بعد جدالٍ طويل لا أستطيع حصر مدته بيني وبين ذاتي، قررت أن أذهب إلى المدير مارسيل.
لم أعد أرغب في تحمّل عبء إخفاء أمر كهذا.
توجهت نحو باب غرفتي، أمسكت بالمقبض، لكن الصراع في داخلي لم يكن قد انتهى بعد. غير أنه سرعان ما خمد حين تذكرت كل ما فعله الرئيس من أجلي. نعم، أنا أكرهه، لكن ذلك لا يمنعني من الاعتراف بجميله.
بدأت أخطو بين أروقة السيرك، وقد عزمت على أن أسلك الطريق الأقصر إلى مكتبه و هو المرور عبر ساحة العرض بدلًا من الممرات الخلفية.
كانت الساحة محاطة بأضواء خافتة، إلا ضوءًا وحيدًا في المنتصف يسطع اكثر من سائر الأضواء.
وقفت أسفل ذلك النور، رفعت وجهي، ثم أغمضت عيني. تخيلتُ أنني محبوب، لا لمجرد أنني أقف على المسرح، بل لأن الناس يرون إبداعي يرون الشعلة التي خمدت طويلًا بانتظار من يشعلها. لكنهم لم يروا سوى جسدٍ يتحرك.
لم يروا الفن الذي أردت تقديمه الفن الذي لا يقوم على التنمّر والذل، بل على الجهد الحقيقي والعمل الصادق.
أنا مجرد شبح تحت الضوء. ومهما حلمت، فلن يتحقق شيء. لكن لا بأس، فالأحلام مجانية. ولولاها لهلكت البشرية منذ زمن بعيد.
فمن دون الأحلام لا وجود لمتعة الحياة… ولا حتى لعذابها. إذ كيف يمكن للإنسان أن يعرف الألم إن لم يحلم بالراحة؟
ابتسمتُ ابتسامةً باهتة تحمل في طياتها شفقةً على نفسي، ثم واصلت السير حتى وصلت إلى نهاية الساحة.
التفتُّ إلى الخلف، تأملت الضوء من جديد، أغمضت عيني للحظة قصيرة، ثم أكملت طريقي.
وقفت أمام باب مكتب مارسيل.
اللوحة الذهبية المعلّقة عليه كانت أنصع من كل ما في السيرك، وكأنها تسخر من بؤسنا جميعا، مكتوب فوقها بالخط الأ**د العريض:
"مدير السيرك"
طرقت الباب مرة واحدة، انتظرت.. لكن لم يصلني رد. سمعت أصواتًا من الداخل، فطرقت ثانية.
"سيد مارسيل، هذا أنا… لوسيفر."
جاءني صوته مرتبكًا:
"أم… هل هناك أمر مهم يا لوسيفر؟"
تجمدت للحظة. ما الذي يربكه؟
قبل أن أجيب، انفتح الباب فجأة.
ظهر مارسيل واقفًا، بوجه متصلب يحاول السيطرة عليه، وخلفه لوسي، ي**وها توتر واضح
"ادخل يا لوسيفر"
تنحى عن الباب ببطء، وأغلقه خلفي بحكم
نظرت إلى المكتب الذي أعرفه عن ظهر قلب؛ لقد عشت طفولتي فيه، وكل ذكرى محفورة في ذاكرتي ترتبط بهذا المكان.
قال، محاولًا استعجالي:
"إذن، ما هو الأمر المهم؟… هل لد*ك خبر عن الفاعل؟"
أعادني صوته من شرودي إلى سبب حضوري.
"لا… ليس هذا هو السبب، لكنه ذو صلة."
مددت يدي إلى جيب بنطالي وأخرجت الرسالة. كانت في حالة يرثى لها، مطوية بعشوائية حتى غدت مجعّدة الأطراف.
نظر للظرف وكأن فيه سما. مد يده بتردد، فتح الورقة، وعيناه تنتقلان.
بدأت ملامحه بالتبدل بالتدريج من صرامة وتماسك إلى دهشة وخوف صريح لم يستطع إخفاءه والعرق بدأ يتجمع على جبهته
كانت الكلمات حادة كالسكاكين:
"فليمت الرئيس، وليحيا وارثه."
رفع عينيه نحوي، كانتا محمرّتين متورمتين بالعروق، وكأنهما على وشك الانفجار.
صرخ بصوت متوتر:
"من أعطاك هذا؟!.. تكلم يا لوسيفر!"
تجمدت في مكاني أحدّق فيه. كلماته جعلت عقلي يسبح في دوامة من الأسئلة:
لماذا يبدو خائفًا إلى هذا الحد؟ ما معنى وارثه؟ مارسيل لا يملك أبناءً ولا عائلة…
أدرك من نظراتي أن لا صلة لي بالأمر، فخفض صوته وقال بحدة مقنّعة:
"اسمعني جيدا يا لوسيفر... عد إلى غرفتك...وإذا جاءتك رسائل أخرى.....سلمني إياها مباشرة. مفهوم؟"
ثم تقدّم ليفتح الباب، وكأنه يطردني بلطف مصطنع.
خرجت دون اعتراض، لكن قبل أن أغادر، رميت نظرة سريعة نحو لوسي.
كانت نظرة تحمل مزيجًا من السخرية والفهم، وردّت عليّ بنظرة مشابهة مع رفع حاجبها بخفة.
خطوت مبتعدًا عن المكتب. كان ال**ت يخيم على المكان، لا يقطعه سوى صرير الألواح الخشبية تحت قدمي.
كنت مرهقًا، رأسي مثقل بالأفكار، لكن قلبي ظلّ يدق بقوة.
مررت بالمرآة الكبيرة قرب المخزن. توقفت بلا وعي.
انع** وجهي باهتًا، عيناي نصف مطفأتين من التعب. لكن… خلفي؟
خلفي كان ظل طويل، ساكن، يقف قرب الباب البعيد. لم يكن مجرد ظلال للضوء، كان أغمق، أكثر كثافة، كأنه شخص يختبئ في العتمة.
التفت بسرعة. الممر كان خاليًا.
عدت أنظر للمرآة، فلم أجد سوى وجهي وحده.
ضحكت بخفة جافة:
"مجرد هلوسة… من الإرهاق".
لكن قلبي لم يصدق.
شعور بارد تسلل إلى ص*ري: أنا لست وحدي… هناك من يتبعني منذ لحظة خروجي من مكتب مارسيل.