الفصل الثالث

4562 Words
بعد قليل كان مؤمن يحملها على كتفيه وهي تعلق الزينة بتركيز، حاول مشا**تها فنهرته قائلة "مؤمن، توقف عن أفعالك الصبيانية حالا وإلا سأحضر السلم بنفسي وأنهي هذه المهزلة" تحرك مؤمن بشكل سريع فأطلقت فنون صرخة خائفة فضحك وهو يحكم يديه حولها وقال "هل علمتِ الآن ما فائدة يديّ؟ إنها تحميك من السقوط" ردت عليه بانفعال "ومن أصر على هذا الوضع؟ أنا أم أنت؟ ألم يكن السلم أرحم؟" ضحك بقوة وقال "هذا أفضل بالنسبة لي، هل لد*ك مانع؟ ثم لماذا تعترضين وأنا من يحمل كل هذا الوزن؟" ألقت ما بيدها بعنف وحاولت النزول من على كتفيه لكنه لم يسمح لها وظل يدور بالغرفة وهي تعافر وتصرخ حتى قاطع جدالهما صوت الممرضة التي قالت بصوت مذهول رغم اختناقها بالبكاء "سيدي الطبيب" توقف مؤمن عما يفعله فورا وأنزل فتون بهدوء والتفت للممرضة التي قالت بحرج "آسفة، ولكن الباب كان مفتوحا" وقفت فتون خلفه تداري وجهها في ملابسه من شدة الإحراج ف*نحنح مؤمن وقال بهدوء "لا بأس، ماذا حدث؟" تكلمت الفتاة ببكاء وقالت "حدث انفجار على بعد اثني كيلومتر من المركز وبدأت تتوافد الحالات المصابة إلينا، الوضع في الأسفل مزري، نخاف ألا نتمكن من استيعاب هذا العدد، حسبي الله ونعم الوكيل" تحفز مؤمن وقال "أريد الجميع في الأسفل حتى العاملين، كل من يستطيع تقديم الدعم عليه التواجد، وغرف العمليات أريدها جاهزة" هزت الفتاة رأسها وانطلقت تعدو بالممر لتنفيذ أوامر مؤمن الذي سحب فتون من يدها وأسرعا إلى المصعد بدون تفكير فهناك أرواح تحتاجهما وهما لن يتأخرا، قبل مؤمن يد فتون وقال "أريدك أن تكوني قوية" هزت رأسها ب**ت لينفتح باب المصعد على صراخ المكلومين وأنين المصابين وبحر الدماء الذي لا يتوقف الإرهاب عن سفكه........ أخبرني أنك تستطيع تحمل ثورة قلبي، أخبرني أنك ستهادنه في أمر عشقك الذي استحكم بالروح وألغى ال*قل واحتل ربوع الوجدان وأعلن سيادته ملكا متوجا على عرشي ... تمشي بين الحقول وهي تحمل صغيرها الذي لا يتوقف عن الابتسام لكل من يقا**ه حتى وصلت لمنطقة يملؤها الزرع المتسلق فجلست بها وصغيرها ذو العام والنصف يكافح ليتخلص من قبضتها وينطلق ليعيث الفساد بالمكان، حاولت ثنيه كثيرا وتحجيم شقاوته الغير طبيعية لكي لا يلتقط شيئا مضرا ويضعه بفمه كما يفعل بها دائما، وبعد فترة استُنزفت طاقته فغفا بين يديها ليشحن طاقته ويواصل كوارثه التي لا تنتهي، تن*دت بإرهاق وهي تضمه لص*رها وقد سحبتها أفكارها لدوامة المستقبل الذي لا فرار منه، مرت ثلاث سنوات وهي زوجة لرجل يعا** كل ما له صلة بالطبيعة، رجل لا تظن أن له شبيها، عاصف كما الإعصار ….هادئ كليلة ربيعية ...متعنتٌ كإمبراطور ...وطيّبٌ كطفل، مرت ثلاثة سنوات وهو معها رجل من الطراز الأول …..لم يجرحها أو يحزنها يوما، كان يهديها السعادة داخل جدران السجن ولم يكتفِ بهذا بل أحضر لعالمها طفلا لا تعرف وسط كل ما يحدث لها ما محله من الإعراب، طفل جعلها على حافة الهاوية فبرغم زواجها من حيان كانت تشعر أنها حرة ومهما طال الوقت يمكنها الانطلاق لكن طفلها أثقل خطاها وجعلها تنزلق في هوة سجنه، ألا يكفيها مشاعرها الحمقاء التي تورطت فيه حتى ما عادت ترى الحياة بدونه؟ دارت بعينيها في المكان كأنها تبحث عن أحد يستطيع أن يرشدها للطريق الصحيح فانطلقت صرخة من مكان قريب هزت أعماق قلبها، تلفتت حولها لتنطلق صرخة أخرى أفزعت طفلها الذي بدأ يصرخ ببكاء وتوالت الصرخات وهي تحاول أن تقترب من الصوت، حتى وصلت لإسطبل الخيول لتتسمر وهي تجد حيان يربط أحد الرجال إلى شجرة ويمزق ظهره بالسوط وبقية الرجال يشاهدون ما يحدث ب**ت ولا أحد يتدخل ….كان يبدو كوحش هائج وصل لقمة غضبه ووقع تحت يده فريسة ضعيفة مهما تمنت الرحمة لن تطولها، منظرٌ اقشعر له بدنها وخصوصا عندما عاد ينزل بالسوط على ظهر الرجل مرة أخرى بدون رحمة فانشق لحمه بمنظر مرعب وسالت دماؤه و زاد صراخه المتألم ليفزع طفلها الذي لم يتوقف عن البكاء، فصرخت برعب "فليتحرك أحد، أنقذوا هذا المسكين" لم يلتفت لها أحد كأن صوتها لم يصل لهم فاقتربت تصرخ بارتجاف "تحركوا أيها الحمقى أنقذوه" أحنى الجميع رؤوسهم وزاغوا بأعينهم ولكن لم يتدخل أحد، فاقترب منها زكي زوج مب**كة يقول "لماذا لا تعودين لمنزلك يا أم رابي؟ فكما ترين الوضع..." صرخت به "تريدني أن أرحل وأتركه ليقتل ذلك المسكين، ماذا فعل ليستحق كل هذا؟" تكلم زكي بحرج "أعطني الطفل وأنا سأعيدكما للمنزل، فوجودك هنا لا يصح" كان السوط ينزل على ظهر الرجل هادما هدوء روحها واستكانتها التي عاشت بها لثلاث سنوات فما تراه الآن يظهر لها أن زوجها وحش لا يرحم، أخذ زكي رابي يحاول أن يهدئه ظنا منه أنها ستخضع لطلبه وتعود معه ليجدها تتقدم بسرعة وبخطا غاضبة تجاه حيان الذي لا يشعر بما يحدث حوله فغضبه أعماه لدرجةٍ لم يصل لها منذ سنوات، يُسرق وتُقتل فرسه وفي عقر داره! كان غضبه كالحمم يتأجج كلما التقط أنفاسه، كان يض*ب الفاعل بالسوط الض*بة تلو الأخرى لكن ناره المشتعلة لا تهدأ فجأة شعر بيد تشد منه السوط فظن أن أحد رجاله تدخل لإنقاذ هذا القاتل فنفض يده التي تحمل السوط بقوة أطاحت بورد على الأرض، توسعت أعين حيان وصرختها تخترق سواده وتصيب قلبه، التفت ينظر خلفه وكله أمل أن يكون عقله بدأ يغيب من شدة الغضب ليجدها مسجاة على الأرض تبكي وجبهتها بدأت تنزف، تلاعبت شياطينه على وتر آخر حين تأكد من وجودها هنا ملقاة على الأرض أمام كل رجاله، اقترب منها يرفعها بيد واحدة ثم صرخ بزكي بصوت أرعب الجميع "أعد الطفل إلى المنزل" تحرك زكي وتحرك هو خلفه يجرها ب**ت وهي تصرخ به "اتركني أيها المجرم اللعين، كنت ستقتل الرجل بدم بارد، هل رأيت ما كنت تفعل؟ يداك ملطختان بالدماء كأنك مجرم منذ سنوات" كان صوتها يصل إلى رجاله وهو يحارب غضبه لكي لا يصفعها فيخرسها للأبد، رأى زكي يتوجه بطفله المفزوع إلى المطبخ ليعطيه لنبوية، فصعد السلم يجرها ب**ت حتى وصل لغرفتهما فدفعها للداخل ثم دخل وأغلق الباب ووقف خلفه يشاهدها تصرخ بجنون وتقول "هل أصبح القتل بالنسبة لك شيئا عاديا؟ أيها المجرم المختل، دماء الناس ليست لعبة" رد عليها وشياطينه تأمره أن يطيح بها "اخرسي يا ورد فأنا لن أتحمل جنونك كثيرا، يكفي ما فعلتِه في الأسفل، لقد أهنتِني وسط رجالي" اقتربت منه تض*ب قبضتيها بص*ره وهي تقول "وهل لك عين لتتحدث؟ كنت ستقتل الرجل" صرخ بها "أنا لست قاتلا، فقط كنتُ أؤدبه ليكن عبرة لمن يعتبر، السؤال هنا …..ما الذي أتى بك إلى هناك؟ ومن أين أتيت بالجرأة لتفعلي ما فعلتِه أمام رجالي؟ أنتِ زوجتي ويجب أن تحترميني، ما حدث اليوم ستعاقبين عليه، لم أقسُ يوما عليكِ يا ورد لكنك تماديتِ جدا" جابهته بقوة قائلة "وأنا لن أبقى بهذا المنزل لحظة واحده، سآخذ ابني وأرحل من هذا السجن لتستطيع قتل من تشاء ولكن في غيابي" سقط قلبه بأقدامه فاقترب منها يقول بخفوت "أعيدي ما قلتِه مجددا" كانت الدموع تتسارع في سباق وتتساقط على وجنتها وعيونها كالدماء تنظر له بغضب وتقول "كما سمعت سأرحل أنا وابني، فنحن لا نريدك بحياتنا بعد الآن" هز رأسه بهدوء حتى ظنت أن الكلام لا يهمه لتتوحش عيناه فجأة وهو يقبض على رسغها ويقول "ومن سيسمح لك بالرحيل؟ أنت زوجتي ولن تتحركي خطوة بدون إذني شئتِ أم أبيت ِ وجنونك هذا ستحاسبين عليه، سأعلمك كيف تخرج كلمة كتلك من شفتيك بهذه السهولة كأنني بحياتك هباء، سترين يا ورد" صرخت به "هذا ما سيحدث وسترى يا حيان سأتركك وأرحل ….على كل حال لقد انتهت الثلاث سنوات وأصبح بإمكاني نيل الطلاق متى أردت، لم أعد مدينةً لك أو لغيرك، أصبحت حرة لأرحل متى شئت، أم ستكبلني؟" نظر لها حيان بعدم تصديق ثم وضع أصابعه تحت أنيابه وضغط عليها بغضب يحجمه بأعجوبة فتراجعت للخلف تنظر له برهبة، وقالت بصوت مرتجف "هل ستؤذيني أنا أيضا؟" أنزل يده من فمه وقال بغضب مهول "متى أذيتك؟ ….متى؟ …..لكن ليكن بعلمك أن عبورك بوابة هذا المكان سيكون فوق جثتي، لا ثلاث سنوات ولا ثلاثمائة سيفرقن بيننا، أنت ِ ستكونين بجانبي هنا وأنا ألتقط أنفاسي الأخيرة على ص*رك، سنأتي بمزيد من الأطفال وسننشئ عائلة كبيرة ونحافظ عليها للأبد، لذلك وفري على نفسك أحلام الحرية الوهمية التي بدأت تداهمك واعلمي أنه ليس لك مني مفر" توسعت عيناها وحرب مشتعلةً تدور بص*رها وقالت "هذا يعني أنك كنت تخدعني؟" نظر لها بملامح شرسة وعين واحدة لا يملؤها سوى اللوم وقال "وما الجديد؟ ألست دوما مخدوعة؟ ألست دوما ضحية شري وسوادي؟ …...فلتكتمل اللوحة ونضع لها اللمسات الأخيرة، ها أنت وها أنا وليس هناك مفر" بدأت تقذفه بكل ما تطوله يدها وتقول "أيها النذل المخادع، سأهرب منك وسآخذ ابني ونتركك لظلامك تعاني عسى أن تكون نهايتك الجحيم" كانت دعوتها قاسية سحبت الدماء من وجهه، وجعلتها ت**ت كأنها كانت تعاني من نوبة جنون شديدة ولا تدري ماذا تفعل، تكلم بصوت جامد "ما سبب كل هذا؟ ماذا يحدث معك؟" بدأت تشعر أن الغرفة تدور بها فقالت "عندما رأيتك تعذب الرجل جن جنوني، لم أتخيلك يوما بهذه الوحشية، كنت قاسيا فوق الوصف، فوق احتمالي... مشاعري الهائجة جعلتني أندفع بكل قوتي كأنني أحاول أن أوقف هذه الصورة قبل أن تنطبع في ذاكرتي" دقق النظر في وجهها يشعر أنها لم تنهي حديثها بعد فقال بهدوء "وماذا أيضا؟" سقطت على ركبتيها منهارة تبكي بحرقة وتقول من بين شهقاتها "أنا …...أشك …أنني حامل" تتابعت الانفعالات على وجهه من قمة الغضب إلى قمة الصدمة ثم إلى قمة السعادة التي حولته لطفل صغير اقترب بخطوات هادئة وخر على ركبتيه أمامها رافعا وجهها بأطراف أصابعه يسألها "لماذا البكاء الآن؟" قالت بارتجاف "أنت فعلت بي هذا لأنك تريدني أن أظل سجينتك للأبد" أحاط وجهها بكفيه يمسح دموعها وقال "هل حقا تريدين تركي والرحيل؟" ردت عليه بشهقة شطرت قلبه "بل أردت أن أملك حق الاختيار ولو لمرة واحدة" لم يفهم إجابتها، أهي تأكيد أم نفي؟ لم يجد بداخله سوى خوفا من أن يدرك المعنى فأراح ظهره للحائط وفرد أقدامه وجذبها لتنكمش على ص*ره كأنها طفلة، أما هو فأحكم ذراعيه حولها وأعاد رأسه للخلف وظل يدور بمتاهات ويسأل نفسه سؤالا واحدا ……..متى نهاية كل هذا؟ أنا وأنت كنا ضحايا بحر الحياة الهائج…. ارتفاع الموج أرهبنا ….فرقنا ….فحين تركت يدك يدي شعرت أنها النهاية ….ض*بتني الأمواج بعنف حتى كدت أستسلم للغرق ولكن عندما عادت يدك لتتلقفني علمت أن أيا كان ما سيحدث لي بين يد*ك فهو أفضل بكثير، حتى الموت بين يد*ك ليس مخيفا، يكفيني أنك هنا …. يجلس في مكتبه يحاول التركيز في الأوراق التي أمامه ولكن جواد الذي يدور حوله ولا يكف عن إحداث الفوضى معترضا على عدم قدوم تولين الصغيرة حتى الآن جعله لا يستطيع حتى رؤية ما أمامه، أغلق الملف أمامه بعنف وقال "جواد اهدأ، لا أستطيع التركيز، لقد حدثتٌ عمك بشر ووعدني أنه سيأتي بها، لذلك كف عما تفعله أو سأعيدك إلى المنزل" صعد صغيره الذي سيتم عامه السابع قريبا على المقعد المقابل للمكتب وقال "لن تستطيع إعادتي للمنزل، لقد وعدت والدتي أن تهتم بي اليوم، وإذا أعدتني لها الآن مؤكد ستغضب منك وتدعك تنام على الأريكة في غرفة المعيشة" قفز مأمون واقفا يغلق فم ابنه وهو يقول بذهول "من أين أتيت بهذا الكلام؟ هذا غير صحيح، أمك لا تغضب مني أبدا" غرز الصغير أسنانه بكف أبيه الذي يغطي فمه فسحب مأمون يده متألما، ليقول الصغير "أنا أعلم كل شيء، لقد رأيتك تقف على باب الغرفة تطلب منها السماح ولكنني كنت أشعر بالنعاس فدخلت إلى سريري ولم أشاهد ماذا حدث بعد ذلك" أمسك مأمون الصغير من تلابيبه وقال بتحذير "إياك أن تخبر أحدا بهذا، ثم إذا كنت ترى أنك كبير إلى هذه الدرجة لماذا لا تجلس في المنزل وتهتم بـأختك ووالدتك حتى عودتي بدلا من أن تصر على القدوم معي فلا آخذ منك سوى تعطيل أعمالي؟" رد عليه الصغير بقوة "اترك ملابسي لكي لا تتجعد وتراني تولين بهذا الشكل، يجب أن نتعامل رجلا لرجل لأن هذا الوضع لا يصح" ترك مأمون ملابس ابنه بذهول وقال له بتفكير "وماذا تريد أيها الرجل لت**ت قليلا وتتركني لأنهي عملي قبل قدوم عمك بشر؟ فلدينا اجتماع هام" نظر له جواد بعيون ماكرة تشبه عيون جواد الكبير ثم فتح يده وقال "إذاً أعطني مبلغا محترما لأشتري الكثير من الحلوى لي ولتولين" قال مأمون بتحذير "أنت تعلم أن والدها يمنعها من أكل الحلوى بسبب وضعها الصحي ويكفي أنه وافق أن يأتي بها، لا أريد حماقات أو أفعال صبيانية منك، هل تفهمني؟ ….ها أنا أحدثك رجلا لرجل" ض*ب الصغير بقبضته على المكتب وقال "صديقك المتعنت لا يتركني أراها أبدا، هل لي أن أفهم السبب؟ ثم الحلوى لا تضرها أبدا فلقد أطعمتها الكثير من الحلوى وأكثر من مرة" توسعت عينا مأمون وقال "إياك أن تخبر أحدا بهذا وإلا سيعلقك بشر من أقدامك في سقف هذه الحجرة لأسبوع كامل" قال الصغير بعناد "لا أحد يستطيع لمسي مهما حدث فأنا جواد الصالحي، هل ستعطيني المال؟" أخرج مأمون مبلغا وقدمه له فسحبه جواد وقفز من على المقعد منطلقا خارج مكتب والده الذي هز رأسه كأنه لا يصدق أن هذا الصغير يمكنه أن يجادل لهذا الحد، رفع مأمون كفه وضغط على جانب رأسه بإرهاق ثم أمسك هاتفه يطلب سجى ففي الصباح كانت تبدو مرهقة، استمر رنين الهاتف لحظات قبل أن يصله صوتها الهادئ تقول "حبيبي" قبل قليل لا تمر علينا السنون والأعوام هباءً، إنها تمر وقد أخذت منا الكثير وأهدت لنا الكثير وغيرت بنا الكثير والكثير، لا شيء يبقى على حاله فلا ثوابت في الحياة ……..هذا ما كانت تفكر به سجى وهي تنسحب من غرفة عمها جواد بهدوء بعد أن أعطته الدواء، خرجت متوجهة لغرفتها تبحث عن صغيرتها لتلمحها تجلس بهدوء وتلعب بأل**ب جواد بسعادة مستغلة عدم وجوده، التفتت إلى مكتبها وتن*دت بتعب تنظر لكتبها المتراكمة فوقه وإلى كم المذاكرة الذي ينتظرها وهي تشعر بالاستنزاف ما بين المنزل ومسؤولياته والدراسة، تشعر بالضياع ولا تستطيع الموازنة ورغم ذلك مأمون يدفعها دفعا لإكمال دراستها وهي لا تريد أن تخيب أمله بها، وتخاف أن تشعر بالندم يوما لعدم إكمالها هذا الطريق أيا كانت النتيجة، التفتت تنظر في المرآة فهالها منظرها المزري فهي لا تجد وقتا للاهتمام بنفسها أو بمأمون ورغم ذلك لا يتذمر أو يعترض بل يعود من عمله متعبا ليبدأ إرهاقا من نوع آخر وهو يهتم بالمنزل حتى تأخذ قسطا من الراحة، أو بوالده الذي يحتاج لعناية خاصة ومأمون يصر بأنه لن يخدم والده أحد سواه …….حقا تقدر له كل ما يفعله وأصبح كل هدفها أن تسعده وتَسعَد بعالمها الصغير الذي تحاول أن تؤسس له أرضا صلبة لا تهتز مهما أطاحت بهم العواصف، مررت يدها ب*عرها الذي استطال وتشابكت أطرافه في منظر جعلها تستاء وفجأة أنارت في عقلها فكرة ……..بسرعة يمكنها أخذ نوراي والذهاب إلى مركز التجميل ثم شراء قهوة من نوع مأمون المفضل ومفاجأته في الشركة …..نظرت لساعتها لتجد أن أمامها ثلاث ساعات قبل موعد الدواء الآخر لعمها جواد، أسرعت نحو غرفتها ومأمون تسحب من خزانة الملابس شيئا عمليا ولكنها أرادته ملفتا قليلا فانتهى بها الأمر ترتدي ثوبا قطنيا مناسبا لجسدها الذي ازداد وزنه من أثر الرضاعة ويصل لبعد ركبتيها وارتدت فوقه كنزة صوفية بلون أرجواني مبهج ف**رت حدة لون الثوب الرمادي وأكملت إطلالتها بحذاء عملي وحقيبة بذراع طويل وضعت بها المال ومفاتيح سيارتها الصغيرة، وبسرعة كانت تسابق الوقت لكي لا تتأخر فحملت ابنتها وانطلقت نحو مركز التجميل ….. بعد ساعتين كانت تقف في مدخل الشركة وقد قصت شعرها بقصة حديثة غيرت من شكلها تماما واهتمت ببشرتها ووضعت زينة هادئة، تحمل ابنتها في كرسي مريح لحملها بيد واليد الأخرى بها حقيبة تحتوي على كوب قهوة ساخنة وبعض المعجنات وابتسامتها المنتعشة تملأ روحها بالارتياح فحقا أقل تغيير في شكلنا يغير كثير في مزاجنا، توجهت للمصعد لكن رنين هاتفها أوقفها وجعلها تقترب من المقاعد الموضوعة في المدخل لتضع ما بيدها وترفع الهاتف لأذنها قائلة بدلال "حبيبي" كلمتها كانت كصاعقة قوية ض*بت روحه الخاملة والمرهقة فابتسم وأجابها بهمس صادق "كم أحتاجك في هذه اللحظة" ابتسمت بحب وهي تقول "أغمض عينيك قليلا وستجدني أمامك" انقطع الخط في وجه مأمون الذي حاول أن يعيد الاتصال لكن لا مجيب، ليُفتح باب المكتب فجأة وتطل منه كماء بارد أثلج ص*ره، كان منبهرا بها فهي مع مرور الأيام تزداد جمالا، وقف يستقبلها وهو لا يصدق أنها هنا، أخذ منها الصغيرة وقبلها بحب ثم انحنى يقبل والدتها بشوق يحكي عن الكثير، قالت له سجى بسعادة "أحضرت معي القهوة والمعجنات الساخنة" وضع صغيرته على الأريكة بحرص ثم اقترب من سجى بعيون متلهفة وأخذ منها الحقيبة ولكن إبهامه الذي لمس موضع النبض في رسغها جعلها تقول بتوتر "أين جواد؟" وضع مأمون الحقيبة على المنضدة التي تتوسط المقعدين الموجودين أمام مكتبه ثم سحبها لتجلس على قدميه وقال "ابنك ذهب لشراء الحلوى بعد أن ابتزني" ابتسمت بشقاوة وقالت "من شابه جده، هذا الفتى يحمل ذكاءً غير طبيعي" رفع أصابعه يمررها بين شعرها وقال "إنه مذهل وزادك جمالا بشكل لا يوصف" هزت رأسها بتأكيد وقالت "شعرت بالملل وبالتقصير تجاهك ففكرت بأن أفاجئك، ما رأيك؟" قبل كتفها المكشوف ورفع الكنزة ليغطيه قائلا بغيرة "لا أظن أنك ستتعبين لو غطيتِ كتفك" هزت كتفها بدلال فانزلقت الكنزة مجددا وهي تقول "إنها الموضة، ألد*ك اعتراض؟" زفر أنفاسا ملتهبة ض*بت كتفها المكشوف وقال "كلي معترض، وأنتظر أن ينتهي هذا الفصل الدراسي بفارغ الصبر" مطت شفتيها بعبوس وقالت "مأمون" نظر لها بابتسامة مشرقة وقال "يا روح مأمون" نظرت له قليلا وقالت "لا أظن أنني بحاجة لإنهاء تعليمي بعد الآن، إنه يأخذ أغلب وقتي وأشعر أنكم تستحقون هذا الوقت المهدور" أبعد وجهه للخلف وقال لها باستفسار "وهل شكوتُ لك؟ ثم ألم أعرض عليك أكثر من مرة إحضار خادمة لك وأنت ترفضين؟" هزت رأسها برفض وقالت "ومن هذه التي سآمنها على منزلي وأبنائي؟ لقد تعلمت بأصعب الطرق أنه ليس هناك في الحياة أمان، وأن الض*بة من الممكن أن تأتي حتى من حب عمرك" تجمد وجه مأمون للحظات فعضت طرف شفتيها بندم وعيناها تنظران له بأسف، رفع كنزتها مجددا ليغطي كتفها ثم قال "لهذا أريدك أن تكملي تعليمك، لا أريد لأي ض*بة مهما كانت قوتها أن ت**رك، أريدك ألا تحتاجي لأي أحد حتى …. أنا" همست له بذنب "مأمون، أنا آسفة لم أقصد" ضمها بخفة وقبل وجنتها ثم رفعها عن أقدامه ووقف يقول "أعلم أنك لم تقصدي، على كل حال هذه الحقيقة ولا شيء سواها" تحرك حتى عاد لمكانه خلف المكتب وقال "طلبك مرفوض ومن الغد سأبدأ بالبحث عن خادمة عربية أمينة ومحل ثقة لتحمل أمور المنزل عنك، وأبي مسؤول مني، وجواد في المدرسة ونوراي سنتدبر أمرها لا تقلقي، ركزي فقط بدراستك" وضعت يديها على حافة المكتب وقالت "مأمون، أرجوك لا تتحدث معي بهذه الطريقة فأنت تعلم جيدا أنني لن أتذمر من الاهتمام بعمي جواد مهما حدث، كانت مجرد كلمة حمقاء أخرجها فمي دون أن أشعر" رد عليها بهدوء يسألها "أنت ما زلت لا تثقين بي، أليس كذلك؟" التفّت حول المكتب ووقفت أمامه تقول "لا تحاسبني على حماقتي، أنا فقط مضغوطة" فجأة فُتح باب مكتبه لتندفع منه أسمهان كالزوبعة، وقف مأمون وهو متيقن من سبب حضورها لكنه انتظر أن تفصح عما يغضبها، نظرت أسمهان لسجى وقالت "من الجيد أن أراك هنا، هل أنت موافقة على المهزلة التي بدرت عن زوجك ؟" نظرت سجى لمأمون بعدم فهم ثم قالت لأسمهان "ماذا تقصدين؟" رفعت أسمهان حاجباها وقد استشعرت أن هناك شيئا غير طبيعي وقالت لها "أقصد عودة زوجك بالأمس إلى المنزل فجرا، أليس هذا ما حدث؟" نظرت لها سجى باستنكار وقالت "من؟ …. مأمون؟" قاطعها مأمون وهو يقول "أين المشكلة يا أسمهان؟ فأنا من المنزل للشركة طوال الأسبوع، ما المانع أن أرفه عن نفسي قليلا؟" تقدمت أسمهان من مكتب مأمون وهي تنظر لعينيه وتقول "أصدقني القول يا مأمون وإلا لن أسامحك أبدا، إذا كنت تعتبرني أختك حقا، هل كنت مع منذر أمس تسهران مع بعض معارفكما؟" تنحنح مأمون ونظر بطرف عينه لزوجته ثم عاد بنظره إلى أسمهان وقال "ولماذا سأكذب؟ كانت نهاية الأسبوع وأردنا الهروب من ضغط العمل فسرقنا الوقت" بداخلها شعور غريب بعدم التصديق، ذكاؤها لن ي**نها بعد هذه السنوات وبعدما أصبحت أما، فقالت "ولماذا لم يذهب البقية معكما؟" تكلم بتوتر "كما تعلمين صفي لا يخرج، وبشر يسرع بالعودة إلى القصر من أجل صغيرته، ونزار وعاصي منذ فترة وهما مشغولان بأمر لا يفصحان لأحد عنه حتى أنني ظننته فرع الشركة الجديد فهما سيسافران قريبا إلى مصر" هزت رأسها قائلة "فلم يبقَ أمامك سوى منذر لذا أخذته معك" هز رأسه بتأكيد وقال "فعلا هذا ما حدث" نظرت له بتدقيق ثم نظرت لسجى التي كانت تشاهد ما يحدث بجمود وقالت "لا تنسَ أنني أخبرتك أنني لن أسامحك" ثم انصرفت بشموخ وقوة ع** الشك الذي بات يكبر داخلها من تصرفات زوجها الغريبة فهي تنتظر بصبر أن تجد دليلا ضده وليس لديها سوى إحساس ينهش داخلها ككلب أصابه السعار........... تحركت سجى ب**ت تحمل ابنتها وعقلها يتأرجح ما بين غضب وحزن، أوقفها صوت مأمون يقول "إلى أين؟ لم ننهِ كلامنا بعد" نظرت له بلوم وقالت "حان موعد دواء عمي جواد، لا يمكنني التأخر أكثر من هذا" التفتت لترحل فناداها برجاء "سجى" ردت عليه بدون أن تلتفت وقالت "لنا منزل نتحدث به، ولكن لتعلم أنا لن أسكت" ظلت عيناه تتابعان رحيلها بغضب ثم تحرك نحو مكتبه وجلس على المقعد يحاول تمالك غضبه لكنه لم يستطع فأمسك باللافتة الزجاجية التي تحمل اسمه وض*بها بالحائط بغل وهو يهمس "ا****ة عليك يا منذر، هذا ما كان ينقصني حقا" وضعت لحبك ألف احتمال وخالفت كل شيء، دائما ما أبحث عن طريق يجمعنا فتتعنت وتجعلني أسير وحدي إليك كأنك تتلذذ برؤيتي تائهة ضائعة كطفلة أتخبط في سعيي نحوك ….. يقف أمام المرآة يصفف شعره وأصوات الصراخ خارج الجناح ت** آذانه، أسرع يفتح الباب الخارجي فوجد توءمه يتشاجران على شيء ما، اقترب منهما محاولا فض النزاع، فحمل صغيرته الجميلة وهو يقول "ماذا يحدث هنا؟ لماذا تتشاجران؟" تكلمت قمر تقول "اسأله فهو من لا يتوقف عن مضايقتي" قال أحمد الذي لا يتعدى طوله ركبة والده "إنها لا تسمع الكلام" نظر له صفي بضيق وقال "لا تقسُ على أختك والعبا سويا، أين محسن وتولين؟" مالت قمر إلى أذنه كأنها تقول له سرا وقالت "محسن يشرب الحليب، وتولين تصفف شعرها عند خالتي عزيزة لأنها ذاهبة مع عمي بشر إلى الشركة" ابتسم صفي لها وقال "حسنا أيتها الش*ية، اذهبي مع أخيك إلى غرفة الأل**ب واسمعي كلامه" رفعت رأسها بقوة تناقض صغر سنها وقالت "فليسمع كلامي هو أيضا، نحن توءم وُلدنا معا ولا أحد منا أفضل من الآخر" رفع صفي حاجبه وقال "ما هذا ال*قل؟ من أين أتيت بكل هذا العناد يا بنة بلقيس؟" جاءه صوت بلقيس التي تقترب منه ببطنها المنتفخة من أثر الحمل وهي تقول "لا تستغرب، إنها ابنة أبيها" أنزل صفي الصغيرة وأسرع نحو بلقيس التي تحمل صينية الفطور ليحملها عنها وهو يقول "ألم آمرك ألا تجهدي نفسك؟ أكل هؤلاء الخدم في المنزل لا يكفونك؟" قالت له "كان عليّ المرور بالمطبخ فأنا لم أدخله منذ يومين والعاملات يحتجن لمتابعة وتوجيه" نظر لها بلوم وقال "إنهن يعملن لدينا منذ عام ونصف وأنت ما زلت تقولين متابعة وتوجيه، بلقيس كل شيء في المنزل على ما يرام، ارتاحي قليلا" التفتت وقالت لأحمد "أين آنا؟" رد عليها الصغير بعبوس "أظنها في غرفة الأل**ب" قالت له "حسنا، اذهبا إليها ولا أريد أي مشاكل" تحرك أحمد فأوقفه صوت بلقيس تقول "خذ أختك معك" عاد بخطوات سريعة يسحب كف أخته التي أسرعت خلفه ويدها بيده، دخلت بلقيس الجناح وخلفها صفي الذي أغلق الباب ووضع الصينية بهدوء على المنضدة وهو يقول "إذا كنتِ تشعرين بالإرهاق يمكننا زيارة طبيبتك اليوم" هزت رأسها برفض وقالت "أنا بخير ولكن أشعر بالاختناق، أفكر بالخروج قليلا اليوم" اقترب منها ووقف خلفها يدلك كتفيها ببطء قائلا "لا أظن أنها فكرة جيدة، من سيهتم بالأولاد حتى عودتك؟ تعقلي قليلا فأنت أصبحت أما وليست كل فكرة تطرق على رأسك تستطيعين تنفيذها" تشنج جسدها تحت يديه وقالت "هل مشكلتك هي الأولاد؟ لا تقلق أمي وأمك وآنا سيهتمون بهم حتى عودتي، هل يمكنني الخروج؟" رد عليها قائلا "طبعا لا، أنت حامل وضعيفة ولن أأمن عليكِ أن تخرجي بمفردك، لماذا لا تخرجين هذه الفكرة من رأسك وتأخذين حماما دافئا وتسترخي في السرير طوال اليوم؟ وعند عودتي سأقضي باقي اليوم بجوارك" زفرت وهي تشعر بالإنهاك وقالت "صفي، لقد اختنقت، لم أعد أحتمل، أشعر أنني كآلة صدئة لا تقوى على العمل" وقفت ونظرت له برجاء وقالت "صفي، في الخارج عالم آخر أحتاج الاختلاط به، لماذا تصر على بقائي حبيسة جدران القصر؟" ابتسم وقال "ألا ترين أنك تعطين الموضوع أكبر من حجمه؟ ليس هناك داعي لكل هذا الكلام، إذا كنت تريدين الخروج وعد مني عندما تلدين بالسلامة سآخذك ونسافر إلى المكان الذي تريدين ….ما رأيك؟" قالت بخضوع "حسنا، لا بأس يمكنني الانتظار، لكن حتى ذلك الوقت ألا يمكنني أن أخرج لمرة واحدة فقط؟" أخذ نفسا وقال "وبماذا ستفرق هذه المرة عن غيرها؟ ألم توافقي على سفرنا بعد ولادتك؟" أمالت رأسها للأسفل فأخفى شعرها ملامحها، مد صفي يده ورفع شعرها الناعم للأعلى وقال بهمس "ماذا يدور برأسك؟ أخبريني" قالت له برجاء "كان لي صديقة عربية في الجامعة اسمها أروى، هل تذكرها؟ لقد قابلتها معي عدة مرات" تصلب جسد صفي وسرت به رعشة كأنها صاعقة كهربائية وسألها بتوتر "ما بها؟" رفعت بلقيس عينيها نحوه بأمل وقالت "لقد كانت قريبة مني جدا وفجأة اختفت ولم تصلني أخبارها، حاولت البحث عنها ولكن في هذه الأثناء أصيبت قدمك ولم أفكر بشيء سواك، وعند عودتي إلى الجامعة كنت قد فقدت أثرها ولم أستطع الوصول إليها مجددا" كانت أنفاسه كشفرات حادة كلما دخلت وخرجت تدمي ص*ره، لكنه تحامل على ألمه وسألها مجددا "ما الذي ذكّرك بها بعد كل هذا؟" ردت عليه بسعادة "لقد تواصلت معي منذ فترة، وتلح عليّ تريدنا أن نلتقي ونجلس سويا بمكان ما، اعتذرت منها كثيرا ولكن في النهاية لا أجد مانعا من مقابلتها فهي فتاة طيبة، كنت حزينة لأن علاقتي انقطعت بها وفي آخر محادثة قالت لي أنها لن تقبل بأعذاري مجددا، فهي لديها ما تريد قوله لي" ظلت بلقيس تنظر له بأمل تنتظر رده، أما هو فوقف أمامها يقاوم جنونا شديدا بدأ يصيب عقله …...عقله الذي يخبره أن ما خشيه لسنوات طويلة قد حدث، ها هو فقدها أصبح على بعد شعره منه، قال لها بجمود "أين هاتفك؟" نظرت له بلقيس بحيرة وقالت "هاتفي معي، لماذا تسأل؟" مد لها يده وقال "أريده" مدت يدها لجيب منامتها وأخرجته فجذبه من يدها وبكل قوته ألقاه على الأرض ثم دهسه بقدمه فصرخت تقول بذهول "صفي، هل جننت؟ ماذا تفعل؟" صرخ بها بصوت أرعبها "أ**ر هاتفك وسأ**ر رأسك إذا علمت أنك تواصلت معها مجددا، وليس هناك خروج من هنا لأي سبب يا بلقيس، وإذا علمت أنك حاولت فقط أن تراسليها سترين مني ما لن تصدقي أنني أستطيع فعله، هل سمعت؟" عادت للخلف بصدمة تجلس على المقعد فأقدامها لم تستطع حملها أكثر وصوت بكائها يتردد بالغرفة فيقتل الواقف أمامها ب**ود وهو في الحقيقة يرتجف من شدة الخوف، كانت دموعها كحمم تكوي شرايينه، اقترب من ظهر مقعدها ومد يده ليلمس شعرها يريد أن يرجوها أن تتوقف عن البكاء فقلبه المفطور يستطيع تحمل كل آلام العالم إلا حزنها لكنه سحب يده وشبح الماضي يعود ليهدده ويقف حائلا بينهما مجددا، ض*ب بكل قوته وقهره ظهر المقعد فانكمشت تبكي بصوت أعلى جعله يفر هاربا من عذاب دموعها ……. خرج من الغرفة وأغلق الباب ثم أسند ظهره إليه وانحنى واضعا يديه على ركبتيه وهو يقول "ليس مجددا، لماذا عادت؟ ماذا تريد؟" انفلتت دموعه وقد انهارت حصونه وهو يفكر ...كيف سيتصرف الآن؟ ماذا سيفعل إذا علمت بلقيس؟ يقسم أنه سيموت لو فكرت أن تتركه أو تبتعد عنه، لماذا عادت تلك الآن بعدما شعر أنه أصبح إنسانا طبيعيا يعيش حياته كما يريد؟ ……زمجر قائلا "ا****ة يا بلقيس مهما حاولت أن أغلق ضلوعي عليك تجدين معبرا لتهربي من بينها، ماذا أفعل الآن؟" ظل يض*ب قبضتيه على أقدامه بلوعة كمن يعلم أن القادم سيهدم المعبد على رأسه ………. عندما كانت سمائي ملبدة بالغيوم كنت أنت معي، وعندما أصبحت صافية كصفاء قلبك كنت معي، عندما حل ليلي العصيب كنت بجواري تشاركني السهر وعندما أشرقت الشمس مبددة الظلمات كنت بأحضاني تتأمل المنظر فمتى فارقتني وأنت مقرون بأنفاسي …….. خرج من غرفته ينظر للساعة التي بيده بغضب مدركا أنه تأخر جدا على عمله اليوم فلأول مرة منذ فترة طويلة تهاجمه الكوابيس بهذا العنف، طوال الليل يدور في دوامة لا نهاية لها، بدايتها ….ونهايتها ..تولين …..الغائبة الحاضرة، كم هو مهلك شعوره أنها مازالت حتى الآن تؤثر على حياته وانفعالاته، تسجنه بقبضتها في سديم عشق ليس له نهاية، تأتي كالإعصار بأحلامه لتقلب كيانه وتوقف نبضه وتريه من العذاب ألوان حتى شاب شعره وهو مازال ابن الخامسة والثلاثين، تجعله يستيقظ كبركان هائج تتدفق منه حمم الذكريات ويظل شاردا لساعات صامتا غارقا في ربوع وجع الماضي وعندما يصحو يشعر أنها كظله تقف وراء ظهره معلقة بأكتافه فيتوتر كلما اقتربت منه أنثى ففي حضرتها ليس هناك إناث ولا حواس تشعر بشيء غيرها ... إنه حقا متعب، توقفت أقدامه جبريا أمام باب غرفتها و أغمض عينيه يستجلب قوته ليتحرك مبتعدا ولكنه لم يستطع إلا أن يخرج مفاتيحه ويقف بكل حنين ليفتح باب الماضي، دخل غرفتها بأرجل ترتعش وعيون مازالت لا تصدق أن الغرفة ساكنة….أن سيدة الزوابع رحلت مخلفةً خلفها أسوء سكون …… أن قلبه على مراجل الفراق يحترق منذ سنوات، لا يصدق، دارت عيناه بالغرفة التي ينظفها من وقت لآخر حتى أنه وضع مرآة أخرى غير التي **رها كأنه يهيئ الغرفة لعودة صاحبتها وكأن الكون لأجل عشقه الذي سُفكت دماؤه سيهديه معجزة ويعيدها له، تن*د وقدماه تتحركان ببطء ويداه تلمسان أوشحتها و أشياءها بشغف وشوق ي**ر أحلامه على أرض غرفتها واحدا تلو الآخر، فلا أحلام بعدها ولا قبلها فقط أحاسيس مبعثرة تستنزف طاقته
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD