0

1207 Words
البداية. ------------------ 2019- التاسع والعشرين من شهر سبتمبر- نيويورك – مانهاتن. كان المطر يتساقط بلا توقف طوال الليل وكانت –المدينة التي لا تنام أبدًا- تمضي بإيقاعٍ بطئ و**ول كما لو أنها تتثاءب، في فقاعة شكلها الكوفي-شوب الدافئ جلس إيفرت منعزلًا عن العالم، ضائعًا بداخل أفكاره الخاصة، ثبت عينيه على كوب قهوة مركزة لم يلمسه، حمل الكوب شعار محل بينيّ المميز وتصاعد منه البخار كخطوطٍ واهنة. بعد مغادرته الأستوديو بالأمس عَرج على هذا المقهى وقضى سبع ساعاتٍ هنا، انبلج الفجر وصعدت الشمس عرشها بخطواتٍ وئيدة لكنه ظلّ على ذات الوضعية، ولولا تحرك ص*ره للأعلى والأسفل لظنّت أليسون –نادلة المقهى الواقفة وراء درج المحاسب- أنه مغمىً عليه بعينين مفتوحتين. نظرت أليسون إلى ساعة مع**ها بذات التوقيت الذي نظر إيفرت فيه إلى ساعته، ساعة رولي** بجلدٍ بنيّ مدبوغ بدت باهظة، ناسقت مظهره العام، شعره الأسوَّد المحلوق والمسرح للخلف، لحيته الخفيفة المشذبة، بذلة راقية تجعدت قليلًا من عدد الساعات التي قضاها جالسًا، أدخل يده إلى جيبه وأخرج من محفظته خمسين دولارًا وضعها على الطاولة ونهض. كان الأمر يشبه السحر بالنسبة إلى أليسون، همت باعطاءه مظلة قبل أن يغادر لكن في اللحظة التي وضع إيفرت قدمًا خارج المقهى توقف رذاذ المطر، مشدوهةً، أعادت أليسون المظلة مكانها ثم من على المنضدة تناولت النقود ورفعت كوب القهوة في صينية مدورة. حدقت بالقهوة الساخنة، كالعادة لم يمسّها. ألا يحب القهوة؟ إن كان كذلك لم يطلب نفس نوع القهوة كل مرة؟ صحيح أن المقهى صغير لكنه يقدم العديد من الخيارات المتنوعة. علَت وجهها تعابير مستغربة وهي تعيد الكوب إلى المطبخ. كان هذا الزبون الذي يبدو مألوفًا لسببٍ غريب يأتي مرةً على الأقل كل شهر. وفي كل مرة يجلس لساعاتٍ دون أن يخرج هاتفه أو حتى يقرأ جريدة، فقط يجلس بسكونٍ تام وخلال هذا الوقت يطلب كوب قهوة تلو الأخر لكنه لا يلمسه إطلاقًا. في الزقاق المقاصد للمقهى الدافئ، كان أربعة مراهقون يتسكعون، واحدٌ منهم يدخن أسفل سلم الطوارئ وقد ارتدى معطف مطرٍ أصفر ثقيل، بجواره انهمك فتى بأقراطٍ سوداء ومظهرٍ قوطي بالرسم على الجدار بعلب طلاء حملها في حقيبة كتف، أسفل قدميه اتكأ الثالث بظهره على الحائط، بدا نائمًا ولم تكن ملامحه ظاهرة بسبب قبعة الهودي التي رفعها فوق رأسه، وقف الأخير وكان ذا بنية نحيلة في ناصية الزقاق وثبت نظره على باب المقهى، كان زقاقًا عطِنًا به حاويات تراكمت فيها القمامة حتى فاضت، زجاجات مهشمة وجدار شبكيّ صدئ يُطل على ساحة خردوات تجمعت بها هياكل السيارات القديمة، نمت فيها الطحالب والأعشاب، حينما رأى المراهق إيفرت يغادر ويتجه نحو سيارته التفت إلى رفاقه وهتف: "إنه يغادر المحل!" لم يهتم به أيًا منهم فكرر بنبرة ملحة: "إن لم نتحرك الآن فسنفقد أثره!" قوبل بال**ت مجددًا مع صوت الطلاء الصادر من العلب. "غلين!" التفت المدعو غلين ناحيته –الشاب صاحب المظهر القوطي- وقال: "تمهل يا مايلز كدت أن انتهي." لعق شفته السفلى باندماج، كان يرغب بإضفاء لمسة أخيرة للوحته الفنية لكنه اكتشف نفاد الطلاء من العلبة، بحنق خاطب النائم بالقرب منه: "تبًا لك! لقد استهلكت الطلاء الأزرق كله!" دعسَّ الشاب الذي كان يدخن على سيجارته وقال: "سنضيعه بالفعل إن لم نتحرك الآن." كان مايلز يحدق إلى رفاقه بغيظٍ جليّ وضيق على برودهم تجاه الموقف. "أنتم مزعجون." تمتم النائم بصوتٍ به بحة، "أنا أعرف إلى أين سيتجه تاليًا سمعته يتحدث بالهاتف." لوح بيده، "كان بإمكانكم السماح لي بالغفو لمدة 5 دقائق أخرى." نكزه غلين بحذائه ذو الرقبة العاليَّة: "ماد كيف ستتحمل مسؤولية عملي الفني؟ بسببك أفسدت لوحتيّ!" نهض الفتى صاحب الهودي من الأرض، حشر يديه بجيوب بنطال الجينز وفتح فمه كالتمساح، تثاءب، لمعت عيناه بسبب الدموع وب**ل حدق إلى لوحة غلين: منارة حمراء، بحر أزرق رقراق به مركب شراعي يختلج في الأفق، سماء تطفو عليها غيمات كقطع المارشملو، كانت اللوحة جميلة بالفعل إلا أن لون البحر الأزرق غير مكتمل بسبب نفاد الطلاء. أخرج هارفي سيجارة جديدة وسأل: "هل تحمل معنىّ عميق أم أنك ترغب بزيارة البحر فقط؟" تمتم مايلز: "أنا لم أزر البحر في حياتي قط." "هذا ليس بحرًا، إنه محيط." علق غلين وانتظر بفارغ الصبر تقييم الواقف بجواره. أتاه الجواب على شكل تثاؤب كبير أخرق، حكّ شعره ب**ل ثم قال: "لوحاتك لا تع** مظهرك إطلاقًا." دور غلين عينيه بضجر. حمل الصبيّ صاحب الهودي لوح تزلج من على الأرض وخرج من الزقاق، تبعه بقية الفتيان إلا مايلز، حول بصره من لوحة غلين إلى العبارة التي كتبها الآخر قبل أن ينام. كانت جملة واحدة باللون الأزرق. أثنى رأسه للجانب وفكر بمعناها. "هل كانت فكرة عابرة خطرت بباله؟" سأل نفسه، وتلقائيًا انتقل بصره إلى جسر فرناند المعلق، كان جزءٌ اسمنتي من الجسر قد انهار وأعمدة الخرسانة بارزة منه، توقفت حركة المرور فيه منذ بضعة أسابيع، وقبل أن تصيبه الكارثة كان الجسر معروفٌ بأنه وجهة محببة لهؤلاء الذين يريدون نهاية سريعة خالية من الدراما لمعاناتهم، وبينما وقف مايلز هناك شعرَّ أن الفاصل بينه وبين هؤلاء كبيرٌ للغاية. بينما هم يتشبثون بالموت...كان هو –يائسًا- يتشبث بخيط الحياة الرفيع. "مايلز...إن لم تأتِ سنتركك وراءنا." "قادم." نده والتفت بجسده جزئيًا ناحيتهم، رمقّ العبارة الزرقاء بنظرة أخيرة ثم لحق برفاقه. *** في تقاطع شارع ماديسون مع شارع ستة وثلاثين، حيث تمر سيارات الليموزين المتجهة إلى المسارح ودور الأوبرا، المنطقة الصاخبة والتي يتجلى البزخ والترف فيها بقطاع مانهاتن، أسفل الأرض بطابقين، بداخل بار عصري ذو ألواح خشبية براقة، غلبت عليه الألوان الغامقة والأرائك المخملية، جلس حفنة من الشباب، بعضهم كانوا مشغولون بلعب البوكر في طاولة طرفية بينما ثلاثة آخرون ببذلات مكفكفة الأكمام كانوا يتنافسون على الشرب، تحلق حولهم رفاقهم وهم يهتفون بحماس: دانيل...دانيل...دانيل...آبراهام...آبراهام...آبراهام. "سيمون، هل استسلمت بهذه السرعة؟" ألحق الرجل تعليقه بضحكة شامتة لكن الشاب المترنح لوح له بيده واتجه نحو طاولة البار، جلس على أحد المقاعد العالية ووضع خده في راحة يده. نكز بإصبعه جسدٌ نائم على سطح المنضدة البارد، بالقرب منه كوب ماء وحفنة من كؤوس الحليب الفارغة. ق*فص سيمون وجهه وهو ينظر إليها، فقط صديقه المخبول سيأتي إلى حانة ليشرب حليبًا وبغض النظر عن كونه يخلو من الكحول إن الحليب لا يعتبر مشروبًا محترمًا أصلًا. "ڤينسنت انهض، هل أتيت إلى هنا لتعوض نقص نومك؟ اذهب إلى منزلك ونم في سريرك يا رجل." نظر إليه عن قرب ولاحظَّ العرق المتجمع على جبينه، شعر سيمون فجأة بالخطر فهزه بقوة أكبر ونده: "ڤينسنت؟ أنت بخير؟ ڤينسنت؟" تململ ڤينسنت لكنه لم يجب عليه، حركه سيمون وباتت نبرته أكثر الحاحًا، كان باستطاعته سماع صوتٍ قادمٍ من مكان بعيدٍ لكنه أضعف من أن يفتح عينيه، رنَّ بأذنه طنين رهيب وشعر بنفسه فاقدٌ للتوازن، الأرض أسفله تميد وتترنح، معدته تتشقلب عل بعضها وقد انبثقت من جوفه حرارة لاهبة، تفجر بأذنيه صوت عويل وتهشَّم ألواح خشبية، آنين أتٍ من جوف كائنٍ بحري ما، سمع تفصد عوارض تلاه سواد عميق، حفرة لا نهائية سقط بجوفها وهوى، اقترب الصوت القلق من وعيه أكثر فأكثر، متتبعًا إيقاعه فتح فينسنت عينيه وجلس منتفضًا بحركة واحدة. "إلهيّ!" قال سيمون وعندما تأكد أن الثاني بخير التفت وصب لنفسه كأسًا، "حسبتك ميتًا يا رجل." فرك ڤينسنت عينيه، كان يحاول استعادة كينونته وتذكر أين هو. أخذ سيمون رشفة من الكأس: "دعنا نأخذك للمشفى، تبدو شاحبًا جدًا." أخرج ڤينسنت سماعة من جيبه ووضعها على أذنه اليسرى، طوى ساعديه أمام ص*ره وأغلق عينيه كما لو أنه يقول له بطريقة غير مباشرة اخرس رجاءً. تلاطم الثلج بكأس سيمون، حركه يمينًا ويسارًا فلمع المشروب الأصفر مع الضوء. "كما تشاء، لكني سأطلب لك سيارة تا**ي، لن تقود إلى المنزل وأنت على هذا الحال." ومع انهائه كلامه أخرج من جيبه هاتفه وشرع بطلب سيارة أجرة عبر أحد التطبيقات المعروفة، أما فينسنت سكب لنفسه كوب حليب أخر ومن جيبه تناول قرصان ابتلعهما سويًا، ومن دون النظر إلى سيمون أو قول شيء نهض من مقعده العالي واتجه إلى الباب. "ڤينسنت!" لوح له ڤينسنت بيد وأغلق الباب وراءه. في الخلفيَّة كان الشباب ما يزالون يهتفون بحماس.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD