم من الديب فريزر أو نطلب دليڤري".
جزت "زينب" على أسنانها، حاولت مليًا كمت غيظها داخلها، فقد طلب "اياس" منها بأن تُبادر بدعوة خطيبته للغداء. لم تكن ترضى ولكنه أصر على ذلك. جاءت نيهال إليهم لتجلب معها خسائر لهم. لا تقبلها زينب كزوجة لابنها .. فهي تعلم جيدًا بأنه رغب بخُطبتها كي ينسى "زوجته" .. فقد تزوج "اياس وآسيا" من ثلاثة أعوام عن غير حُب .. حاولت آسيا دائمًا على تمتين العلاقة بينهما بينما سعى هو لإماتتها. والدت آسيا هي صديقة مُقربة للسيدة زينب .. فرغبت فيها زينب وبشدة كعروس لابنها المكلوم. ربما كانت "آسيا" إحدى ضحاياه فقد تزوجها لحظة أن مات قلبه. ولم يمنحها شيئًا لتستمر، انصاعت آسيا وقتها لرغبة والدتها وتزوجا ثم أنجبت منهُ طفلة قاربت على الثلاث سنوات كذلك.
أحبتهُ "آسيا" رغم جفاهُ لها، وأكثر ما كان يُثير غضبها منه، غموضه الموحش .. عصبيته الشديدة على التافه من الأسباب .. لم يكُن يرغب فيها إلا لحظات خنقته .. كان يغيب عنها بالشهور معللًا ذلك بأنها طبيعة عمله .. حيث يمكث في الوحدات العسكرية بالشهور للتدريب وأحيانًا يُداوم في قسم الشرطة بالأيام.
كانت السيدة "زينب" تمارس دور الحماة على آسيا، فقد اعتقدت بأنها من هؤلاء اللواتي يستطعن العجن والخبز والنجاح في الأعمال المنزلية .. ففاجأتها "آسيا" بالنقيض، كانت تشتعل بينهما مشادة يومية كلامية ولكنها في النهاية أحبتها وعشقت حفيدتها ليُفاجأها ابنها بخبر الانفصال.
رمقتها السيدة زينب بنظرة أخيرة قبل أن تتجه صوب غرفتها على الفور، وقد قررت مُهاتفته وإلا إنفجرت بهذه غريبة الأطوار.
------------------------------------
ثبت راحتيه بالأرض، وشدّ جسده الضخم وهو يؤدي رياضة الضغط داخل إحدى الغرف بمنطقة الوحدة العسكرية، فمنذ أن انفصل عن زوجته من شهرٍ سابقٍ وهو لا يتزحزح من هذا المكان .. لم يذهب إلى والدته إلا عندما اصطحبها معه إلى بيت "نيهال" التي تعيش في البناية المجاورة لهم لكي يتقدم لها. لا يفهم ما الذي يقترفه بحق نفسه وإلى متى ستدوم علاقاته النسائية التي بدأت منذ ثلاث سنوات مضت .. تصبب العرق من جبينه فقد مارس رياضة الجري من دقائق مرّت.
لحظات وسمع صوت طرقات خفيفة على باب الغرفة، نبج صوته الرخيم يسمح للطارق بالدخول .. دلف العسكري بخُطى مترددة للداخل ثم قال بتلعثم:
_ " بعتذر منك يا سيادة المُقدم، بس فيه تليفون من البيت في كابينة 5".
جدحهُ "اياس" بنظرة ثاقبة، هزّ رأسه في خفة ثم قال بصرامة وهو يلتقط المنشفة يجفف بها العرق حول جبينه:
_ " اتفضل إنت يا حصول". (حضرة الصول).
راقبهُ بعينين حادتين تشي بمقدار قسوته التي غلبت طباعهُ الطيبة، جلس إلى طرف الفراش بعدما التقط هاتفه المُغلق ثم فتحه حتى يعاود الاتصال بوالدته وهو على علم تام بماذا ستُخبره. أنه عليه الحضور في الحال لأنها ما عادت تطيق البقاء مع خطيبته لثانية واحدة والأهم أن "رتيل" ستتم الثلاثة أعوام غدًا وعليه أن يبقى إلى جوار ابنته.
ارتقى اياس إلى رُتبة "مُقدم" مُنذ عام مضى، ولكنه لم يعد يفرح بشيء .. لا يُذكر أنه شعر بالسعادة طيلة الثلاث سنوات إلا مرتين فقط: عندما جاءت "رتيل" إلى حياته وعندما رسم هذا الوش على ظهره ورقبته.
وضع الهاتف على أذنه ينتظر رد والدته، التي ما أن فتحت حتى قالت بنبرة حزينة:
_ " فينك يا اياس؟!".
اِفتر ثغرهُ عن ابتسامة هادئة، فرغم طباع والدته الصعبة إلا أنها طيبة القلب ولا يستطيع أن يرفض لها طلبًا أو يُحزنها، تن*د بخفة ثم قال:
_ " في الوحدة يا أُمي".
زينب بغيظٍ قالت: " نعم يا روح أُمك؟! .. بقولك أيه يا اياس .. إنت بتروح مني يابني .. من ساعة ما طلقت آسيا وإنت مش طبيعي .. شهر عدى على طلاقكم ومن وقتها ما بتدخلش البيت ولا بتفكر تنام في شقتك .. لمّا إنت مش قادر على غيابها بتطلقها ليه؟!! .. حرام عليك نفسك .. إنت أقوى من إن واحدة غارت من حياتك ، تأثر على علاقتك بمراتك".
زمجر باختناق وغصة تلتهم قلبه خلف قناع جبروته، ضغط على مقدمة رأسه بأنامله وبنبرة مُختنقة قال:
_ " خلاص يا أُمي، كفاية كلام في الموضوع دا، آسيا اللي اختارت، وأنا مش هرد لها رغبة".
زينب بانفعال مُفرطٍ: " اختارت أيه؟ واحدة نايمة جنب جوزها وبيهلوس باسم غيرها .. واحدة بتسمع كُل يوم عن علاقات جوزها .. واحدة ما أتحبتش من جوزها .. عايزها تستمر .. بقولك ايه قسمًا عظمًا لو ما جيت دلوقتي لأرمي لك البتاعة بتاعتك دي برا".
مسح "اياس" على وجهه ثم أردف بنبرة هادئة محاولًا ارضائها:
_ " حاضر يا دفا".
زينب بضحكة ساخرة: " الدفا إنت خسرته يا ابن عز، وجايب ليّ واحدة صايصة ولا نافعة .. عايز تعوض غياب "آسيا" بغيرها بس صدقني مش هتلاقي ضوفرها تاني".
_ " سلام يا أُمي .. مسافة السكة وجاي .. مع السلامة".
قالها ثم ألقى الهاتف على الفراش بانفعال قوي، اضطربت نبضات قلبهُ من مُجرد ذكرها .. أضحى يعشقها في النهاية .. يُحب ولكنه لا يعرف كيف يحفظ العلاقة بمن أحب .. يراوده هاجسًا قهريًا أنها ستوقع به في عشقها ثم تغيب، تيقن دائمًا أن النساءَ لا يعشقن .. أمات قلبهُ من وقتها .. وعندما جاءته الفرصة المناسبة عزف عنها .. أراد لحظة انفصالهما أن يصرخ بها بكُل كلمات العشق الوجودية .. ولكنه لم يستطع فعل ذلك .. فهي متشبثة برأيها لا تتزحزح عنه .. وكيف تقبل العودة إليه بعدما رأته بغرفة نوم حبيبته السابقة !!!
غمامة من الدموع داهمت مُقلتيه ولكنه تمكن في النهاية من كبح أيّ دليلًا قد يُثبت صحة ضعفه في غيابها .. وشم صورتها على ظهره .. واسمها يقبع على ظاهر عُنقه .. ثم يصرخ في الناس بأنه الأكثر قوة في العالم ومن يرى الدليل الذي يتوارى خلف ملابسه .. يتأكد بأنه واه القلب مكلومًا.
-----------------------------------------
_ " مريم، حبيبتي إنتِ صاحية؟!".
قالتها "زينب" وهي تطرُق باب غرفة ابنتها برفق، وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدت ابنتها تطل من خلف الباب ثم قالت بنبرة هادئة:
_ " أيوة يا أُمي !!".
زينب وهي تنظر إليها بتوجس: " مالك يا بنتي؟ وشك مخطوف ليه؟! .. ويزيد نام ولا لسة؟!".
أومأت "مريم" برأسها إيجابًا، تنحت زينب جانبًا بينما ترجلت الأخرى خارج الغرفة وأغلقت بابها .. تن*دت بثُقلٍ ثم قالت بنبرة شبه باكية:
_ " حاسة إن تصرفات يزيد كل مادا بتسوء يا أُمي، حتى رسمهُ كُله عُنف وناس بتض*ب في بعضها .. قلبي واجعني عليه".
أسرعت "زينب" باحتضان ابنتها ثم ربتت على ظهرها بحنان بالغٍ وبنبرة مهمومة قالت:
_ " مش شماتة في الميت، بس ربنا يجازيك يا سراج بكُل أفعالك .. انسي يا بنتي .. خد جزاءه وكُل الدنيا شهدت ضده .. والعلامات اللي في جسمك كانت كفيلة تخليه في مؤبد لو عايش".
أجهشت "مريم" في البكاء بصوتٍ عالٍ، وبنبرة متهدجة قالت:
_ " أسوأ حاجة في الدنيا لمّا فكرت ألبس فستان أبيض زيّ كُل البنات، فرحت بالجواز لمجرد إنّي هكون عروسة .. كانت قراراتي طفولية .. مش قرارات واحدة ناضجة .. ليه يا ماما وافقتي على جوازي وأنا عندي 17 سنة؟!
أخذت "زينب" تربت على ظهرها عدة ض*بات متتالية يغمرهم الرفق، تن*دت تنهيدة حارة ثم قالت بشرود:
_ " علشان أصريتي عليه يا مريم ولا نسيني؟! .. وهو ما كنش يتعايب .. قولت أهي فرصة .. واحد هيصونك ويعززك.
اِفتر ثغر "مريم" عن ابتسامة ساخرة فيما تابعت زينب بنبرة خبيثة:
_ " سيبك من المرحوم دلوقتي، هتردي على آصف أمتى؟!".
ابتعدت "مريم" عن والدتها على الفور، لوت شدقها باستنكار من تفكير والدتها، ضغطت على عينيها بضيقٍ ثم قالت:
_ " آصف؟! جواز تاني؟ .. يعني ابنك مبهدل أُخته ولسة بتقولي آصف !! .. ثم إنّي هعيش علشان أربي ابني وبس .. جواز تاني مش هيحصل".
ذغرتها والدتها بحدة، قبضت على ذراعها بغيظ وباليد الأُخرى شدّت أذنها وهي تقول بنبرة ثابتة:
_ " كُنت قعدت عليكِ يوم ما ولدتك أحسن، اسمعي يا بت إنتِ، الشاب هيموت عليكِ وكلمني بدل المرة ألف وما أظنش انفصال آسيا واياس هيغير من قراره علشان دا راجل بيقول الكلمة مرة واحدة".
رمقتها "مريم" من جانب عينيها ثم استرسلت تقول بنبرة ذات مغزى:
_ "قصدك تقولي إن طنط أُلفت عرفت تربي وإنتِ لأ يا ذنوبة؟!".
زمت "زينب" شفتيها بغيظٍ، وبنبرة صارمة تابعت وهي تُشير إلى خُفها:
_ " الذنوبة دي أهي في رجلي، اللي هتتقطع عليكِ إن شاء الله".
أطلقت "مريم" ضحكة عالية وأسرعت بالإنصراف من أمامها بينما تابعت زينب بنبرة ثابتة:
_ " تعالي هنا علشان نشوف هنرجع جوز الأغربة دول إزاي لبعض؟ .. ياختاااااي البت الصايصة زمانها ولعت في المطبخ".
هرولت " زينب" مسرعة إلى المطبخ تتفقد حال هذه "خائبة الرجا" كما تُسميها بينما تتبعتها "مريم" إلى هناك.