في سكون الليل المظلم سوى من ضوء القمر الساطع بليلة تمامه ،
خرجت من غرفتها بقلب ملتاع يخفق بإرتجاف يهتز له كيانها ، مع نفحات الماضي التي تسيطر عليها إلى الآن
جلست على الأريكة الموجودة بجانب السور و سندت رأسها على يدها الموضوعة على حافة الجدار واضعة وشاح خفيف تغطي به شعرها الغجري الأ**د شاردة بذكرياتها و طفولتها التي وُئدت مبكراً و تحديداً عندما ماتت أمها ، قُتلت حينها براءتها و صارت طفلة تحمل على عاتقها مسئولية البيت كاملة ، بل صارت إمرأة في هيئة طفلة !
أفزع وحدتها صوت نجية التي خرجت من غرفتها للتو و عندما وجدتها تجلس هكذا جلست بجوارها تسأل بقلق
:- إيه اللي مصحيكي نص الليل يا فريدة ؟
نظرت لها فريدة ب**ت ثم عادت تنظر أمامها بشرود مرة أخرى فأكملت نجية
:- حالك مش عاجبني اليومين دول ما رضتيش تحضري حنة البت رضوى و لا بتاكلي أديلك إسبوع أهو ، مالك يا بت منصور رسيني ؟
إلتفتت لها فريدة تسألها بشئ من الفضول
:- إنتِ نزلتي الحنة مش كدة ؟ كانت عاملة إزاي
ربعت نجية رجليها و قالت
:- كانت ليلة و لا ألف ليلة و ليلة ، المعلم سالم دابح يجي ثلاثة عجول و...
قطعت فريدة حديثها تقول
:- أنا مش قصدي كل دة ، أنا قصدي رضوى
ضيقت نجية عينيها بإستغراب و سألتها
:- مالها رضوى ؟
تلعثمت فريدة و أكملت
:- كانت مبسوطة و لا عادي ، يعني فرحانة كدة .. كانت عاملة إزاي ؟
شعرت نجية بالقلق من طريقة فريدة فسألتها
:- مالك يا فريدة قوليلي إنتِ زعلانة علشان هي هتتجوز قبل منك ؟
إبتسمت فريدة بسخرية و ردت
:- لا دي أخر حاجة ممكن تزعلني ، كل الحكاية إني مستغربة إنها وافقت بالسرعة دي ، هتروح تعيش مع واحد ما تعرفهوش بس لمجرد إنه مبسوط و معاه فلوس !
( أكملت و قد بدت ملامح التوتر تسيطر عليها ) يعني حترمي نفسها في حضن راجل غريب عنها كدة من غير سابق معرفة ، الفكرة لوحدها بتخنقني إزاي أسلم نفسي لحد معرفهوش
ثم إلتفتت إلى نجية و سألتها بتحفز
:- قوليلي يا نجية إنتِ كنتِ تعرفي جوزك الأولاني قبل جوازكوا ؟
علت ضحكتها الرقيعة و هي تقول
:- أهو جوزي دة الوحيد اللي ما كنتش أعرفه
شقت الإبتسامة وجه فريدة المليح لتكمل الأخرى
:- بكلمك بجد ، كنت بت 14سنة و حلوة نغشة كنت أقف مع دة و أهزر مع دة و ما كنش يهمني حد و اللي يكلمني أقوله دول زي إخواتي و متربيين مع بعض في حارة واحدة
سحبت نفساً عميقاً و هي تتذكر طفولتها التي كانت تعيشها بملئ طاقتها تلهو و تمرح دون أدنى إعتبارات ثم أكملت
:- لحد ما جه أبويا في يوم و قاللي إن جايلي عريس ، عريس إيه يا ابا دة أنا لسة صغيرة قاللي صغيرة إيه يا هبلة دة اللي أدك معاه عيال ، و جه العريس و إتجوزنا بسرعة قبل ما يروح الجيش
( إبتسمت بخفوت ثم أردفت ) حق ربنا كان راجل جدع و يستمنالي الرضا أرضى
( تحولت ملامحها للضجر و هي تقول ) بس أمه بقى أعوذ بالله منها كانت بتغير عليه مني إكمنه الكبير و كانت مستقصداني و وقفاللي على الوحدة كرهتني في حياتي و عيشتي لحد ما سيبتلهم البيت و طفشت
سألتها فريدة التي تتابع ما تسرده نجية أول مرة بإهتمام
:- و هو سابك تمشي ؟
أكملت نجية بروحها المرحة
:- كان في الجيش ساعتها و بيني و بينك كدة عملت فيها مجنونة و لابسني عفريت ، أمه حلفت عليه ما هو مرجعني و هو ما كنش يقدر يتنيلها كلمة و إتطلقت ، و بعديها جاللي أبوكي و إتقدمللي و بردو ما قدرتش أقول لأبويا لأ كل اللي ربنا قدرني عليه إني قولتله يا أبا دة كبير عليا و عنده بنت عروسة من سني قاللي ما أنتِ أخدتي الصغير و ما عمرتيش معاه جربي بقى الكبير ، أهو هو اللي ما عمرش معايا و مات
أنهت كلماتها بمداعبة فإنفجرت الإثنتان من الضحك ، و بعد لحظات هدأت نوبة ضحكهمها فقالت فريدة بصدق
:- بس تعرفي يا نجية إن أحسن حاجة أبويا عملها بعد أمي ما ماتت هي إنتِ ، لما قاللي إنه هيتجوز الدنيا كلها إتكركبت فوق دماغي و خوفت تكوني ست من اللي بنسمع عنهم ، بس طلعتي جدعة و ربنا عوضني بوجودك عن ناس كتير غابوا من حياتي ..
لكزتها نجية من ركبتها و ردت
:- ما انا يا بت بردك وحدانية زيك و لا كان ليا لا أخ و لا أخت مصاحبة الكل اه بس مفيش واحدة قريبة مني أشكيلها همي غيرك .
تزحزحت نجية و إقتربت من فريدة و قالت ببعض الجدية
:- المهم أنا عايزاكي تبصي لمستقبلك يا فريدة الوش الخشب اللي مص*راه للناس طول الوقت دة مش هينفع و هيطفش الرجالة من حواليكي
تحفزت في جلستها و ردت
:- و مينفعش غير كدة يا نجية ، مش هينفع أضحك في وش اللي رايح و اللي جاي علشان ينوبني عريس ، إنت مش في الحارة اللي إتربيتي فيها إنتِ هنا في حي خلدون يعني الغلطة بفورة و اللي بيقع ما حدش بيسمي عليه ، و إحنا ولايا و راجلنا مات و الناس ما هتصدق ينهشوا في لحمنا
( ثم رفعت حاجبها و هي تقول ببعض المرح )
و بعدين ياختي ما كفاية إنتِ ما شاء الله ماشية توزعي إبتسامات على اللي رايح و اللي جاي و لمة العرسان حواليكي هيبقى أنا و إنتِ
رفعت نجية يدها لأعلى و قالت
:- توبة يا اختي ، أنا جربت الرجالة مرتين و ما بينفعوش في حاجة ، بس عايزاكِ إنت تجربي يا فريدة يمكن حظك يطلع أحسن من حظي
ردت فريدة بلا مبالاه
:- عايزاني أعمل إيه يعني
اكملت نجية بجدية
:- عايزاكِ تفتحي الباب شوية ، يا بت دة أنا شوفت عرسان زي الورد عينيهم بتبقى هتطلع عليكي و إنتِ ماشية والله إنتِ بس أشري و هتلاقيهم طابور قدامك
ردت فريدة بتنهيدة متألمة
:- و هعمل إيه بالطابور و القلب مقفول بقفل نحاس لا بيصدي و لا بيتفتح لغيره ..
رفعت نجية حاجبها بإستنكار و قالت
:- لهو إنت لسة بتفكري في الواد بتاع زمان دة اللي إسمه مراد !
تذكرت حينما رأته منذ إسبوع بهيئته الجذابة التي جعلت قلبها يتراقص فرحا
:- ما بقاش واد يا نجية و ما بقاش زي بتاع زمان ، مراد دلوقتي بقى حاجة تانية حاجة تانية خالص
إكتفت بهذا الحد لا تحتاج للمزيد من الحديث عنه ، الخوض بتفاصيل تخصه كأنه مثلا صار رجولياً أكثر ، ملامحه الحادة أصبحت أكثر جاذبية عن السابق ، خصلاته الذي يصففها للخلف زادت من وسامته ، لكن هناك شئ بداخله لم يتغير ، شئ لم تتعرف على هويته لكنها بالفعل إستشعرته !
نهضت من مكانها و هي تقول
:- أنا هقوم أنام عندي شغل الصبح و مش هناخد حاجة من القعدة دي غير وجع القلب و التفكير في اللي فات ، تصبحي على خير
نهضت نجية هي الأخرى و قالت
:- على قولك انا كمان هقوم أريح شوية الفرح بكرة و لازم كلنا نقف مع أم رضوى يعني اليوم هيبقى طويل
هزت لها فريدة رأسها بألم إبتلعته بص*رها و إتجهت إلى غرفتها
**************
في القصر
وصل آسر إلى بيت رفيقه ليكون معه في مناسبة كهذه التي بالنسبة إليه يتخللها الغموض كعادة مراد بأغلب تصرفاته .
رحبت به جميلة و ملامح الحزن مرسومة على وجهها و أدخلته إلى الصالون فشعر آسر بالألم لأجلها لكنه آثر ال**ت
خطوات ضئيلة لكنها تض*ب الأرض بقوة و غضب جعلته يرفع عينيه ليرى نور تقترب منه و هي تحبس الدموع بعينيها ثم ألقت بجسدها على الأريكة بجواره و عقدت ذراعيها أمام ص*رها و أخذت تهز رجليها بعنف ، تابعها آسر بإستغراب ثم مال عليها قليلا و سألها
:- في إيه مطلعة زعابيبك ليه ؟
رفعت عينيها إليه و قالت محاولة التحكم بالدموع التي باتت كالوخز بعينيها
:- عاجبك اللي صاحبك بيعمله يا أبيه ؟
هز رأسه و رد
:- عمره ما عمل حاجة عجبتني الحقيقة
لمحت المرح بعينيه فزاد حنقها و حادت بنظرها عنه ، سحب آسر نفساً عميقاً و سألها بهدوء
:- عملك إيه ضايقك أوي كدة ؟
زمت شفتيها كالأطفال تحاول جاهدةً ألا تنفجر باكية أمامهم و قالت
:- مش عايز ياخدني معاه الفرح
رد آسر
:- هو مش عامل فرح أصلا يا نور ، كل اللي فهمته منه إنه هيروح يكتب الكتاب و يجيبها و يجي على هنا لا أكتر و لا أقل
فكت عقدة يديها و هتفت بحنق
:- إشمعنى إنت و عمر رايحين معاه ؟
قال محاولاً تهدئتها
:- علشان إحنا اللي حنشهد على عقد الجواز يا نور و ما ينفعش نسيبه لوحده في يوم زي دة
على صوتها غاضبة
:- و ليه أنا و ماما ما نروحش معاه إحنا كمان
لم يستطع آسر أن يرد على سؤالها بل أن ليس هناك مبرر واضح لرفضه حضورهم زفافه حتى عندما جاء إليه مراد ليخبره بأمر خطبته كان كلامه مشوشاً غير واضح المعالم و لم يحصل منه على إجابة واضحة لتلك الخطوة الغير محسوبة
حانت منه نظرة حائرة إلى جميلة فوجد الألم يخترق عينيها ، فرك جبينه بتوتر لينقذه صوت الجرس الذي أعلن عن قدوم أحد الضيوف
همت جميلة لتفتح الباب و لكن أشار لها آسر أن تجلس و ذهب هو ليرى من بالخارج
دخل عمر ليكتمل ضلع رفقتهم و تستند إليه عمته السيدة خديجة التي أصرت أن تأتي لتقف بجانب السيدة جميلة بموقف كهذا و خاصة بعد أن علمت من عمر تفاصيل الزفاف الصامت !
إستقبلتها جميلة بترحاب شديد رغم الحزن المسيطر عليها و أجلستها بغرفة الضيوف .
قالت خديجة و هي تربت على قدم جميلة
:- إيه يا جميلة فى بردو واحدة فرح إبنها إنهاردة و تبقى زعلانة كدة
تن*دت جميلة بأسى و ردت عليها بهدوء
:- و هو فين الفرح دة يا ست خديجة ، دة اليوم اللي بتستناه أي أم إنها تفرح بإبنها و إبني حرم علينا الفرحة تدخل بيتنا
قالت خديجة مواسية إياها
:- ما تقوليش كدة يا جميلة شكله بيحبها بجد و فعلا مش قادر ينساها ليه تقفي قدام سعادته
إبتسمت جميلة بسخرية و أومأت لها بخفوت دون أن تتفوه بكلمة
بينما أخذ عمر يتابع ما يحدث ب**ت و عينيه تتابع نور التي تهز رجليها بعصبية مفرطة و نغزه قلبه لأجلها لكنه أحاد ببصره عنها و إستقام قائلا
:- أنا هطلع أشوف مراد خلص و لا لأ
ليأتيهم صوته و هو ينزل بخفة من على الدرج
:- مراد خلص و جاهز
ترقرقت الدموع بأعين جميلة و هي ترى إبنها فلذة كبدها يستعد لزفافه ، هي لا تقف بطريق سعادته كما قالت خديجة و لكن قلبها الأمومي الصادق يخبرها أن هناك أمر ما بنفسه و لا يريد البوح به
حتى أنه لم يتأنق بالشكل الكافي بل إكتفى بحلة سوداء عادية دوما ما يرتديها و تحتها قميص من اللون الأ**د القاتم و حزام أ**د أيضا ، كمظهره الإعتيادي في أي يوم يخص العمل !
لم ترى الفرحة تطل من عينيه و لا السعادة كامنة على ملامح وجهه الجامدة بل أنه لم يتغير به شئ ..
سلم على السيدة خديجة الذي يكن لها مشاعر إحترام خاصة ثم لاحت منه نظرة إلى صغيرته فوجدها تكتم دموعها بطريقة جعلت قلبه يعتصر ألما
أشار إليها أن تقف و إنزوى بها قليلا بعيداً عن الحضور و قال بدفء
:- قعدتي طول عمرك تحوشي الدموع علشان تطلعيها إنهاردة !
لم تستجب لدعابته فأكمل
:- صدقيني يا نور اللي بيحصل دة صعب عليا أنا كمان بس دة لو ما حصلش مش هقدر أكمل حياتي بالشكل اللي أنا عايزه ، هبقى دايما حاسس إن في حاجة نقصاني ، إفهميني يا نور علشان خاطري و قدري موقفي
لم تستطع ال**ود أكثر فإنفجرت من البكاء لتمزق أنياط قلب كل الموجودين ، شدد مراد على قبضتيه بقلة حيلة و تركها تهدأ قليلاً وحينما إستجمعت رباطة جأشها قالت
:- كان نفسي أبقى معاك يوم فرحك و أرتب معاك تفاصيل اليوم دة و أيام كتير كانت المفروض تبقى قبله ، بس إنت إختصرت كل دة في كام ساعة كلهم ألم و وجع و فعلا عمري ما هنسى اليوم دة اللي ما إتمنتش أبدا إني أعيشه بتفاصيله المؤذية دي يا أبيه
أنهت كلماتها و هرولت من أمامه صاعدة إلى غرفتها لينفرط قلب أحدهم تحت قدميه و قال و هو يخرج من البيت
:- أنا هستناك في العربية
تابع مراد عمر و هو يخرج من المنزل ب**ت ثم عاد نظره إلى أمه و إقترب منها و وقف أمامها فلم يطاوعه قلبه على الذهاب دون أن ترضى عنه فقال
:- لو قولتيلي ما تروحش مش هروح بس إعرفي إن مراد هيفضل طول عمره ناقصه حاجة و إنك وقفتي قصاد الحاجة الوحيدة اللي هتخليني أرجع تاني مراد بتاع زمان اللي الضحكة ما كانتش بتفارق وشه
لاحت على شفتيها إبتسامة مستنكرة و ردت
:- اللي سرقت الضحكة منك زمان ما تقدرش دلوقتي على ثمنها يا ابني ، و أنا مش واقفة في طريق سعادتك زي ما أنت فاكر لا يا مراد ، أنا لو لمحت بس ذرة فرحة في عينك و الله لكنت روحت معاك حتى لو غصب عنك و كنت فرحتلك من قلبي بجد ، بس اللي أنا شايفاه في عينك دة سواد و ريحته فايحة و قلبي مش راضي يقبله
مع كل كلمة تقولها و الغضب الغامض بعينيه يزيدها سواداً الوحيدة القادرة على قراءته بالشكل الذي يجعله كالكتاب المفتوح أمامها بل هي الوحيدة المسموح لها بقراءة أفكاره بالطريقة التي ترضيها
عندما لم تجد منه جواب فأكملت قائلة
:- روح يا مراد ما يصحش تتأخر على ميعادك ، ربنا يصلحلك حالك يا ابني
تدخل آسر مقرراً إنهاء هذا الموقف الذي شعر فيه بإرتباك صديقه بشكل مذرى فقال و هو يدفعه برفق
:- يلا علشان إتأخرنا و المأذون زمانه وصل
جر مراد قدميه و عينيه ترفض أن تترك جميلة فرأفت هي بحاله و أدارت وجهها عنها تمحو دمعة خائنة هربت من عينيها
فإنطلق هو مع صديقه لوجهتهم ..