بعد انتهاء العرض، انسحب الجمهور متثاقلاً كما جاء. بينما بدأ الطاقم بجمع الأدوات وتنظيف المكان، كنت أمشي إلى الخلف بوجه شاحب، أدعو في داخلي ألّا يُقام اجتماع السيرك الليلة. لكن القدر دائمًا ما يستهزئ بي.
اقتربت مني روز، تلك التي يناديها الجميع "الق**حة". كانت تحمل صناديق فوق بعضها حتى كادت تسقط من بين يديها، ومع ذلك لم تفوّت فرصة لتذكرني بواجبي.
قالت بصوتها المتعب:
"لوسيفر... لا تنسَ، الاجتماع بعد ساعة".
نظرت إليها مطولًا، إلى عينيها الغائرتين خلف طبقة المكياج الرخيص، إلى ابتسامتها التي يحاول الجميع تحويلها إلى نكتة. يعرف الناس أنها مجرد مادة للسخرية في عروض ويليام، ويضحكون وكأن التي تقف امامهم ليست انسانة لها مشاعر . لكني رأيتها من قبل، رأيتها تبكي أمام المرآة وتتمتم لنفسها بكلمات لا يسمعها أحد. رأيتها تتوقف عن الأكل أيامًا كاملة لأنها مقتنعة أنها "ليست جميلة بما يكفي"، مع أنها عادية جدًا. عادية لدرجة أن عاديّتها تؤلمها أكثر من قبحٍ مزعوم.
قطعت شرودي بنبرة حادة هذه المرة: "لوسيفر، لا تحاول التهرب من الاجتماع. مارسيل لن يغفرها لك هذه المرة".
رفعت حاجبي ساخرًا، ولم أرد. فتركتني وهي تتابع طريقها محملة بأحمالها الثقيلة.
بعد أن بدّلت ملابسي وغسلت وجهي من بقايا الطلاء، شعرت اخيرا انني احر ،ذهبتُ إلى مكان الاجتماع. جلسنا نحن مكان الجماهير، بينما وقف الرئيس مارسيل على الخشبة كأنه ملك يتفقد رعاياه. مشى ذهابًا وإيابًا كعادته، كأنه يملك المكان يوزع نظراته من أعلى برج كبريائه.
ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال بصوت متعالي:
"كما يعلم الجميع... تبقّى عرضان على نهاية الموسم. بعدهما سنعيد ترتيب الأدوار. البعض سينال فرصة أخيرة، وإن فشل... فالباب أمامه...نهائيًا".
كان يتحدث بثقة زائفة، كأن كل كلمة يقولها يجب أن تُكتب على جدار من ذهب. كان بارعًا في المديح المسموم، في الادعاء بأنه يحملنا جميعًا على كتفيه، بينما في الحقيقة، لا يرى فينا سوى د*كور لحياته المريضة.
قاطعته مساعدته "لوسي" و اقتربت منه وهمست في أذنه. رأيت كيف تغيّرت ملامحه فجأة، ثم تظاهر باللامبالاة:
"اعذروني... سأعود بعد قليل".
تبادلنا النظرات. كلنا يعرف ما بينه وبين لوسي، وكلنا ن**ت. فهي زوجة السيد شارلوك الثري، الرجل الذي يراه الناس ملاكًا محسنًا، بينما هو مجرد د*كتاتور يشتري سمعته بالمال و يتضهد اي شخص يقف في طريقه.
جلس بجانبي ماركوس، بابتسامته البلهاء التي لا تفارقه.
قال وهو يميل نحوي:
"في ماذا شردت هذه المرة يا لوسيفر؟".
أجبته بلا مبالاة:
"ولماذا تأخرت أنت عن الاجتماع يا ماركوس؟".
ضحك بصوت خافت، كأنه يخشى أن يسمعه أحدهم
"كنت أساعد روز على ترتيب بعض أغراضها. ثم... تبديل الملابس. على أي حال، كل هذا الاجتماع بلا جدوى. مارسيل يكرر نفس المسرحية في كل مرة وعود فارغة و فرص كاذبة".
ابتسمتُ بسخرية. كان محقًا.
عاد مارسيل هذه المرة بوجه متجهم، كمن يبتلع غضبه بصعوبة. رفع صوته فجأة:
"من دخل مكتبي وقت العرض أو بعده؟!".
ساد ال**ت.
صرخ مارسيل بعصبية:
"لا أحد يريد الاعتراف؟!!!".
حاول ماركوس التخفيف من حدّة الموقف، فقال متردّدًا:
"هل... هل سُرقت أوراق يا سيد مارسيل؟".
اقترب مارسيل خطوة للأمام، صوته ارتجف من شدة الغضب:
"بل أسوأ! دخل أحدهم مكتبي، دمّر المكان، وترك رسالة تهديد!".
ساد المكان . شهقات، همسات، خوف يتسرب بين المقاعد.
رفع يده ليسكت الجميع، ثم قال بنبرة ثقيلة، وهو يحدق في وجوهنا واحدًا تلو الآخر:
"اتصلت بالشرطة. سيأتون قريبًا. أمامكم فرصة واحدة: من فعلها فليعترف الآن. سأعفو عنه... وأكتفي بطرده".
عرفت أنه يكذب. مارسيل لا يعفو. مارسيل يطحن خصومه حتى لا تقوم لهم قائمة. والشرطة؟ مستحيل أن يلوث سمعته أمام الملأ، فسيبدأ الناس بالبحث خلفه وستظهر عليه العديد من الشائعات، والأسوء ان أعداءه سيستغلون الفرصة للإطاحة به.
انحنى ماركوس نحوي وهمس بابتسامة مريبة:
"من تظن فعلها؟".
أشحت بوجهي:
"لا أعلم... ولا يهمني".
ضحك:
"بل يهمك. دعنا نراهن. اختر اسمًا، وإن صدقت، تأخذ مكاني. وإن خسرت، تنفذ أوامري ليوم كامل".
تنهّدت. ماركوس لا يتركك حتى يجرك معه لأل**به
"غدًا إذًا... نضع الرهان".
أنهى مارسيل الاجتماع قائلاً ببرود:
"عودوا لغرفكم. من يعرف شيئًا... ليأتِ إليّ".
نهض الجميع من أماكنهم وبدأوا بالتوجه لغرفهم وهم يثرثرون على من هو الفاعل، حتى انفصلت عنهم متوجهًا للقبو. أنا الوحيد الذي يمتلك غرفة بمفرده. صحيح أنها في القبو لكن أفضل من مشاركة غرفتي مع شخص آخر.
لكني بدأت أكره غرفتي بسبب الحوادث الغريبة التي بدأت تحصل معي. فقد لاحظت تغير بعض الأغراض من مكانها ووجدت بعضًا من أغراضي محطمة، وحتى أنني بدأت أكره النوم بسبب الكوابيس التي أعاني منها وغيرها من الأشياء. لكنني اليوم كنت مرهقًا بشدة فقد أردت النوم لا غير.
القبو كان يزداد ضيقًا عليّ يومًا بعد يوم. رائحة العفن والرطوبة تتسرب إلى أنفي، قطرات الماء تسقط من السقف لتحدث أصواتًا متقطعة كنبض ثقيل، والجدران تئن من القدم. ومع ذلك، كان هو الملجأ الوحيد الذي يحميني من الآخرين، حتى لو كان يبتلعني ببطء.
استلقيت على السرير الذي لا يكفي إلا لشخص واحد فقط، ويص*ر صوتًا مزعجًا كلما تحركت، لكنه لسبب ما أكثر شيء أنتظره بفارغ الصبر طوال اليوم. أنتظر اللحظة التي أعود فيها وحيدًا مع أفكاري، أدفن وجهي في وسادتي الشاهدة على أحزاني وغضبي، الشاهدة على كل شيء خفت إظهاره للعلن، وهي الوحيدة التي لا تستغرب من أفكاري ومعتقداتي.
سمعت صوتًا يصحبه طرق على باب غرفتي:
"لوسيفر".
نهضت وتوجهت ناحية الباب لأفتحه. كانت ماريا المسؤولة عن البريد، لكن أنا شخص مقطوع من شجرة، لا أقارب لي، وقمت بدفع كل مستحقاتي وليس لدي إيجار لأدفعه. من قد يكون؟
"لوسيفر ريغمور، هذه الرسالة لك".
قامت بمد الرسالة لي، أخذت الرسالة منها وأغلقت الباب ولم أكلّف على نفسي حتى أن أشكرها أو أن أبتسم لها ابتسامة بسيطة.
بقيت عيناي على الرسالة وأنا أعود لسريري. جلست على حافة السرير وأشعلت سيجارة وبدأت أفتح ظرف الرسالة.
في الداخل… ورقة صغيرة، لم يكن فيها سوى كلمتين مكتوبتين بخط حاد مرتبك:
"فليمت الرئيس، وليحيا وارثه".