وفي اليوم التالي نهضت الأسرة مبكرا, وكالعادة أعدت الأم الفطار وجلسوا جميعا حول طاولة الطعام ككل يوم باستثناء ذلك الضيف الجديد الذي لا يعلمون عنه سوى أنه يدعى دي دي التي بدأت تعتاد على وجودها في قلب تلك الأسرة الصغيرة كما لاحظ مازن مقدار تبدل حال والدته التي لم تعرف السعادة الحقيقية طريقا إلى قلبها بعد وفاة أخته الصغيرة إلا منذ أن حضرت تلك الفتاة.
وبعد تناول وجبة الافطار ذهب كل في طريقه, محمود إلى ورشته,ومازن إلى مدرسته, أما عفاف فظلت مع الفتاة تلاعبها وهي في قمة السعادة.
*************
وفي المدرسة وتحديدا في أحد الفصول جلس مازن بالخلف في مقعده المعتاد الذي لا يشاركه فيه أحد, ذهنه مشغول بالحديث الذي قاله له والده وهما في المسجد وقد قرر أن يعمل بنصيحته لذلك كانت عينيه تجوب الفصل وتتفرس في كل زملائه لينتقي منهم صديقا بتلك الصفات التي أخبره عنها والده إلى أن وقعت عيناه على ذلك الطالب الذي وقف ليجيب أحد الأسئلة التي طرحها عليهم المدرس, هو على علم مسبق بمدى تفوق ذلك الطالب بل إنه كان يسكن في أحد الأحياء القريبة من المنطقة التي يسكن فيها مازن ولكن بالطبع فطبيعة مازن لم تسمح له بمعرفة الكثير عن هذا الفتى فقرر أن يتابعه من وقت لآخر وبالفعل فقبل انتهاء اليوم الدراسي أعجبته شخصيته فبدا أنه محافظ على الصلاه حيث رآه في وقت الفسحة يدخل المسجد ويؤدي فريضة الظهر مثله, كما لاحظ أن معلوماته الدينية لا بأس بها وقد ظهر ذلك جليا في حصة التربية الإسلامية يتناقش مع المدرس وكأنه أحد دارسي الفقه, إلى جانب تفوقه في باقي المواد الأخرى بالطبع, وفي النهاية قرر مازن أن يتعرف على ذلك الطالب المدعو عبدالرحمن ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ حسنا! فهناك طريقة واحدة يمكنه بها أن ينفذ خطته, وقبل بدء الحصة الأخيرة توجه مازن إلى مقعد عبدالرحمن مترددا بعض الشيء إلى أن وقف أمامه وقد استجمع شجاعته وهو يقول له: لو سمحت معاك قلم زيادة؟
وبعد لحظات قليلة من الاندهاش ابتسم له عبدالرحمن وأخرج من حقيبته قلما أعطاه إياه: اتفضل.
أخذ مازن منه القلم وعاد مرة أخرى إلى مقعده وهو يشعر بعيني عبدالرحمن تتبعانه وهذا بالفعل ما أراده.
وجاء وقت الخروج من المدرسة فذهب مازن مجددا إلى عبدالرحمن ليعيد إليه القلم وهو يقول بابتسامة امتنان حقيقية: متشكر أوي يا عبدالرحمن.
عبدالرحمن بابتسامته المعتادة التي لاحظ مازن أنها لا تفارق وجهه إلا نادرا: خليه معاك أنا معايا غيره.
مازن رافضا عرضه بتهذيب: لا, متشكر, احنا خلاص مروحين وأنا مش محتاجله.
وبعد إصراره لم يجد عبدالرحمن بد من أن يستعيد القلم, ثم كان اقتراحه الذي راق مازن كثيرا: انت مش مروح؟ طيب ما تيجي نروح مع بعض ماحنا من نفس المنطقة تقريبا.
مازن مبتسما: اوك, ياللا بينا.
وبالفعل خرجا سويا ترمقهما نظرات باقي الزملاء المليئة بالدهشة والتساؤل, وعندما وصلا إلى بوابة المدرسة استوقفه عبدالرحمن وهو يقول: معلش يا مازن, هنستنا حسام واحد صاحبي في فصل 1/2 هو بردو جارنا من نفس المنطقة واحنا متعودين نمشي مع البعض.
لم يكن في حسبان مازن أن يتعرف على صديق آخر قبل أن يختبر صداقته الأولى ولكن لا مفر من ذلك وبالفعل انتظرا قليلا إلى أن حضر حسام وبالطبع لم يتعرف عليه مازن, ولكن عبدالرحمن قد أخذ على عاتقه مهمة التعارف حيث قال لمازن بابتسامته الودودة: حسام نصرالدين زميلنا في 1/2 وساكن في الشارع اللي ورايا, وعلى طول بنذاكر في بيته عشان معندوش أخوات بنات, فبنكون على راحتنا أكتر وكمان أخوه كلية هندسة وساعات بيساعدنا في المذاكرة.
ثم استطرد ليقول لحسام: ودة بقا يا سيدي.
فقاطعه حسام مازحا: مازن محمود الشرقاوي, عيب عليك يا شيخ عبدالرحمن, دة احنا حتى جيران, بس غريبة يعني إيه لم الشامي ع المغربي؟ كلنا عارفين ان مازن دايما قاعد لوحده في برجه العاجي, إيه اللي خلاه مرة واحدة كدة ينزل ويتعامل مع عامة الشعب اللي زينا؟
فشعر مازن بالإحراج الشديد ليس من كلام حسام وحسب ولكن أيضا من تلك الفكرة البغيضة التي كونها معظم الطلبة عنه, فقال وهم يهم بتركهما: طيب عن اذنكم أنا.
ولكن أمسكه عبدالرحمن من ساعده وهو يقول: على فين يا مازن؟ مش اتفقنا اننا هنروح مع بعض ولا انت زعلت من هزار حسام؟
ثم وجه حديثه إلى حسام قائلا بصرامة: اعتذرله يا حسام.
حسام معترضا: يا عم انا كنت بهزر.
عبدالرحمن مصرا: حسام انت غلطت فيه ولازم تعتذرله وما تنساش ان مازن لسة ما يعرفكش ولا فاهم هزارك.
بدا ذلك المشهد لمازن وكـأنهما الأب يعنف إبنه على خطأ ارتكبه, ثم رأى حسام يطيع الأمر ويعتذر له كما طلب منه عبدالرحمن ولكن على طريقته فانحنى قليلا مستعرضا ثم نزع تلك القبعة الوهمية عن رأسه وهو يقول بتهذيب مبطن بالسخرية: آسفين يا سمو الأمير.
لاحظ مازن تلك النظرة النارية في عيني عبدالرحمن والتي كانت من نصيب حسام ولكن قرر أن يتجاهلها خاصة عندما اعتذر له عبدالرحمن ايضا بالنيابة عن صديقه: معلش يا مازن, هو حسام دايما كدة على طول بيهزر وبيحب التمثيل ماهو مشترك في فرقة المسرح اللي في المدرسة.
قبل مازن اعتذارهما, وبينما وهم في الطريق استطاع أن يجمع المزيد من المعلومات عنهما فعبدالرحمن هو ابن الشيخ سليم إمام الجامع بمنطقتهم ولديه أخت أصغر منهم بثلاث سنوات, أما عن حسام فوالده يعمل محاميا, ولديه أخ واحد في كلية الهندسة الميكانيكية.
وقد استطاع حسام بفكاهاته التي لاتنتهي أن يضفي جوا من المرح على صحبتهم لم يختبره مازن من قبل وكان من ضمن الحوار الذي دار بينهم أن سأله حسام: بس احنا سمعنا يا ميزو انك بتلعب كاراتيه,مش كدة؟
مازن متعجبا: ميزو؟
فابتسم حسام موضحا: مش انت اسمك مازن؟ يبقا ميزو, زي عبدالرحمن ما بقوله يا عبده.
فرد عليه مازن بابتسامة مماثلة: طيب وانت بقا المفروض نقولك ايه؟
حسام بفخر: أنا حس.
مازن ضاحكا: ماشي يا سي حس, وانا فعلا بلعب كاراتيه.
حسام مشا**ا: طيب ما تورينا شوية حركات من بتوعكم.
كلامه أضحك كل من مازن وعبدالرحمن للحظات متواصلة إلى أن استطاع عبدالرحمن أن يتمالك نفسه ويسأله: يوريهالك ازاي يعني؟ تحب يض*بك مثلا؟
حسام على الفور: لا يا عم بعد الشر, انا قصدي يعني انه يختار اي واحد في الشارع يتخانق معاه ويض*به.
فتعجب مازن من اقتراحه وسأله: اتخانق معاه ازاي يعني؟ كدة من غير سبب؟
حسام: لو مش عاوز تبدأ انت يا سيدي انا ممكن أروح أعمل مشكلة مع أي حد وانت طبعا لأنك صاحبي هتيجي تدافع عني.
وهنا تحدث عبدالرحمن قائلا بتعنيف لصديقه: ايه اللي انت بتقوله دة يابني؟ ما تعقل شوية بقا يا حس.
مازن: ع العموم يا حسام لو عاوز تشوفني وأنا بتمرن ممكن تبقا تيجي معايا الجيم بس طبعا بعد الامتحانات لأني مش بروح دلوقت.
لم يبد على حسام الاقتناع التام ولكنه أذعن لرغبته قائلا: ماشي.
وبعد لحظات قليلة لمعت فكرة في عقل مازن قرر تنفيذها على الفور فقال لهما: يا جماعة احنا قربنا من ورشة الموبيليا بتاع بابا, ممكن بس نعدي عليه أشوف إذا كان محتاج مني حاجة ولا لا قبل ما أروح؟
انتظر مازن أن يسمع منهما كلمات الرفض في البداية, ولكنهما ع** توقعاته أجابا في صوت واحد: ماشي.
***********************
وفي الورشة جلس محمود مع صديقه فؤاد الذي قال بتأثر: لا حول ولا قوة إلا بالله, معقول الاهمال يوصل لحد كدة؟ طيب والبنت عاملة إيه؟
محمود: الحمد لله كويسة بس طبعا لسة مستغربانا وبتتعامل معانا بحذر, لكن أم مازن واخدة بالها منها.
فؤاد: ربنا يباركلها ويعوضها خير.
بدا محمود مترددا قليلا إلى أن حسم أمره وقرر أن يبوح لصديقه بما يقلقه فهو دائما كاتم أسراره والناصح له في أغلب مشاكله فالخمس سنوات الفرق بينهما جعلته يعتبره أخ كبير وليس فقط مجرد صديق: والله يا فؤاد, أنا خايف إن عفاف تتعلق بالبنت أكتر من كدة وخصوصا إنها تقريبا في عمر هدى الله يرحمها, فأكيد بتفكرها بيها.
فؤاد: ودة يقلقك في ايه يعني؟
محمود: لأنها لو اتعلقت بيها أكتر من كدة هيبقا صعب عليها أوي انها تفارقها, ولما نوصل لأهلها وترجع ليهم عفاف ممكن تتصدم تاني, والمرادي الله أعلم بقا باللي ممكن يحصل, انت ناسي ان الدكتور بعد وفاة هدى حذرنا من انها تتعرض لأي صدمات تاني؟
حاول فؤاد طمئنة صديقه وهو يربت على كتفه: ربنا ما يجيب حاجة وحشة يا محمود, ارمي حمولك على الله وهو عمره ما هيخذلك.
محمود: ونعم بالله!
فؤاد مشيرا إلى الطريق أمامه: مش دة مازن ابنك؟
فاتجه محمود بنظره إلى حيث يشير وقد اعتلت الابتسامة وجهه: اه هو.
فؤاد مندهشا: بس مين دول اللي معاه؟ أنا عمري ما شفت ابنك بيمشي مع حد.
لم يشبع محمود فضول صديقه بل انتظر حتى اقترب منهما مازن ورفيقاه: السلام عليكم.
محمود وفؤاد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
محمود متصنعا الجدية بطريقة فهمها ابنه: خير يا مازن فيه حاجة؟ ومين دول يابني؟
مازن: دول زمايلي يا بابا في المدرسة, دة عبدالرحمن ابن الشيخ سليم إمام الجامع, ودة حسام ابن الاستاذ نصرالله المحامي.
بالطبع كان تعريف مازن مختصرا لأنه يعلم أن والده على علاقة جيدة بكل جيرانه وبالتأكيد فلن يصعب عليه التعرف عليهما, وبالفعل قال لهما محمود مرحبا: ازيكم يا شباب, عاملين ايه؟
عبدالرحمن وحسام: الحمدلله.
محمود: انتو الاتنين مع مازن في نفس الفصل؟
عبدالرحمن بتهذيب: لا يا عمي, انا ومازن في فصل واحد بس حسام في فصل تاني.
محمود: طيب وعاملين ايه في المذاكرة بقا؟
فأسرع حسام يقول بحماس: مية مية يا عمي, وان شاء الله زي كل سنة من العشرة الأواخر, قصدي الأوائل.
فضحك محمود وصديقه فؤاد بصوت مرتفع من مزاحه, ثم قال لهما فؤاد بنظرة إعجاب: ربنا يحميكم ويوفقكم يا شباب.
الجميع: يارب.
ثم قال مازن لأبيه: طب مش عاوز حاجة يا بابا؟
محمود: لا يا مازن, ربنا يبارك فيك يابني, روح انت عشان ماما ما تقلقش من تأخيرك.
مازن: حاضر يا بابا, سلام عليكم.
محمود وفؤاد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد رحيل الأصدقاء أعاد فؤاد سؤاله السابق: من امتى يا محمود وابنك بيصاحب حد؟
محمود مبتسما وهو يقول بغموض: من النهاردة.
************************
عاد مازن إلى المنزل ووجد أمه في المطبخ كالعادة ولكنها هذه المرة كانت تتحدث مع أحدهم, فتعجب مازن من ذلك حيث قد نسي أمر تلك الزائرة الصغيرة, فلم ينتظر حتى ليتخلص من حقيبته التي خلف ظهره, ولكنه دخل المطبخ على الفور ليجد عفاف تجلس خلف الطاولة التي بالمطبخ تعد الطعام وعلى الكرسي بجوارها تجلس دي دي والتي كانت بيدها احدى الدمى الخاصة بأخته هدى وكذلك مشط صغير خاص بالأطفال وتحاول أن تصفف لتلك الدمية شعرها, وسمع أمه تقول لها مبتسمة: شاطرة يا ديدي, ياللا بقا اعمليلها ضفيرة.
فرأى الطفلة تنظر إليها في حيرة وكأنها لا تفهم ما تعنيه أمه التي وجدها تشير إلى رأس الفتاة وهي تقول لها: دي اسمها ضفيرة يا دي دي, تعرفي بقا تعملي للعروسة واحدة زيها؟
ولأول مرة يلاحظ أن شعر الفتاة قد حولته أمه لضفيرة طويلة زادت من جاذبيتها, أومأت الطفلة برأسها وبدأت تعبث ب*عر الدمية محاولة تنفيذ ما طلبته منها عفاف ولكن دون جدوى, فتركت عفاف ما بيدها و أمسكت بالدمية وهي تقول لدي دي: طيب انا هوريلك هي بتتعمل ازاي.
وبالفعل شرعت عفاف في التنفيذ شارحة الخطوات التي تقوم بها للطفلة بكل بساطة وقد علت البسمة وجه الصغيرة وبدا عليها السرور.
لم يرد مازن أن يفسد تلك اللحظات السعيدة عليهما فانسحب إلى حجرته بهدوء كما حضر بهدوء ولم ينتبه إليه أحد.
دخل حجرته و أبدل ثيابه وقد بدأ يذاكر دروسه حيث شعر برغبة قوية تدفعه إلى ذلك, ثم فجأة ظهرت أمامه صورة لذلك المشهد الذي رآه منذ قليل لوالدته مع تلك الطفلة والبسمة الي تزين ثغر كل منهما, ثم وجد نفسه لا إراديا يتمنى أن تبقى تلك الفتاة معهم الى الأبد.