تجلس إلى مكتبها وتطالع الأوراق التي تمسك بها في تركيزٍ شديد بينما تسند رأسها على المقعد، زفرت في تعبٍ ودلكت جبينها مغمضةً عينيها.
#توليب
تن*دت فاتحةً عينيها، نظرت لساعة يدها فوجدت الساعة تشير للثانية عشر ظهرًا.
أرجعت رأسها للخلف ودلكت عنقها في تعبٍ مغمضةً عينيها، أخذت هاتفها لتعبث به قليلًا ثم عادت للعمل مجددًا.
فُتح الباب بغتةً فرفعت بصرها للباب، لتتفاجئ بربّ عملها الذي دخل في هدوءٍ وأغلق الباب خلفه وأتجه نحوها قائلا:"مرحبًا آنسة توليب، كيف حالكِ؟!".
مدّ يده نحوها فوقفت وصافحته قائلة في هدوءٍ تخفي خلفه أستغرابها وتفاجئها من وجوده هنا:"أهلًا سيّد محمود، أنا بخير ولله الحمد، كيف حالك أنت سيدي؟، تفضل بالجلوس".
كانت ستقوم ليجلس مكانها لكنه أشار بيده أن تظل مكانها، وقد قعد على الكرسي أمام طاولة مكتبها الحائلة بينهما، ثم قال متن*دًا:"استريحي لا داعي يمكنني الجلوس هنا، لا بد وأنك مستغربة من وجودي هنا وأنني لم أطلبكِ لمكتبي، ولكنني أردت التحدث معكِ بأمر قضية مهمة جدًا جدًا".
ظلت على **تها وقد قطبت حاجبيها بخفة، وهي تنتظر ما يريد قوله في تعجب وسخرية بعض الشيء، فليس من الطبيعي على الإطلاق أمر مديرها اليوم، ذلك أنه متعالي ومغفل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لطالما عاملها وباقي زملائها بإهانة ودونية ولولا أن أكل العيش مرّ، لكانت تركت له هذا المكتب مقدمةً إستقالتها وصافعةً إياه على كل معاملةٍ سيئة عاملها بها، ولكن هذه فرصة لا تعوض والراتب جيد وهي لا تريد التشرد وأخيها، لذلك تعامله بإحترام.
أخذ السيد محمود نفسًا عميقًا قبل أن يقول في توترٍ معيدًا توليب من شرودها في أمره:"لن أكذب عليكِ توليب، وسأكون صريحًا معكِ منذ البداية، إن القضية التي أريد منك استلامها قد تكون معقدة وصعبة قليلا، ولكني واثق من كفائتك وأنكِ ستكونين لها، أهم شيء أن لا نضع للفشل إحتمالات".
نظرت له في دهشةٍ من الغموض الذي يتحدث به، سرعان ما اعتدلت في جلستها، حتى يتسنى لها فهم وإستيعاب مغزى حديثه، فقالت بتحفزٍ مركزة جميع حواسها على ما يريد إيصاله:"شكرا لإطرائك سيد محمود، وأعدك أن أبذل ما بوسعي، ولكن أرجو أن تزودني بمعلومات أكثر عن هذه القضية".
أبتلع ريقه قبل أن يشبك أصابعه، ويعتدل هو الآخر في جلسته قائلًا بتمهل لإفهامها خطورة الوضع:"مبدئيًا القضية التي ستتوكلينها يتحتم عليك السفر لأجلها إذ أن المتهم خارج البلاد، أما بالنسبة للمتهم نفسه والذي ستدافعين عنه في قاعة المحكمة، هو شخص متهم بإرتكاب عدة جرائم قتل متعمد، ومشتبه به أنه قاتل مأجور يعمل لدى المافيا، زيادة على أنه رجل أعمال مشهور وله وزنه، ومن أهم عملائنا حتى الآن، مهمتك أن تقنعي المحكمة وهيئة المحلفين أنه حدث إلتباس وأن المتهم بريء من جميع التهم الموجهة له بأي شكل كان، ولك صلاحية إستخدام جميع الطرق الممكنة لتبرئة السيد".
إبتسامة جانبية أرتسمت على ثغرها، وهي تدور مغزى كلماته في عقلها، لتقول له بعد لحظة **ت وبصوت رزين جاد:"سيد محمود..عملت في المكتبة سنة كاملة وقد قبلت للعمل بجدارتي، ونجحت في معظم المهام التي وكلت لي ولكن بمبادئ المهنة وضمير إنساني، فما يبدو لي أن التهم الموجه ل "السيد" شبه مؤكدة عليه أي أنه "مجرم" وأنا مهمتي تطبيق العدل والدفاع عن المظلومين، وعلاوة على ذلك لدي أخ وحيد لا يمكنني السفر وتركه، وعليه..فإني سأرفض بإحترام هذه القضية، لذلك يمكنك المحاولة مع محامٍ آخر في المكتبة".
أبتلع ريقه قائلًا في توتر:"آنسة توليب إنك أفضل محامية لدينا، أتمنى أن تعاودي التفكير هذه فرصة لن تتكرر سنربح الكثير من وراء هذه القضية، غير المال فإن اسمنا سيلمع من بين مكاتب المحاماة الأخرى وربما نصبح الأفضل في هذا المجال، أرجوك فكري بالموضوع بتمعن".
حدقت به ببرود ولامبالاة قائلة وهي تض*ب القلم على الطاولة يإيقاع رتيب، مرجعة ظهرها للخلف بأريحية:"آسفة يا سيدي ولكني أكرر رفضي، يمكنك أن تغري غيري بهذه الماديات أنا لن أدافع عن مجرم أين كان".
كان يحدق بها بنظرات راجية موافقتها، ولكن ما إن انهت كلامها حتى تحولت لأخرى باردة وقاسية، قائلا بنبرة هادئة تحمل بين طياتها الكثير من الخبث والمكر وهو يرفع حاجبه متربصا ردة فعلها:"آنستي يبدو أنني يجب أن أوضح لك الأمر أكثر، إن مسيرتكِ المهنية على المحك فيما يتعلق بهذه القضية، ودون مقدمات إما الموافقة أو الطرد، ولتُريني وقتها كيف ستتكفلين بمصاريفكِ وشقيقكِ، هذا دون الديون التي تدينين بها لصاحب الشقة ولا ننسى قرض السيارة، ودعيني أخبركِ أن السيد الذي تتحدثين عنه شخص خطير وصدقيني لن يسره سماع رفض قضيته منك، خصوصا أنني سبق وأخبرته ومدير أعماله بتوليكِ لقضيته كونكِ أفضل محامية نملكها، فلكِ أن تتخيلي ماذا بإستطاعة رجل مثله فعله بك و..بأخيك فقد يؤذيكما..لا سمح الله".
كان يكذب، لم يذكر اسمها لأحد، كل ما في الأمر أنه أراد الضغط عليها أكثر وإخافتها علّها توافق، ليس لأنها الأفضل فحسب، بل أنه يعلم بأوضاعها وأنه لا أحد وراء ظهرها، ربما حتى تموت بسببها وإن حدث فلن يسأل عنها أحد أو يهتم، شقيقها ربما وحينها سيلفق أي حادث لها وانتهينا، المهمة خطيرة وتتطلب ذكاء وسرية وربما حتى قذارة وذلك لأنه ليس أمامهم سوى النجاح في هذه القضية تحديدًا، بارعة وحيدة وضعيفة، بالتأكيد ستحافظ على السرية لألا يصاب أخيها بضرر، إنها حتما الهدف الممتاز.
كانت مركزة ظاهريا على القلم بين يديها، بينما داخلها يحترق من الغضب وأسنانها تحتك بشراسة، وقد ظلت على حالتها الهادئة وعينيها تنظر ليدها الممسكة بالقلم، حتى وصل لآخر حديثه فرفعت بصرها في حدة ودقة وهي تخترق عمق عينيه، قائلة ولم تتحرك عضلة من جسمها، وقسماتها جامدة:"هل حضرتك تهددني؟".
ببساطة محركا يديه، قال:"بل أوضح لك جميع الإحتمالات الممكنة".
"إحتمال رفضي!".
>.
هزت رأسها متطلعة للحقير أمامها بنظرات ضيّقة لو كانت تقتل لأصبح جثة هامدة، حسنا هي غاضبة وعندما أقولها فأنا أعنيها حقا، نار مستعرة تتآكلها ويديها تحكانها لتخنقه غارسة أظافرها في رقبته المترهلة.
تشجنت عضلات جسمها وفكاها يصطكان، بللت شفتيها واضعة يدها تحت ذقنها وهي تنظر في نقطة وهمية محاولة السيطرة على أعصابها، أخذت نفسا لعلّ نار ص*رها تخمد، وأخذت تفكر، هي ليست غ*ية، نعم تعمل بأخلاق المهنة ولا تخالف مبادئها، ولكنها لن تتخذ قرارا سريعا قد يؤدي بها وأخيها للشارع، لنفهم الأمر، إذا رفضت ستطرد وعندها ستحتاج لوقت لإيجاد عمل..هذا إن وجدته أصلا بعد أن يكتب في سجلها أنها مطرودة من مكتب جيد كهذا، وهي تحتاج للمال كحاجتها للماء فكما سبق وذكر الحثالة لديها ديون بقدر شعر رأسها، هذا غير طبعا -وللسخرية- أن حياتها مهددة وشقيقها، إذا قبلت فقد وقعت في مشكلة لا تقل عن سابقتها بالخطورة، فليس أمامها سوى النجاح، تجارب الحياة أ**بتها خبرة تعرف من خلالها أن هذا القاتل المختل المخنث قد يقتلها إن لم تنجح، هذا علاوة أنها ستكون خالفت القيم والأخلاق التي تربت عليها.
أفاقت من شرودها على صوت محمود الذي وقف مائلًا نحوها وهمس في برودةٍ:"فكري بالموضوع جيدًا آنسة توليب..لأن حياتكِ وعملكِ وحتى أخيكِ..على المحك!".
ودّت لو تقف الآن وتقتلع ل**نه وت**ر جمجمته، ولكن فضلًا عن ذلك رمقته بنظرة شرسة تحوي عن ما تفكر به، فابتسم محمود إبتسامةً خبيثة، ثم أعتدل واقفًا ليرمقها بنظرةٍ ذات مغزى ثم يتجه نحو الباب ليخرج تاركًا ورائه بركانًا على وشك الإنفجار.
تن*دت مغمضةً عينيها بعد خروجه ولم تشعر بدموعها التي بللت خديها رغمًا عنها، لقد حاولت ألا تبيّن ضعفها أو خوفها أمامه لكي لا يستخدم ذلك ضدها، ولكنها رغم قوتها تلك لم تستطع أن تكبت شعورها بالرهبة..ليس على نفسها أو حياتها وإنما على أخيها!.
____